غزة في مرآة "أبو صابر": صبر يتخطى المرض أم مرض يتحدى الصبر؟

في غزة، حيث تقاتل الأرض نفسها للبقاء، لا تقتصر المعركة على الحرب أو الأوبئة، بل على الزمن ذاته. هناك، حيث تصبح الأيام فصولًا من العذاب، يبقى السؤال: إلى متى سيظل هذا الصمت يصرخ؟ غزة لم تعد مجرد مكان، بل هي مشهد تراجيدي ينكشف فيه كل شيء، ويخفي فيه كل شيء.

0:00
  • قصة مؤثرة من غزة:
    قصة مؤثرة من غزة: "الحمد لله الصبر مفتاح الفرج" (غرافيك: ندين بدر الدين)

في زمن العدوان على غزة، تصبح التفاصيل الصغيرة هي الفارق بين الحياة والاستشهاد، حيث اختلطت أصوات الصواريخ بأنين المرضى، لم تعد الصحة رفاهية، إنها معركة يومية تتحدى كل حدود الإنسانية.

كان القطاع أشبه بمعجزة صحية وسط الحصار، حيث حافظت منظومة التطعيم على معدلات مثالية، جعلت الأمراض القابلة للوقاية مجرد ذكرى بعيدة. لكن العدوان قلب المعادلة، فدمّر المستشفيات، وعطّل برامج التطعيم، وفتح الأبواب على مصراعيها للأوبئة القديمة لتعود من جديد، وكأنها تذكر الجميع بأن المآساي لا تأتي فرادى.

الصبر في مواجهة المرض والحرب

"الحمد لله.. الصبر مفتاح الفرج". هذه الكلمات التي يرددها  الحاج "أبو صابر" تختزل حقيقة مريرة تعيشها غزة اليوم. مدينة تحترق تحت نير الحروب التي لا تنتهي، بينما تحاصر الأوبئة من كل حدب وصوب.

يعيش "أبو صابر" مع أسرته في أحد مراكز الإيواء، الذي أصبح ملاذًا بعد أن دمّر الاحتلال  منزلهم، في تأكيد على أن الاعتداءات الإسرائيلية لا تقتصر فقط على تدمير المباني، بل تطال حتى البشر، وتدمغ أرواحهم بالأسى.

إلا أن "أبو صابر" لم يزل متمسكاً بخيوط الأمل التي يحاول أن تجد طريقها وسط هذا الظلام الدامس، باحثاً عن فسحة نور وسط كارثة إنسانية تتسارع على قدم وساق.

غزة التي كانت يوماً ما مدينة نابضة بالحياة، باتت اليوم ساحة مواجهة مفتوحة على العديد من الجبهات. فالاحتلال لم يكتفِ بتدمير المباني، بل سعى إلى ضرب كل أمل في الحياة. وفي هذه الأجواء، يظهر أبو صابر كنموذجٍ للصمود، يدافع عن حياته، وعائلته، وأرضه بكل ما أوتي من قوة، رغم الأوبئة التي تفتك بالجميع. هذه الأوبئة التي اجتاحت مراكز الإيواء بسبب انعدام النظافة الأساسية، وسط ظروف صحية مدمرة.

الأوبئة... أزمة فوق أزمة

الحديث عن الوضع الصحي في غزة لا يمكن أن يتجاوز الحديث عن الأوبئة التي تنتشر بشكلِ أسرع من الحروب نفسها. فوفقاً للتقارير الصادرة عن الأمم المتحدة، يشهد قطاع غزة نقصاً حادًا في المستلزمات الأساسية مثل المعقّمات والمواد اللازمة للنظافة الشخصية، ما يساهم بشكلٍ كبير في تفشي الأمراض المعدية. مراكز الإيواء التي يفترض أن تكون ملجأ للنازحين، تتحول إلى بيئة خصبة لنمو الفيروسات والبكتيريا، حيث تفتقر إلى أبسط مقومات النظافة  والعناية الصحية.

ومع انهيار شبكات المياه والصرف الصحي في القطاع نتيجة للعدوان المستمر، أصبح خطر تفشي الأوبئة أكبر من أي وقت مضى. منظمة الصحة العالمية دقت ناقوس الخطر، محذرة من أن الوضع الصحي في غزة قد يؤدي إلى كارثة إنسانية إذا لم يتم توفير المساعدات الطبية والغذائية في أسرع وقت. إلا أن الاحتلال الإسرائيلي يستمر في فرض حصار غير مسبوق على القطاع، مما يجعل وصول الإمدادات الإنسانية شبه مستحيل.

الأمراض الوراثية والحصار

عندما نبحث عن قصة أبو صابر، نكتشف أنه ليس وحده من يعاني في غزة. أبو صابر لا يعاني فقط من آثار العدوان، بل من مرض وراثي يهدد حياته يومياً. "الورم العصبي الليفي" و"التقرن الجلدي"، هما مرضان يعاني منهما منذ سنوات، أمراض ليست لها علاقة مباشرة بالظروف المعيشية، ولكنها تصبح أكثر فتكاً بسبب الحصار المستمر على القطاع. هذا الحصار الذي منع وصول الأدوية اللازمة لعلاجه، فبعض الأدوية أصبحت نادرة، بل يكاد يكون من المستحيل العثور عليها في غزة.

الواقع الصحي في غزة ليس مجرد نتيجة للحرب، بل هو نتيجة مباشرة للسياسات "الإسرائيلية" التي تهدف إلى تدمير المنظومة الصحية الفلسطينية. المستشفيات والمراكز الصحية  دمرت تماماً أو خرجت عن الخدمة، ما جعل قطاع غزة يخوض معركتين في آن واحد: واحدة ضد الاحتلال، وأخرى ضد أمراض تهدد حياتهم.

استهداف القطاع الصحي

وفي الوقت الذي يعاني فيه أبو صابر وغيره من المرضى من قلة العلاج، نجد أن الاحتلال قد استهدف بشكل ممنهج القطاع الصحي في غزة. المستشفيات التي كانت توفر الرعاية الأساسية للسكان، أصبحت أطلالًا بعد قصفها. مجمع الشفاء الطبي، الذي يعد من أكبر مستشفيات القطاع، أصبح غير قادر على تقديم الرعاية الكافية بعد أن دمر الاحتلال أجزاء واسعة منه. في الوقت ذاته، نجد أن سيارات الإسعاف، التي كان من المفترض أن تقدم الدعم العاجل للجرحى والمصابين، قد دُمرت هي الأخرى، مما يزيد من معاناة المرضى والجرحى.

نسبة العجز في الأدوية والمستلزمات الطبية في غزة وصلت إلى 83%، ما يعكس حجم الكارثة الصحية التي تعيشها غزة. الحرب لم تقتصر على استهداف البشر فقط، بل طالت كل شيء، حتى الحق في العلاج.

الصمود الإنساني

رغم كل هذه الظروف القاسية، يبقى صمود "أبو صابر" وغيره من الفلسطينيين في غزة درساً في التحدي والإيمان. إن قدرة هؤلاء على الصبر والتحمل وسط كل هذا الدمار تعد رمزاً حقيقياً للإنسانية. صبرهم ليس مجرد سكون، بل هو مقاومة حقيقية ضد الظلم والاحتلال. هؤلاء الناس، الذين يعانون من نقص في الغذاء والعلاج، لا يزالون يحافظون على إيمانهم بأن النصر قادم لا محالة.

مراكز الإيواء في غزة أصبحت مليئة بالحكايات الإنسانية، لكنها ليست حكايات عن الهزيمة، بل عن صمود لا يلين. هؤلاء الذين يعيشون في خيام مؤقتة، ويحاربون الأوبئة دون أن تكون لديهم أبسط وسائل الحماية، يعلمون جيدًا أن مفتاح الفرج لن يأتي بسهولة، لكنه سيأتي، وأنهم على أمل أن الغد سيكون أفضل.

تفشي الأوبئة يدق ناقوس الخطر

وحتى مع إغلاق الحدود والحصار المطبق، فإن أعداد المرضى في غزة تزداد يوماً بعد يوم. الأوبئة، سواء كانت إنفلونزا أو أمراضاً ناتجة عن تلوث المياه، تستشري بسرعة كبيرة بين الناس الذين يعانون من ضعف المناعة بسبب سوء التغذية.

 
 
 
 
 
View this post on Instagram
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

A post shared by Hassan eslayeh (@hassanasalih)

وتستمر الأمم المتحدة في تحذير العالم من أن الوضع في غزة يزداد سوءًا يومًا بعد يوم، وأن القطاع يواجه خطرًا كبيرًا من تفشي الأمراض المعدية بسبب تدهور الخدمات الصحية والمرافق الحيوية.

إن معاناة "أبو صابر" ليست مجرد قصة فردية، بل هي صورة مصغرة لمعاناة شعب بأسره. غزة اليوم، وهي تعيش تحت وطأة العدوان المستمر والأوبئة التي لا تفارقها، تظل رمزاً للصمود والتحدي. غزة التي فقدت كل شيء، لكن شعبها لا يزال متمسكاً بالحياة، موقتاً أن مفتاح الفرج قادم، مهما طالت الليالي المظلمة. غزة تبقى مثالاً حيّاً في مواجهة الموت والمرض، وتؤكد أن إرادة الإنسان هي أقوى من أي عدوان.