في الذكرى الثامنة لوفاة الطاهر وطّار
في بداية مشواره الأدبي فشل الطاهر وطّار في أن يكون شاعراً. يقول وطّار "إن الشعر الذي بدأت أكتبه في مطلع الخمسينات كان مجرّد كلمات مصفوفة وشبه قافية، وأدركت بسرعة أنها كانت تمثل كل شيء إلا الشعر".
أول مرة سمعت باسم الطاهر وطّار عندما حكى لي صديقي الشاعر عن قصة "الشهداء يعودون هذا الأسبوع" التي تتحدّث عن مصير الشهداء ومستقبل عوائلهم.
ولأني أهتم بالشهداء وأدبيّاتهم دفعتني لغة صديقي الشاعر للتفتيش عن أدب الطاهر وطّار الذي سُرعان ما تأسرك رواياته التي استلهم وقائعها وشخصياتها من رحم التاريخ الجزائري وبالأخص قصته الرائعة" الشهداء يعودون هذا الأسبوع" التي تتحدّث عن تلقّي عمّ العابد بن مسعود رسالة غامضة ومُقتضبة مفادها أن "الشهداء يعودون هذا الأسبوع"، وهي أداة يستخدمها الكاتب ليقدّم كشف حساب للذين قاتلوا وفقدوا حياتهم عما آل إليه وطنهم بعد الاستقلال، فيجدون الانتهازية والفساد ومدّعي النضال يحصلون على امتيازات مقابل شيء لم يقدّموه، وسوء استغلال السلطة وخيانة مبادئها.
صحيح أن الروائيين الجزائريين الأوائل الذي كتبوا باللغة الفرنسية، وأصبحت أعمالهم موضوعاً للكثير من الدراسات والأبحاث الأكاديمية والنقدية، ومحوراً للكثير من اللقاءات والندوات المحلية والدولية، وعلى رأسهم محمّد ديب صاحب ثلاثية " الدار" ومالك حداد صاحب " الانطباع الأخير" وكاتب ياسين صاحب "نجمة" أكّدوا قوّة الرواية الجزائرية وقوّة سرديّتها وسحر نصّها، إلا أن الطاهر وطّار إلى جانب صديقه صاحب رائعة "ريح الجنوب" عبد الحميد هدوقه ساهما في ترسيخ الرواية الجزائرية باللغة العربية.
في بداية مشواره الأدبي فشل الطاهر وطّار في أن يكون شاعراً. يقول وطّار "إن الشعر الذي بدأت أكتبه في مطلع الخمسينات كان مجرّد كلمات مصفوفة وشبه قافية، وأدركت بسرعة أنها كانت تمثل كل شيء إلا الشعر، ولم أفشل في المقاربة الشعرية العمودية التقليدية فحسب، بل لم أوّفق أيضاً في كتابة النثر الذي حاولت تجريبه في صيف 1954، وكان لابد لي تحت وطأة روح التعبير عما كان يختلج في أعماقي من إيجاد القالب الأدبي الأقرب إلى مزاجي وأفكاري".
ولِدَ وطّار عام 1936 لأسرة بربريّة في ولاية سوق أهراس شرق الجزائر. عام 1950، التحق بمدرسة تابعة لـ«جمعية العُلماء المسلمين»، ثمّ أرسله والده إلى قسطنطينة للدراسة في معهد الإمام عبد الحميد بن باديس، إلا أنه عجز عن الكتابة باللغة العربية - فسافر إلى تونس ، والتحق بجامع الزيتونة عام 1955.
ومن لحظة وصوله إلى تونس فرَضَ نفسه على الساحة الأدبية. و فتحت له قصة "الحب الضائع" ونشرها في "جريدة الصباح" الطريق نحو الشهرة. ويقول وطّار عن انطلاقته التي بدأ فيها قاصّاً ومن ثم تحوّله إلى روائي "إن القصة التي وجدت فيها ضالّتي الأدبية هي التي مهّدت لي الطريق لاقتحام عالم الرواية بقوّة ، إلى الحد الذي مكّنني من مُزاحمة الكتّاب التونسيين الذين كانوا ينشرون في الصحف والمجلات الأدبية المختلفة". ويُضيف بأن "الثورة الجزائرية التي هزّت العالم بوجهٍ عام والعالم العربي والإسلامي بوجهٍ خاص، كانت عاملاً أساسياً في كتابته لمجموعات قصصية أخرى دارت حولها".
بعد تركه لتونس التحق بصفوف الثورة الجزائرية، و«جبهة التحرير الوطني» عام 1956، حيث بقي يحتلّ منصب «مراقب سياسي» حتّى عام 1984 تاريخ إحالته على المعاش وهو في السابعة والأربعين بإيعاز من العسكر بسبب قصّة قصيرة نشرها سنة 1984 في مجلة «الآداب» البيروتية بعنوان «الزنجية والضابط»، لم يتقبّل إبعاده عن المسؤولية الحزبية، فقرّر الانتحار. لكن ديواناً شعرياً لفرنسيس كومب وضعته الأقدار في طريقه سيطرد الفكرة من رأسه. ويعكف على ترجمة ديوان «الربيع الأزرق".
عمل الطاهر وطار في الصحافة، وأسّس عام 1962 في قسطنطينة، أول أسبوعية في الجزائر المستقلّة بعنوان «الأحرار». لكن السلطات أغلقتها. المصير نفسه ستلقاه أسبوعية «الجماهير» في الجزائر العاصمة بعد عام... ثم أسبوعية «الشعب» التابعة لجريدة الشعب (1973) التي أُوقِفَت بعد تحوّلها منبراً للمثقّفين اليساريين. وقد شهدت السبعينات توتّراً في العلاقة بين نظام الهواري بومدين، وصاحب " الشهداء يعودون هذا الأسبوع"على خلفيّة كتابات هذا الأخير. إلى جانب نضاله السياسي الإشكالي، كرّس حياته للعمل الثقافي التطوّعي، فأسّس جمعية «الجاحظية» عام 1989، التي تحمل شعار "لا إكراه في الرأي" مع الشاعر يوسف سبتي، الذي ذبحه الإرهابيون عام1994.
أنجز ثلاث مجموعات قصصية أولها عام 1961 «دخان من قلبي»... له في المسرح عملان صدرا في مجلة «الفكر» التونسيّة أواخر الخمسينات وهما «على الضفة الأخرى»، و"الهارب".
ويُعتبر الطاهر وطّار الأكثر جرأة بين أدباء الجزائر في مواجهة مواضيع المرحلة الساخنة، واستطاع عبر أعماله رسم ملامح الشخصية الجزائرية أثناء ثورة التحرير وبعد الاستقلال. فتطرّق في روايته التي اشتهرت :«اللاز» التي صدرت عام 1974. لجزائر ما بعد الاستقلال. ورصدَ تناقضات الثورة الوطنية الجزائرية. فكثيرون حملوا السلاح لمقاومة المستعمر الفرنسي، إسلاميون وشيوعيون وثوّار من دون أيديولوجيا غير الحسّ الوطني، جزائريون وأمميون، ولكنهم وإن التقوا على الهدف الأكبر إلا أنهم اختلفوا على الكثير، ووصلت خلافاتهم حد التصفية الجسدية "للعدو الأيديولوجي".
هذا "البطل اللاز" غاب تدريجاً عن أحداث الرواية منذ منتصفها تقريباً، ليعود في ما بعد وقد فقد وعيه بتأثير الصدمة التي سبّبها له ذبح والده الشيوعي "زيدان" أمام ناظريه، بعد أن رفض التنكّر لمبادئه.
وفي روايته: «الزلزال»1974 راقب التحوّلات الزراعية للبلد، وعاين الصِدام العميق بين الثورة والمناوئين لها، ويؤكّد وطّار " أنه لولا رواية الزلزال لما اعتبره بعض النقّاد مؤرّخا ومفكّراً يمكن العودة إليه لفهم العشرية الدموية التي عرفتها الجزائر وتفهّم الإسلاميين الذين يعدّون نتيجة طبيعية لمسار تاريخي حمل بين طيّاته بذور الزلزال الاجتماعي والسياسي".
ويقول "إن روايتي الزلزال التي يفضّلها الكثيرون كانت نبوءة أكدت سلامة حدسي وعُمق فحصي لديمومة ومسار المجتمع الجزائري الذي عرفته من خلال مئات القرى والمدن والبوادي التي زرتها، وليس في الأبراج العاجية".
ويحاول في «العشق والموت في الزمن الحراشي» (1982) التأريخ لمرحلة الثورة الزراعية والتسيير الاشتراكي للمؤسّسات. ثم نشر روايتين «غير سياسيتين»: عالج في «الحوات والقصر» (1975) بأسلوبه الأسطوري غياب العدل وحاشية الحاكم التي تؤدّي إلى الفساد، وفي رواية "عرس بغل" 1978 يعود إلى الماضي للبحث عن حل لمشكلات الحاضر، ويفضح التاريخ الرسمي "للدولة الإسلامية"، والتذكير بما عرفته من حركات انتفضت على الإسلام المؤسّساتي المُهادن. ويتناول في «تجربة في العشق» (1989) إيديولوجيا البورجوازية الصغيرة القائمة على الازدواجيّة. وفي رواية "الشمعة والدهاليز" عام 1996 يقدم صورة عن الإنسان والمجتمع الجزائري في بداية التسعينات والظروف النفسية، وأدّى في النهاية إلى سيل الدماء الذي جرف الجزائر، وللوطّار روايات أخرى: «الوليّ الطاهر يعود إلى مقامه الزكي» (1999)، و «الوليّ الطاهر يرفع يديه بالدعاء»، ثمّ «قصيد في التذلّل» وهي آخر رواية له والتي تتناول «مسار اليسار في الجزائر وثنائية الثقافي والسياسي، وكيف يسعى الثاني إلى تدجين الأول». ولا يبخل بالهجاء على الشعراء والمُثقّفين الذين استهوتهم إغراءات السلطة.
حاز وطّار على «جائزة الشارقة لخدمة الثقافة العربية» التي تمنحها «الأونيسكو» (2005)، و«جائزة العويس». بعدما ألمّ به المرض، أمضى فترات علاج في باريس في العامين الماضيين. لكنّه لم يتوقّف عن إثارة النقاش في بلاده. وكان معروفاً بدفاعه الشرس عن الثقافة العربيّة.
توفّى وطار يوم 12 آب/أغسطس 2010 عن عُمرٍ يناهز الأربع وسبعين سنة بعد مرض أجبره على التنقّل بين الجزائر وفرنسا دام عدّة أشهر، ويُلقّب وطّار بـ"أبو الرواية الجزائرية"، و"أحد أكبر أمراء الرواية العربية والعالمية".
ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]