رشيد طه ... "الرّايح" الذي لن يعود

رحلَ أمس الأربعاء الفنان الجزائري رشيد طه عن عُمرٍ يُناهز التاسعة والخمسين سنة، تاركاً خلفه تراثاً غنياً من النجاحات الموسيقية غير المسبوقة في العالم العربي، وإن ارتبط اسمه عند العرب المشارقة أو جمهوره من الغربيين، بأغنية "يا الرّايح" التي جالت بقاع العالم، فإن المسار الفنّي لرشيد طه شاق وغنّي، خَطَّهُ وسط مُعاناة الفقر والتهميش والعنصرية التي عاشها، كما الكثير من أبناء جيله.

من الضواحي المُهَمَّشَة للمدن الفرنسية كانت البداية

فرقة carte de séjour (بطاقة إقامة)

في نهاية الستينيات، أي بعد ست سنوات من استقلال الجزائر، غادرت عائلة الراحل رشيد طه باتجاه فرنسا بحثاً عن لقمة العيش، وبين الدراسة ومزاولة الكثير من المِهَن المتواضعة، التي كانت دوماً من نصيب أبناء المهاجرين، عاش طه (ككل أبناء الجيل الثاني من المهاجرين المغاربة) آلام الفاقة ومآسي العنصرية.

لذلك كانت الموسيقى هي الوسيلة الأمثل التي عبّر من خلالها عن رفضه للتهميش والتمييز على أُسُسٍ دينيةٍ أو عرقيةٍ، الذي تعيشه أحياء الضواحي في مدن فرنسا، فدخل عالم الفن بتأسيس أول فرقة موسيقية له في بداية الثمانينيات سمّاها carte de séjour (بطاقة إقامة)، حيث حاول، وهو المسكون بالألحان الشرقية التي وجدها في موسيقى أمّ كلثوم وبإيقاعات فرقة "ناس الغِيوَان" المغربية، أن يبتكر نمطاً موسيقيّاً جديداً مزج فيه بين موسيقى الرّاي التي بدأت تتشكّل كظاهرة موسيقية جديدة في بلاده، وبين موسيقى الروك الغربية.

في بداية التسعينيات بدأ رشيد طه تجربة للغناء المُنفَرِد بإطلاقه لألبوم في الولايات المتحدة لم يلق الصدى الذي كان يرجوه منه. شهدت تلك الفترة الظهور "العالمي" القوي والبارز لموسيقى "الرّاي" بانتقالها إلى أوروبا وأميركا والمشرق العربي بعد الانتشار الكبير الذي حقّقه شاب جزائري آخر هو الشاب خالد، فقرَّر أن يسلك ذات الطريق الذي بدأه الجيل الأول من شباب الرّاي من أمثال الملحّن البارز الصافي بوتلّة وخالد حاج ابراهيم (الشاب خالد) ومحمد خليفاتي (الشاب مامي)، في تطوير التراث الموسيقي الشعبي الجزائري (إعادة التوزيع الموسيقي بإدخال آلات جديدة وعصرية) بشكلٍ يُسَهِّل اندماجه في الفضاء الموسيقي "العالمي" (الأوروبي، الأميركي...)، دونما أن يفقد أصالة ألحانه الريفية والشعبية.

هكذا اختار طه عام 1997من "الرّصيد الغِنَائِي" الثري لدحمان الحَرَّاشي، أحد أعمدة الأغنية الشعبية الجزائرية أغنية رائعة في لحنها، ومُعَبِّرة في كلماتها، لمُلامستها لمشاعر الحنين للوطن لدى المغتربين، فهي تذكير لكل"رايح" مسافر بأنّ مصيره بعد التعب والعياء، هو أن يُولِّي مُدْبِراً ويرجع لأرضه وأهله. هي أغنية "يا الرّايح" التي صنعت منه نجماً ذائع الصيت، وحقَّقت انتشاراً واسعاً في كل بلاد العالم وأُعيد استنساخها بلغات عديدة  وأصبح اسمه بالأصل مقروناً بها.

شمس رشيد طه تُشِع من جديد في : واحد، اثنان، ثلاثة .. شموس

فرقة 1,2,3 SOLEILS مع الشاب خالد وفضيل

بعد سنة من ذلك التحق رشيد طه بركب تجربةٍ غنائيةٍ ناجحة في ذروة "الثورة الموسيقية" التي أحدثها "الرّاي" في أوروبا والعالم في عقد التسعينيات من القرن الماضي.

فقد شارك في حفل تاريخي كبير هو الأضخم من نوعه في تاريخ الموسيقى الجزائرية والعربية سُمِيّ : 1،2،3 شموس 1,2,3 SOLEILS برفقة مغنيين جزائريين آخرين هما خالد وفضيل. تم فيه إعادة أداء مجموعة كبيرة من الأغاني التراثية من مختلف المناطق الجزائرية بتوزيعات موسيقية جديدة لاقت نجاحاً باهراً وانتشاراً واسعاً، ونقلت، عملياً، فولكلوراً من عمق الثقافة الشعبية إلى أبعد مدى وبِحُلًّة قوامها التجديد والإبداع كان أبرزها أغنية "عبد القادر" المُقتبسة من قصيدةٍ من الشعر الشعبي الملحون، تتغنّى بدفين بغداد القطب الصوفي عبد القادر الجيلاني ذي الحضور الأسطوري في المِخيال الشعبي للمغاربة ككل.

عاش رشيد طه كما الكثير من أبناء جيله من الجزائريين والمغاربة حياة التهميش والفقر والعنصرية في ضواحي المدن الفرنسية، الذين كدحوا من أجل عيش كريم، ولكن أيضاً من أجل الحفاظ على هُويّتهم المجروحة والمنبوذة، وإن كان كل منهم قد عبّر بطريقته عن ذلك الاضطهاد. فهو قد اختار الفن من أجل إيصال أحاسيسه. في بعض ألبوماته اختار الراحل رشيد طه أن "يصدح" بهويته تلك ويُكرّم المطربة المصرية أمّ كلثوم على طريقته من خلال أغنيتيها "إنت عمري" و"غَنِيِّلي شوية شوية".

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]