ومضات عن رجل أبى أن يموت في فراشه
زاخرة هي مسيرة العظماء، فكيف إذا كانوا مؤمنين محتسبين وهم إلى جوار ربهم في معراج الأبرار عائدين، فـ "أبو ابراهيم" ارتقى في ميدان الشرف، فطوبى، لهذه الرفعة وهذا الشرف".
استشهد القائد الفلسطيني يحيى إبراهيم السنوار، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس مقبلاً غير مدبر، مصوّباً سلاحه نحو "إسرائيل".
يكفيه فخراً أنه هزم المحتل، منذ أيام شبابه الأولى كناشط، ثم كمؤثّرٍ وفاعل ومعتقل ومقاتل وقائد.. حتى الشهادة!
يكفيه فخراً أنه قضى شهيداً على محراب الانتصار لفلسطين ولحرية وكرامة فلسطين وشعبها، فإن "عشت فعش حراً أو مت كالأشجار وقوفاً.. وقوفا كالأشجار"، قالها الشاعر الفلسطيني محمود درويش ذات يوم.
"لم تأته غصباً عنه، بل هو من ذهب إليها مترجلاً على قدميه عن إصرارٍ للرحيل،فهم يعرفون الطريق إلى الصواب" (..) الكلام للناشطة إيناس هنية، كريمة الشهيد القائد إسماعيل هنية الذي ارتقى باستهداف إسرائيلي لمكان إقامته في العاصمة الإيرانية طهران.
كذلك، لم يُستشهد السنوار بين المدنيين، أو في أماكن إيواء النازحين، ولم يكن محتمياً بالأسرى الإسرائيليين، والرجل لم يستهدف في عملية اغتيال تستند إلى معلومات استخباراتية، فأعتى مخابرات العالم فشلت في اصطياد القائد المقدام.
اقرأ أيضاً: حماس تعلن استشهاد يحيى السنوار مرابطاً في أرض غزة
زاخرة هي مسيرة العظماء المؤثّرين، فكيف إذا كانوا مؤمنين محتسبين وهم إلى جوار ربهم في معراج الشهداء الأبرار عائدين؟ا
الشهيد السنوار "أبو ابراهيم"، والذي كان يردّد خلال معركة "سيف القدس" عام 2021 أنّ "ضرب تل أبيب أسهل علينا من شربة ماء"، نجح في إطلاق أكبر معركة تهدّد الكيان مع القائد القسّامي محمد الضيف وهي "طوفان الأقصى" عام 2023، بعدها بانت "إسرائيل" وهماً يمكن القضاء عليه في أيام قلائل لولا الدعم العسكري واللوجستي والاستخباراتي والمادي الأميركي الغربي.
نضال داخل الزنزانة
حتى داخل الزنزانة، كان السنوار كالعظماء، رفل ثوب النضال بأبهى حلله حتى أنه تحرّر من الأسر في صفقة "وفاء الأحرار"، عام 2011، بعدما شارك في إدارتها من داخل السجون الإسرائيلية أيضاً!
خلال فترة اعتقاله، تولّى قيادة الهيئة القيادية العليا لأسرى حماس في السجون لدورتين تنظيميتين، وساهم في إدارة المواجهة مع مصلحة السجون خلال سلسلة من الإضرابات عن الطعام، بما في ذلك إضرابات أعوام 1992 و1996 و2000 و2004.
تنقّل بين عدة سجون، منها (المجدل وهداريم وبير السبع ونفحة)، وقضى 4 سنوات في العزل الانفرادي، عانى خلالها من آلام في معدته، وأصبح يتقيّأ دماً وهو في العزل وحاول الهروب من سجنه مرتين، الأولى حين كان معتقلاً في سجن المجدل بعسقلان، والثانية وهو في سجن الرّملة.
المرض لم يثنهِ عن اختراق الزنزانة!
في سجن المجدل، تمكّن من حفر ثقب في جدار زنزانته بواسطة سلك ومنشار حديدي صغير، وعندما لم يتبقّ سوى القشرة الخارجية للجدار انهار وكشفت محاولته، فعوقب بالسجن في العزل الانفرادي، أمّا في المحاولة الثانية في سجن الرملة فاستطاع أن يقصّ القضبان الحديدية من الشباك، ويجهّز حبلاً طويلاً، لكن العملية لم تتكلّل بالنجاح.
تعرّض لمشكلات صحية خلال فترة اعتقاله، إذ عانى من صداع دائم وارتفاع حاد في درجة الحرارة، وبعد ضغط كبير من الأسرى أجريت له فحوصات طبية أظهرت وجود نقطة دم متجمّدة في دماغه، وأجريت له عملية جراحية على الدماغ استغرقت 7 ساعات.
ثروة غنية من المؤلفات
لم يترك يحيى السنوار فترة السجن من دون استثمار الوقت الثمين في فترة اعتقاله التي استمرت 23 عاماً في القراءة والتعلّم والتأليف، خاصة وأن الزيارات الخاصة كانت ممنوعة عنه قطعياً على مدى 18 عاماً.
تعلّم خلال الاعتقال اللغة العبرية وغاص في فهم العقلية الإسرائيلية، وألّف عدداً من الكتب والترجمات في المجالات السياسيّة والأمنية والأدبية، ومن أبرز مؤلفاته:
ترجمة كتاب "الشاباك بين الأشلاء"، لكارمي جيلون، وهو كتاب يتناول جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي.
ترجمة كتاب "الأحزاب الإسرائيلية" عام 1992، ويعرّف بالأحزاب السياسية في "إسرائيل" وبرامجها وتوجّهاتها خلال تلك الفترة.
ويبدو أن أشهر مؤلفاته على الإطلاق، رواية "الشوك والقرنفل" عام 2004 التي كتبها في السِّجن، الذي قضى فيه 23 عاماً بعد أحكام بالسَّجن المؤبد، تناول من خلالها تجربة النضال الفلسطيني بعد عام 1967 حتى الانتفاضة الأولى، حيث يقول في مقدّمتها: "هذه ليست قصتي الشخصية، وليست قصة شخص بعينه، على الرغم من أن جميع أحداثها حقيقية، كل حدث منها، أو كل مجموعة من أحداث، تخص هذا الفلسطيني أو ذاك.. الخيال في هذا العمل هو فقط في تحويله إلى رواية تدور حول أشخاص محددين، ليتحقّق لها شكل العمل الروائي وشروطه، وكل ما سوى ذلك حقيقي عشته، وكثير منه سمعته من أفواه من عاشوه - هم وأهلهم وجيرانهم - على مدار عشرات السنوات على أرض فلسطين الحبيبة".
كتاب "حماس: التجربة والخطأ"، ويتطرّق لتجربة حركة حماس وتطوّرها على مرّ الزمن.
كتاب "المجد" صدر عام 2010 ويرصد عمل جهاز "الشاباك" الصهيوني في جمع المعلومات وزرع وتجنيد العملاء، وأساليب وطرق التحقيق الوحشية من الناحية الجسدية والنفسية، بالإضافة إلى تطوّر نظرية وأساليب التحقيق والتعقيدات التي طرأت عليها وحدودها.
ومضات حول رجل أبى أن يموت على فراشه
يحكى الكثير عن يحيى السنوار الإنسان والناشط، وحتى الممثّل في إحدى المسرحيات الوطنية، والمشارك في مطلع الثمانينيات في فرقة للإنشاد الإسلامي، أو الشاب الرياضي الواعد، لكن هذا هو قدره، أن يكون مناضلاً في الصفوف الأمامية للأمة.
يكفيك تيهاً وفخراً يا أبا إبراهيم أنك، ورغم مرضك في السجن،وعلى الرغم من المحاولات المتكررة لاغتيالك، فقد مضيت إلى جوار ربك، كما تشتهي، ممتشقاً بندقيتك، ذائداً عن حياض وشرف غزة وفلسطين وأمة العرب وأحرار هذا العالم.