"الكبة" ليست في "الصينية"!
هل يأتي يوم تختفي فيه الكوفية الفلسطينية والقبعة المكسيكية والعباءة الموريتانية والخنجر اليمني وغيرها من الرموز التي تحاول الموضة طمسها على حساب ما هو دارج وجديد؟ هل نصبح شعوباً "من دون ذوق"، لا خيار لنا ولا حرية؟ هل يعقل أن نكون جميعاً فئران تجارب لكل ما تريد الشركات تحقيقه على الأرض؟سنصبح بأشكال واحدة وبوجوه موحدة لأن شفاهنا جميعاً ستكبر وصدرونا كذلك... سنحمل "الهاتف الذكي" نفسه الذي يجبرنا أن نوافق على جميع خياراته وإلا لن يقول لنا يا welcome!
"كول على ذوقك والبس على ذوق الناس" مثل تكاد لا تخلو ذاكرة شعبية منه، وهو يعني بطريقة أو بأخرى أن بإمكانك أن تأكل السمك واللبن يطفو على وجهه، لا مشكلة لو تسممت، طالما أنك لا تقوم بـ "تشويه بصر" أيّ كان، لكنك لا تستطيع أن ترتدي ثياباً موشحة باللون الأخضر بما أن "الدارج" اليوم هو الأصفر، فأنت بهذا تثير حساسية عشاق كل ما هو جديد، وتقلق بال الشركات، ولا تلتحق بركب التطور في مجتمعك "السينيه" وربما تخدش الذوق العام.. من يدري!
الموضة ليست حكراً على الألبسة. يدها طالت الأبنية والبيوت وطريقة تسمية الأشياء وقواعد الكلام حتى! بات من غير اللائق أن تدخل مطعماً ولا تكون ملماً بأسماء الأطباق المقدّمة فيه، حتى لو كان لكل مطعم "مانيو" خاصة به، يرسمها الطباخ المبدع وتحوي لائحة أطعمة، لا غربية ولا شرقية، عليك أن تفك الشيفرة أو أن تطلب من النادل (على مضض) أن يشرح لك اللوحة الزيتية التي تنوي أن تتناولها، احتمال كبير أن تغامر بطعام العشاء وتمضي جائعاً إذا كان الطبق مخالفاً للتوقعات! في مطعم ما - على سبيل المثال - كان الطبق "الإغريقي" المسمى "كول مندور" هو طبق "الكبة بصنيه" نفسه الذي نعرفه. تخيل البساطة، حتى الكبة بصنية التي كان اسمها يشرح لك ما هي وكيف تصنع، تغيرت!
كان الإنسان يشعر سابقاً بضعف جسده أمام الطبيعة الأم، ويحاول أن يقيه بما تيسر من الألبسة، والمشهور أن شجرة التوت هي أول ما غطى به نفسه، ومن ثم اهتدى الى الخيط وتعلّم الخياطة واكتسب فنها ثم لوّن القماش. وترتبت الألبسة لاحقاً بحسب "الطبقات الاجتماعية". الحكام مثلاً ارتدوا اللباس الفاخر لـ "تضخيم شخصياتهم"، فيما عمد رجال الدين إلى اللباس المتواضع المحتشم الدي يضفي على شخصية صاحبه نوعاً من الهيبة "المفتعلة"، وعبّر كل لباس عن شخصية الفرد ومهنته ومكانته التي يمتلكها أو التي يحاول امتلاكها.
لا شك أن الموضة فن وحرفة، وأن الزي الذي يختاره الإنسان دليل واضح على الدور الذي يريد أن يلعبه في المجتمع. أصبحت بعض الثياب تشكل حالة إلهام من خلال طبع الكلمات والحكم عليها، لا أحد ينسى الجملة الشهيرة التي أطلقها الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما (yes we can) والتي شكلت إلهاماً للشباب الأميركي الأسمر على وجه الخصوص. تعدّت مسألة الموضة حاجات الإنسان الضرورية إذاً، وأصبحت العادات والأعراف السائدة لأي بلد تنحصر أمام الهجوم الكبير للعولمة التي تحاول "توحّيد العالم"، فقد خلع الشاب العربي العباءة لحساب الجينز وخلعت المرأة الهندية الساري والمرأة اليابانية الكيمونو وتخلى "الماساي" الشرق إفريقي عن زيه كله.
هل مسألة توحيد الأذواق حالة طبيعية بحكم التقدم الحاصل؟ أم أن الموضة ستدفن لاحقاً هوية الشعوب؟ هل يأتي يوم تختفي فيه الكوفية الفلسطينية أيضاً؟ والقبعة المكسيكية والعباءة الموريتانية والخنجر اليمني.. وغيرها من الرموز التي تحاول الموضة طمسها على حساب ما هو دارج وجديد؟
هل نصدق المقولة التي قالها بعض علماء علم الاجتماع في القرن التاسع عشر بأن "الإنسان يمثل شيئاً يمكن أن نفعل به ما نشاء"؟ هل يصبح الإنسان شيئاً؟ ويصل به الحال أن يكون "مادة" دونما "روح"؟ لا شكَّ أن الكائن الذي يخسر من جوهره يحاول جاهداً أن يعوِّض ولو بما تيسر له من ملابس وأناقة، وقد برزت الكثير من الأقاويل والحكم التي تحذر من تلخيص الآخر من خلال مظهره، لعل أشهرها ليس كل ما يلمع ذهباً أو المثل الفرنسي "القميص لا يصنع القسيس".
الخطر الأدهى الذي تهدد به الموضة مرتاديها هو أن يصبحوا شعوباً "من دون ذوق"، لا خيار لهم، وبالتالي لا حرية. سيشكلون مع الأيام فئران تجارب لكل ما تريد الشركات تحقيقه على الأرض. سنصبح بأشكال واحدة وبوجوه موحدة لأن شفاهنا جميعاً ستكبر وصدرونا كذلك! سنحمل "الهاتف الذكي" نفسه الذي يجبرنا أن نوافق على جميع خياراته وإلا لن يقول لنا يا welcome!
ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]