دنيا

يقول الشاعر: "فلا تعشق الدنيا أُخيّ فإنما، يرى عاشق الدنيا بجهْد بلاء".. لكن ترى من هي دنيا؟

                          
ما لِقَلبي أرَقُّ مِن كُلِ قَلْبِ               
ولِحُبّي أشَدُّ مِن كُلِّ حُبِّ
ولِدُنْيا على جُنوني بِدُنيا                
أشتَهي قُربَها وتَكرهُ قُربي
نَزَلتْ بي بَلِيَّةٌ من هَواها                 
والبَلايا تَكونُ من كلِ ضَربِ
قُلْ لِدُنيا إنْ لم تُجِبكَ لِما بي           
رَطبَةٌ مِن دُموعِ عَينَيَّ كُتْبي

هذه الأبيات الغزلية الرقيقة في مَن اسمُها دُنيا، هي للشاعر محمد بن أبي عُيَيٍنة (ت 897 م) من شعراء الدولة العباسية وساكني البَصرة. قال عنه أبو الفرج الأصبهاني (ت967م) في كتاب "الأغاني" إنه شاعر مطبوع ظريف غَزِل، وأكثر غَزَلِه في المرأة التي يُسمّيها دُنيا أو يَكني عنها باسم دُنيا.  

وذلك أنه كان يهوى سيّدة من عِلية القوم تُدعى فاطمة زوجة أحد بني العباس، وكان يخشى أن يُصَرّح باسمها، وكانت لها جارية تُدعى دُنيا فكان يذكرها في شعره كنايةً عن سيّدتها.

وخُلاصة القول أن هوى الشاعر كان من نصيب فاطمة التي لم يُلحق بها حبه لها إثماً ولا عاراً. أما شعره فقد عاد بالشهرة على جاريتها دُنيا، وله فيها قصائد كثيرة يقول في بعضها:                              
 

رَقَّ قَلبي لكِ يا نورَ عَيني            
وأبى قَلبُكِ لي أن يٍرِقّا
فَأراكِ اللهُ مَوتي فَإنّي                  
لستُ أرضى أن تَموتي وأبقى
أنا مِن وَجْدٍ بِدُنيايَ، مِنها              
ومِن العَذْلِ فيها، مُلَقّى
زعَموا أنّي صديقٌ لِدُنيا                
لَيتَ ذا الباطِلَ كانَ حَقّا 

واسم دُنيا مأخوذ من الُدُنيا وهي هذه الحياة التي نحياها، وضِدُّ الآخرة. ومن أقوال الإمام علي بن أبي طالب المأثورة: "إعمَلْ لَدُنياكَ كأنّك تَعيشُ أبداً، واعملْ لِآخرتِكَ كأنّكَ تَموتُ غداً". وقد يُقصَد بالدُنيا العالمَ بما فيه.
والدُنيا بمعنى الحياة زائلة لا محالة. لذلك يُكثر الحُكماء والزُهّاد التحذير من التعلُّق بالدنيا وما فيها من مُغريات. من ذلك للشاعر المتَزَهِّد أبو العَتاهِيَة (747 - 820 م) قوله:                                              
 

فلا تَعشَقِ الدُنيا أُخَيَّ فإنّما             
يُرى عاشِقُ الدُنيا بِجُهْدِ بَلاءِ
حَلاوَتُها مَمزوجَةٌ بِمَرارَةٍ                 
وراحتُها مَمزوجَةٌ بِعناءِ
فلا تَمشِ يَوماً في ثيابٍ مَخيلَةٍ       
فَإنّكَ مِن طينٍ خُلِقتَ وماءِ

والدُنيا، لُغةً، سُمّيَت بذلك لِدُنُوِّها، أي قُربِها، وانحطاطِها. وقد دنا الشخص أو الشيء،يَدنوا،دُنُوّاً، لِلشيء، ومنه، وإليه،إذا قَرُبَ، فهو دانٍ، وهي دانِيَة. ويُقال: هو في دُنيا دانية، أي هانئة ناعمة. وثِمار دانية، أي قريبة المُتَناوَل. ومنه اسم العلم المؤنث دانِيَة.