بيت الشَعر الرّقاويّ ضرب أطنابه في حماه

مشكلة أهل الرقة، أنهم شبعوا مما تتناقله الأخبار عنهم، وأصبحوا بحاجة أيّ شيء رقاويّ يجلون به صدأ أيامهم: لوحة، أغنية، رقصة، لقاء، وقد حققت لهم مديرية ثقافة الرقة في حماه تلك الأمنيات دفعة واحدة، على مدى خمسة أيام.

عنوان هذا النص ليس مجازيّاً، فقد نصبت مديرية ثقافة الرقة "بيت شعر"* في حماه، لاستقبال جمهور فعالياتها في بيت تراثها. ولم لا؟ فالرقة إبنة البادية.

وكأن وزارة الثقافة السورية ترجم بالغيب علماً حين غيّرت اسم "مهرجان الرقة الحبيبة"، وجعلته "ملتقى الرقة الحبيبة" بين 12 و 16 آب/أغسطس الجاري. فالرقة التي تتناهبها الخرائط، والتصريحات، أصبحت أرضاً خصبة، والكل يريد أن يدفن مخاوفه فيها، إلا أهلها، ما زالوا على قيد الأمل بعودتهم إليها، وعودتها لهم. فالأوطان لا تموت بالتقادم، لأنها ليست قضية جغرافيا، وإن كانت الجغرافيا مراحها. الوطن قضية عاطفية أولاً، وفي العواطف، البقاء للأصدق، وليس للأقوى.

مشكلة أهل الرقة، أنهم شبعوا مما تتناقله الأخبار عنهم، وأصبحوا بحاجة أيّ شيء رقاويّ يجلون به صدأ أيامهم: لوحة، أغنية، رقصة، لقاء، وقد حققت لهم مديرية ثقافة الرقة في حماه تلك الأمنيات دفعة واحدة، على مدى خمسة أيام.

خمسة أيام رقاويّة (نسبة إلى الرقة) بامتياز. ليس على مستوى الفعاليات وحسب، بل على مستوى الحضور، وهذا هو الأهم. فالناس على اختلاف مستوياتهم هم الشريحة المستهدفة لأي نشاط ثقافيّ؛ أو فنيّ. وقد جاء الرقاويون من كل حارات مدينة حماه وأزقتها ليحضروا تلك الفعاليات التي حملت اسم مدينتهم، وقامت بها مديرية ثقافتهم.

في مساء الافتتاح كان يمكن رؤية الأمل منتصب القامة يمشي، وتمشي وراءه خيبة السنوات العجاف! وكذلك كيف يأخذ الفن من نفوسنا المتعبة إلى الفرح! فالفن كالحب؛ هو الحقل المعرفي الوحيد الذي يستطيع أن يعيد إلى ذاكرتنا كل ما فقدته، من خلال لحن؛ أو أغنية؛ أو لوحة. وقد حضر الفن كلوحة، والفن كأغنية؛ والفن كلحن؛ لا بل حتى الفن السابع حضر في "ملتقى الرقة الحبيبة"، فاستعادت الذاكرة الرقة، واستعادت الشفاه طعم الابتسامات، والعيون ملح الدموع.

الفعاليات بدأت في 12 آب/أغسطس عند الساعة السابعة مساء بكلمتين، الأولى ترحيبية ألقاها محمد أحمد العبدون، مدير ثقافة الرقة. والثانية كلمة راعي المهرجان. ومن ثم تم عرض فيلم قصير من إنتاج مديرية ثقافة الرقة يحمل اسم "قصة مدينة"، يحكي قصة الرقة عبر التاريخ، ويروي سيرتها في ظل القوى الظلامية. مع مشاهد للدمار الذي تعرضت له المدينة. لقد وثقت مديرية الثقافة بذلك الفيلم ما كانت عليه الرقة، وما آلت إليه، بإمكانات أكثر من بسيطة، فنيّاً، ومادياّ.

واختتم اليوم الأول بحفل فني لفرقة الرقة للفنون الشعبية. تلك الفرقة التي تأسست عام 1969 على يد الفنان إسماعيل العجيلي. آنذاك كان تراث وادي الفرات هو الحامل الموضوعي لنشاط الفرقة، فتحولت خلال أربعة عقود إلى أيقونة رقاويّة، وعلامة فارقة في قدرتها على استلهام التراث الشفوي لمحافظة الرقة خصوصاً، ولمنطقة وادي الفرات عموماً. وقد ساهم في نجاح الفرقة الكثير من مبدعي الرقة، وكتّابها، وفي مقدمتهم الأديب عبد السلام العجيلي، الذي كتب للفرقة الكثير من المسرحيات الغنائية، منها على سبيل المثال: (صيد الحباري - برج عليا - ليل البوادي - قصر البنات - حصار الثكنة). آنذاك كان أعضاء الفرقة من الشباب والبنات كلهم من الرقة، وكانت الأحلام تركض وراء عابري الرقة، وتقول: هيت لكم.

تفرّق المؤسسون؛ واستجلب مدير الفرقة شباباً وفتيات من المحافظات الأخرى، وبدل الغناء الحي لخولة حسين الحسن، وإبراهيم الأخرس صار يستخدم المسجلة، وبدل الربابة، وألحان زكي ناصيف، صار يستخدم الأورغ، فسقط اسم الفرقة عنها، ورغم ذلك احتشد الرقاويون في مدرج المسرح، آباء وأمهات، برفقة أبنائهم من كل الأعمار، لا بل البعض افترش الدرج الفاصل بين كراسي المدرجات، حين لم يجد كرسيّاً شاغراً!

قدمت الفرقة مجموعة من الرقصات، والأغاني الحية بصوت رنيم عساف، وثمة أكثر من فقرة لشاب وصبية ألقى كل منهم قصيدة شعر شعبي، في لهجة تشبه اللهجة البدوية، وليست بدوية، تلك الفقرات لم تقدم أي إضافة فنية للحفل الذي جاءت الناس لمشاهدته، إلا أنهم فرحوا بوجود تلك الفرقة التي تحمل اسم مدينتهم، وتحاول أن تستلهم من تراثها ما تستطيع أن تجسده بإمكاناتها التي أصبحت بسيطة.

إنتهى اليوم الأول بافتتاح معرض لرسومات الأطفال شارك فيه عشرات الأطفال من الرقة، وقد كان فرح الطفولة وحزن الرقة متلازمان في رسوم الأطفال، إضافة لمعرض كتاب لمنشورات وزارة الثقافة، ومعرضاً للفن التشكيلي، شارك فيه: إسماعيل العجرة؛ وسالم عكاوي؛ وسامر الصميمي؛ ومحمد الرفيّع؛ ونور الخليل؛ وإيمان جرجيس. ستة فنانين لخصوا الرقة بمعرض، هذا التلخيص الفنيّ المذهل الذي يحوّل مجموعة أحياء، أو سوقاً طولها مئات الأمتار إلى لوحة معلقة على جدار، من دون أن ينقص من المشهد الواقعي شيئاً!

أختتم الملتقى بحفل فني لكمال حميد، والمطرب الشعبي ملك اليتيم. فحضر الموال والعتابا والسويحلي والنايل والموليّه، والدبكات الرقاوية. في ذلك الحفل أدرك الحضور أن الرقة التي كتبها قلم الله، لا يستطيع أحد أن يمحوها أحد.

على هامش فعاليات الملتقى إلتقت الصفحة الثقافية في الميادين نت مدير ثقافة الرقة محمد العبدون، وسألته عن الغاية الأساسية لذلك الملتقى؟ فأجاب أن "نتائج الملتقى تجاوزت غاياته، فغاياتنا الثقافية، يمكن تحقيقها من خلال إقامة الأنشطة الثقافية، وحضور تلك الفعاليات مرهون باهتمام الناس، ذلك الاهتمام الذي انحسر كثيراً لأسباب لا مجال لذكرها الآن، كانت غاياتنا أبعد من ذلك، فأنا مدير ثقافة الرقة، والرقة منكوبة ومحتلة، وليس لديّ خيار سوى أن أجعل من مديرية الثقافة صوتاً لها، وهذا ما نحن عليه منذ أن غادرنا الرقة، وقد كانت غاية هذا الملتقى في هذا الإطار، ما حدث أن الناس أدركت أننا صوتهم، فأحبت أن تسمع هذا الصوت".

وأضاف "لقد رأيت هذا الكرنفال الذي أستطيع القول أنه استقطب كل الرقاويين الموجودين في مدينة حماه، كباراً وصغاراً، والشكر موصول لوزارة الثقافة على دعمها لنا، وعلى تغيير اسمه من مهرجان إلى ملتقى، لأننا فعلاً التقينا. فالكثير من الرجال الذي تراهم هنا ليسوا من رواد المراكز الثقافية، ومتابعة فعالياتها، وكذلك النساء والأطفال. لقد جاءوا لأن هذا الملتقى هو صوت حبيبتهم الرقة. فاكتشفوا أن استعداهم للفرح يقف بباب نفوسهم، يحتاج فقط إلى تحريض، وقد حرضه الفن وها هم يغنون ويرقصون".

*بيت الشعر، هو بيت من وبر الماعز، كانت تسكنه العرب قبل الانتقال من المجتمع الرعوي إلى المجتمع الزراعي. وما زال العرب الرُحل يستعملونه، في حلهم وترحالهم، برفقة مواشيهم.

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]