"جواري" حكمن الإمبراطورية العثمانية ونصبّن أولادهن

في العام 1553 سافر السلطان سليمان إلى فارس، واستدعى إبنه إلى خيمته، ليتم خنقه فور دخوله بمنديل من الحرير وفقاً للتقاليد العثمانية في إعدام الشخصيات المهمة.

خُرَّم عندما كانت جارية مع السلطان سليمان القانوني وحاشية القصر

الإعدام بمنديل أو حبل أبيض مصنوع من الحرير لأمير رضيع لا يتجاوز ستة أشهر، كانت البداية لسن قانون قتل الأخوة والأبناء fratricide بحجّة الحفاظ على استقرار الدولة في العهد العثماني (1299 – 1924).

سواء من خلال منديل أو حبل حريري أو سواه، فإن القتل يبقى هو نفسه. إذ طوال حياة الإمبراطورية العثمانية، إلا في مراحل زمنية قصيرة جداً، تم إعدام 60 أميراً منهم 16 بسبب ثورتهم ضد السلطان، بينما قُتل سبعة لأسباب "تعود بالفائدة"، أما البقية فلأسباب سياسية تحت مزاعم الفتنة وصراع العرش.

فقد أُعدم الأمراء العثمانيون عن طريق الخنق، حيث حظرت التقاليد التركية إراقة دماء أفراد الأسرة الحاكمة.

ولنحو 130 عاماً، بين القرنين السادس عشر والسابع عشر، كان لسلطة الحريم والجواري المحظيات عند السلطان في قصره تأثير قوي في تلك الأحداث. فتعالوا لنتعرّف على أبرز هؤلاء النساء وتاريخهن المثير للجدل.

"فضيلة السلالة العثمانية"؟

إلى جانب التاريخ الحربي لآل عثمان الذي وصل بالعائلة إلى بسط سيطرتها على مساحات شاسعة، اشتهرت الدولة العثمانية بقتل السلاطين لإخوتهم وأبنائهم لــ "ضرورات سياسية" تجنّب السقوط في حروب داخلية بسبب أطماع الأخوة في الحُكم.

وتسجّل أول عقوبة إعدام، تلك التي فرضها عثمان غازي، مؤسّس السلالة العثمانية في عام 1298، على عمه دندار بك، بتهمة تعاونه مع اللوردات الإقطاعيين البيزنطيين.

كما ظهرت أولى الإشارات التي تجيز للسلاطين قتل أخوتهم في القرن الخامس عشر، تحديداً في عهد محمّد الفاتح في البند الخاص بقتل الأخوة ضمن مجموعة القانون (نامة) والذي ينصّ على: "وأي شــخص يتــولّى الــسلطة مــن أولادي، فمــن المناســب أن يقتــل الأخــوة مــن أجــل النظــام. وأجـازه أكثـر العلمـاء فليعملـوا بـه".

تجمع الكثير من الروايات على قيام محمّد الفاتح بقتل شقيقه الرضيع الشاهزاد أحمد، من زوجة أبيه خديجة خاتون، عندما كان عُمره 6 أشهر، وذلك بعد أن نصحه بذلك بعض الوزراء خوفاً من محاولة البيزنطيّين خطف الأمير الرضيع لتنصيبه سلطاناً بعد أن يتخلّصوا من الفاتح.

وقال العالم السوري الحنبلي كرمي (المتوفى 1624):"إن إعدام الأمراء كان فضيلة السلالة العثمانية (...) لتفادي الثورة بين المسلمين أو الحرب الأهلية ووضع البلاد في المصاعب".

هرم أو خرّم.. سلطانة النفوذ

تمثل (هرم أو خرّم سلطان - Hurrem Sultan) المحظية المفضلة التي أصبحت زوجة سليمان القانوني، واحدة من أكثر النساء نفوذاً في التاريخ العثماني وشخصية بارزة ومثيرة للجدل خلال فترة عرفت باسم "سلطنة الحريم".

فقد أثّرت هرم في سياسة الإمبراطورية العثمانية من خلال زوجها الذي أحبها حباً كبيراً وكان كلما خرج للحرب يتبادل وهرم الرسائل المليئة بعبارات العشق.

يمكن القول إن السلطانة هرم قد لعبت دوراً نشطاً في شؤون الدولة، وبعض المؤرّخين يدافع عن السلطانة باعتبارها راعية للكثير من الأعمال الخيرية، ولوقوفها خلف زوجها الذي بوّأته إنجازاته موقعاً فريداً في سلسلة السلاطين، غير أن مؤرّخين آخرين يحمّلونها مسؤولية أحداث دموية وسياسية ضخمة.

إذ يتهم البعض هرم أو خرّم أو روكسلانا Roxelana بدورها في تحريض السلطان على إبنه ووليّ عهده مصطفى لإفساح الطريق لابنها سليم صوب العرش العثماني. وساعدها في ذلك زوج ابنتها محرمة، الصدر الأعظم رستم باشا، الذي انتهز فرصة قيادة مصطفى لإحدى الحملات العسكرية إلى بلاد فارس ليكاتب السلطان بأن إبنه ينوي الانقلاب عليه.

وفي عام 1553، سافر السلطان سليمان إلى فارس، واستدعى إبنه إلى خيمته، ليتم خنقه فور دخوله بخيط من الحرير وفقاً للتقاليد العثمانية في إعدام الشخصيات المهمة. وكتب سفير النمسا في بلاط سليمان القانوني، الذي ألّف كتاباً عن الدولة العثمانية طُبع عام 1633، يمتدح فيه السلطان العثماني ويعدّد مزاياه قبل أن يتطرّق إلى حادثة قتل وليّ العهد؛ فيقول: "... ولكنه كان مغرماً بزوجته وحبه المتزايد لها جعله يقتل إبنه مصطفى. وحتى هذه النقيصة تنسب عادة إلى غلبتها عليه بجمالها الخلاّب وإكسير الحب".

قاتل الشقيق وأطفاله

محمد الثالث

لم يتوقّف تأثير السلطانة هرم عند هذا الحد، بل دعمت إبنها الرابع سليم الثاني والمعروف بذكائه، في الصعود إلى العرش.

فقد عمد سليم إلى قتل بايزيد الثاني شقيقه من هرم وجميع أطفاله الصغار بالخنق عبر حرّاسه، وذلك خلال العودة إلى إسطنبول، خاصة بعد أن علم أنّ والده سليمان القانوني على مشارف الموت.

ويعتبر بايزيد المحبوب بالنسبة للانكشاريين والباشوات والمقرّب من الأمير المقتول مصطفى.

19 تابوتاً ... فداء للمُلك

أضرحة السلاطين من بينها مراد وأشقاء محمد الثالث في متحف آية صوفيا في اسطنبول

لعلّ الحادث الأبشع في حياة الأسرة العثمانيّة الحاكمة، كان ما جاء به السلطان محمّد الثالث (1595 – 1603) حفيد سليم الثاني بعد لحظاتٍ من تنصيبه، عندما أمر بتجهيز 20 قبراً، أحدهم لأبيه السلطان مراد الذي توفى، و 19 قبراً لأشقّائه الأمراء، كان من بينهم 3 رضّع و 5 أطفال أعمارهم بين 3 و 6 سنوات، حيث تم خنقهم بخيط الحرير.

وقيل إن "الإمبراطور بكى" على خط طويل من توابيت صغيرة بحجم الأطفال قد خرجت من القصر في موكب كبير متوشّح بالسواد في صباح اليوم التالي. وعلى الرغم من محاولات والدته السلطانة صفية منع إتمام هذه الجريمة، إلّا أنّه كان مصمّماً ومتمسّكاً بتنفيذ قانون قتل الإخوة لتثبيت عرشه على أنه واجب مقدّس.

القانون يركن جانباً

سليم الثاني

وبالرغم من تلك الأحداث، إلا أن الصعود إلى العرش في عام 1603 بالنسبة للسلطان أحمد الأول، كان مختلفاً عن بقية السلاطين، فلم يقتل إخوانه – دلالة على شخصيته المتسامحة – وربما يعود ذلك إلى سخط الجماهير من فعل أبيه محمّد الثالث الذي قام بإعدام أشقائه الـ 19 من أجل توليّ العرش.

فقد قال الكاتب الفرنسي ألفونس دي لامارتين ذات مرة: "بعد السلطان أحمد الأول، أظهرت خلافة العرش لأخيه أن قوانين جنكيز خان التي تقول إن السيادة السياسية تنتمي إلى السلالة، كانت لا تزال حيّة في الإمبراطورية العثمانية".

وعندما توفي أحمد في العام 1617، إعتلى أخوه العرش مصطفى الأول على الرغم من أنه كان له أبناء. كانت هذه هي المرة الأولى التي يصبح فيها شقيق السلطان إمبراطوراً. إلا أن ذلك لم يستمر بسبب قيام السلطانة الأمّ كوسيم بتحريض الباشوات على عزله وتولية إبنها.

السلطانة كوسيم ... "وجه القمر" القاتل!

كانت كوسيم - Kösem  أو Anastasia أجمل جارية تزوّجها السلطان أحمد الأول، وواحدة من أقوى النساء في الإمبراطورية العثمانية. حكمت بنفسها لنحو 30 عاماً. عاشت خلال ستة عهود، وأصبحت وصيّة لاثنين من أبنائها وحفيدها. اكتسبت خلال دورها كوصيّ شعبية هائلة واحتراماً بين رعاياها.

شهدت فترة حكم كوسيم واحدة من تناقضات تاريخ الصراع على الكرسي، فهي من حاربت إبنها مراد الرابع الذي قتل أشقّاءه الثلاثة من أجل الحفاظ على حياة الرابع إبراهيم.

وخلال حكم السلطان إبراهيم، لم يرض باستمرار نفوذ والدته وتدخّلها في ديوان الحُكم، فعمل على نفيها نهائيّاً وتقليص جميع صلاحيّاتها، فوجدت الطريق بالتخلّي عن إبنها السلطان إبراهيم، لتولية حفيدها محمّد شاه زادة، صاحب الـ6 سنوات حتى تكون وصية عليه وتستمرّ في إدارة الدولة العثمانيّة.

وبالفعل نجحت كوسيم في عزل السلطان إبراهيم بدعم من الانكشاريين والباشوات ورجال الدين، ثمّ إعدامه بعد ذلك بـ10 أيّام.

لكن قوّة السلطانة الأمّ كوسيم وصلت إلى نهاية مفاجئة ومأساوية عام 1651 عندما اغتيلت بالخنق بستارة بأمر من تورهان خديجة سلطان، المحظية المفضلة وزوجة إبراهيم الأول، في صراع من أجل السلطة وتم إخراج جثمانها من قصر توبكابي وتم دفنه بجانب أحمد.

يعتبر المؤرّخون السلطانة تورهانمن أفضل سلطانات اﻻمبراطورية العثمانية على الإطﻻق وآخرها، والثالثة في تصنيف أقوى سلطانات الدولة بعد هرم كوسيم.

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]