معارض فنية: كثير من الذاتية وقليل من الواقعية
تشهد "غاليريهات" العاصمة اللبنانية بيروت العديد من المعارض التشكيلية، يغلب عليها طابع التعبير الذاتي، وقلة منها تعالج شؤونا عامة
كثيرة هي المعارض المنتشرة في "غاليريهات" بيروت المختلفة، غالبيتها تعبيرات عن شؤون ومعاناة ذاتية، قد تتطرق إلى حالات وجودية، لكن قلة منها تعالج قضايا تتعلق بحياة الناس الجمعية.
من المعروف أنه في علم الفن، يمكن للفنان أن يعبر عن نفسه كيفما أراد حتى وصفت بعض الفنون بأنها "فن للفن"، ومن هنا تتصف غالب المعارض بالاستعراضية- الاستهلاكية كمعارض أنجليكا فون شفيديس في "مركز بيروت للمعارض"، ومعرض آمال قناوي في "كيو-كونتنبوراري"، وقيس سلمان في غاليري "ايام"، وقلة منها تحمل هدفا معينا يخدم قضايا المجتمع والانسان كمعرض نزار عثمان في غاليري "زمان”.
شفيديس في البيال
أعمال الألمانية فون شفيديس كثيرة، ومتشابهة، ألوانها متقاربة، وأعمالها سريعة الأداء. منها الانطباعي، ومنها السوريالي، والتجريدي، لكن التقاطعات الفنية بينها واسعة. فضربات الريشة العريضة هي عينها في معظم اللوحات، حتى يشعر المرء أنه أمام مشهدية واحدة، وإن كان مع بعض اختلاف في الموضوع. لذلك، لا يحتاج المشاهد إلى الكثير من الوقت لتفحص أعمالها المنتشرة على الجدران الواسعة بالعشرات، وبأحجام كبيرة غالبا.
قالت عنها الأديبة اللبنانية خالدة السعيد أنها "آتية إلى عالم الرسم والفن من أزمنة وأماكن هبت خلالها وفيها الرياح العاصفة، وتركنها متركبة بمزيج من المشاعر وألحاسيس المتغيرة، ثورات ليست فقط في السياسة، بل أيضا في الفن والفلسفة والأخلاق ورؤية الناس لإنسانيتهم وعلاقتهم بالطبيعة والأرض.
“سماء حمراء" تشكيلية ملونة يبحث الناظر فيها عن سماء ما، و"تحت الصنوبرة" و"في الظلام" و"الببغاء الخضراء" عناوين لسلسلة تشكيلية انطباعية بالزيت. ولا يغيب التأثير الديني التوراتي عن ثقافتها، وما تختزنه النفس البشرية من ذكريات قادمة من الأساطير الدينية التي يستند إليها فهم الوجود دون إذن بالتمرد، مثل لوحات "آدم وحواء" و"الإغواء" إشارة إلى إغواء حواء لآدم ما أدى إلى بزوغ مفهوم الخطيئة.
ثمة لوحة عاطفية المزاج عنوانها "معا" Togetherness ، وامتدادا لوحات تكاد لاتنتهي.
سلمان في "أيام"
سلمان قادم من سوريا، متخرج من كلية الفنون في جامعة دمشق ٢٠٠٢، عنون معرضه في صالة "أيام" ب"الذات الداخلية"، أعمال معرضه تظهر تأثرا بالمنحوتات المرمر القديمة، وهي أشكال بشرية غير حقيقية، آحادية اللون مع مسحات قرمزية.
أشكال رؤوس ضخمة على اجساد رمزية، وعيون نافرة مع أفواه عريضة، وفقدان للأطراف كأنها تآكلت على مر الزمن.
"العروس" لوحة لامرأة عارية ترتدي خمار الزفاف، تستعد لليلة العسل، لكن تفاصيل في جسدها تشير إلى معان متعددة بعيدة عن أداء دور انثوي. و"الوقود الثقيل" عمل من خمس لوحات، يبين التنوع في شخصيات النساء، يظهرن في مظاهر مخلوقات خطيرة مع ما يحملنه من عتاد قتل.
يواصل سلمان بحثه في الوجوه المتنوعة لشخصياته والعيون المبحلقة، متابعا عرضه لمشهد الفن المعاصر ذي الطابع الشرق أوسطي.
شارك سلمان في معارض عالمية، وحصل على الجائزة الأولى في المعرض الرابع السنوي للشباب، والمعرض الافتتاحي لمتحف الفن الحديث في دمشق.
قناوي في "كيو"
آمال قناوي، فنانة مصرية راحلة في مقتبل العمر، ترك رحيلها اثرا كبيرا لدى من عرفها وعرف فنها. معرضها عنوانه "سوف تقتل" مؤلف من فيديو ورسوم متحركة وتصوير، يلعب العامل النفسي دورا في تكاوين العمل، تغوص الفنانة في ذاكرة الانسان باحثة عن أحلام الانسان تعرضها على الجدران، مع إضاءة على الشخص بتفاعله من محيطه.
وانطلاقا من هذا المعطى للواقع والحياة، استلهمت قناوي مشهد المستشفى الذي تم بناؤه خلال فترة الاستعمار البريطاني قبل ثلاثة عقود لاختيار موقع عرض مشروعها في بينالي سنغفورة ٢٠٠٦، وهو استفز لديها ذكريات الحرب مع ما تختزنه من عنف. وتنطلق من هنا لتظهر أثر العنف على مختلف مستويات الحياة الانسانية.
يغلب على المعرض طابع الحزن والألم والتشاؤم، فتقول: "أخلق الضوء، لكن الضوء يأكلني. وأذوب في نفق لامنتهي الظلام".
أعمالها طاولت مشاعر الناس في مختلف أنحاء العالم، وهي تخرجت من أكاديمية الفنون الجميلة في مؤسسة السينما في القاهرة، والإجازة في الرسم من جامعة حلوان ١٩٩٩. حازت على جوائز ومنح عديدة من مختلف المنظمات الثقافية العالمية.
بالإضافة إلى مشاركتها في في العديد من المعارض الجمعية، شاركت في سبعة "بيانالات"، وفي مهرجانات المسرح والسينما العالمية. إنجازاتها كثيرة وواسعة، لكن معرضها الحالي "سوف تقتل"مشوب بالألم ربما تعبيرا عن معاناتها زمن مرضها القاتل.
نزار عثمان في غاليري "زمان"
نزار عثمان في "زمان"
يعالج نزار عثمان دور الإعلام منذ ما بعد الحادي عشر من أيلول في عنوان "أحمر بالأسود"، ويشكل الحدث مادة لأعماله الفنية-التشكيلية.
يدخل عثمان في موضوعه بشكل سريع ومباشر في معرضه في غاليري زمان ببيروت.
الفكرة العامة هي سيطرة الإعلام العصري على عقول الناس بطريقة مذهلة، حاسمة، وقاطعة دون تردد. ولئن كان الإعلام العصري لايتمثل بالجريدة الورقية، لكن عثمان أراد أن يختزل الإعلام بالجريدة
الأحمر ليس طاغيا وإن كان موجودا بقوة في التلاوين، والسبب أنه لا يريد أن يؤشر إلى لون تشكيلي بل إلى الدم المهدور في العديد من أنحاء العالم بالمعنى الضمني للوحات، وباتهام واضح وصريح للجريدة-الإعلام في التقديم له.
والأسود موجود ايضا فهو الكتابات على الورق من جهة، وهو الموت الذي جاءت به أحداث ما بعد ١١ أيلول على متن الطائرات والقنابل الهائلة التدمير، وأيضا على متن الجرائد-الإعلام الذي روج لتلك الحروب، وشكل غطاءها الإيديولوجي والثقافي وقدم لها تبريرها السياسي، من جهة ثانية.
أكثر اللوحات مباشرة ووضوح أداء، وجلافة تعبير هي لوحة أظهرت الجريدة تلف جمجمة بشرية. إتهام خطير للإعلام على ما قام به في العالم، وفي التطورات المتسارعة في العالم العربي وفي العالم أجمع.
لوحة التعمية من أكثر اللوحات تعبيرا عن الواقع. فالجريدة تلف عيون الانسان وتحجب رؤيته للحقيقة، زيادة على ما تؤديه الجريدة بلفلفة دماغه، وتأطير وعيه وإعادة استيلاد ذاكرته وفقا لرغبات أصحابها.
والنظر بعين واحدة من اللوحات الأكثر تعبيرا عن انحياز الإعلام وفقدان دوره المحايد. فبالجريدة تغطت الأدمغة والعين، ولم يترك إلا لعين واحدة أن ترى، وباتجاه واحد. هكذا تحول الإعلام برأي عثمان من إعلام حر إلى إعلام موجه.
لوحات أخرى عديدة صورت الانسان العربي بما اصطلح على تسميته بالإرهابي، ولعب الإعلام الدور الأكبر في ترويج هذا المفهوم، فبدت الجريدة في دور الكوفية، تموه الوجوه، لكنها تشوه حقيقتها بما تروجه في وسائطها المختلفة.
ثمة لقطة لافتة في رأس تيس مقطوع مع قتحة في الرأس، وممدد على جريدة، يشي بعملية غسل دماغ الناس المستسلمين للعدوان، وللشعوب التي لا تريد أن تعرف الحقيقة إلا وفق وساءل الإعلام.
كما يعتقد عثمان في نهاية المطاف ان الجريدة الورقية هي أيضا ضحية الإعلام المعاصر، ويقول: “لم يتوان الإعلام عن التضحية بأبنائه، فالإعلام المعاصر التهم الجريدة الورقية التي كانت أساسه في السابق".
طغت على اللوحات بساطة التشكيل، وهدوء الألوان، وكأن صاحبها اراد أن يعطي للفكرة الحيز الأكبر في عمله على حساب الشكل، وفنون التعبير.
نزار عثمان فنان تشكيلي سوري مولود ومقيم في لبنان، عمل كرسام كاريكاتير. نشر دراسات ومقالات مختلفة في علم الاجتماع والفن التشكيلي في جرائد ومجلات متعددة.
حاز على عدة جوائز دولية لفنه الكاريكاتيري، وشارك في العديد من المعارض المحلية والعالمية.
رأي النقاد
ويعلق الناقد الفني عبيدو باشا ل"الميادين" على مسار المعارض في بيروت، بقوله: "هناك مشكل في بيروت في الوقت الراهن، وهي أن المعارض لم تعد تعكس أوضاعها الداخلية التي لم تعد تسر الكثيرين، لذلك معظم المعارض خارجية، طابعها تجاري، استهلاكي، مدعية، وأنا افضل المعارض المتواضعة”.
ويؤثر باشا عمل عثمان، ويعلق بقوله: "من خلال المعرض يظهر كم ان الفنان عصامي واشتغل على نفسه حتى أصبح رساما وطور تجربته. فليس كل الفنانين يشتغلون على الفكرة الواحدة كما اشتغل عثمان، فاتخذ من تأثير الجريدة في الرأي العام موضوعه، وكذلك استعمالاتها المتنوعة- أي كوسيلة إعلام ترمز إلى الإعلام المعاصر، وهما عنصران أوصلاه إلى واقعية تتجه نحو بعض التعبيرية باستعمال الجريدة بطرق مختلفة”.
وختم: "الفنان هاديء في أدائه الفني، وهو ليس مدعيا، ولم يحاول أن يفرض نفسه بالألوان والأشكال”.