في ضيافة القاعدة ـ الجزء الرابع
يروي الزميل أبي ولد زيدان رحلته إلى الشمال المالي حيث تسيطر حركات إسلامية مسلحة علي ذلك الإمتداد الصحراوي من الحدود الموريتانية حتى الجزائر. الرحلة لا تخلو من مفارقات ومواقف يرويها على حلقات.
مع تباشير الصباح الأولى استيقظت بعد حوالي سبع ساعات من النوم المتقطع، كانت المدينة تستعد ليوم آخر من أيامها الجديدة بعد ليلة إفريقية صعبة يبدو أنني وحدي من ظهرت عليه علامات الضجر خلالها وحتى آثار الهجوم الشرس على ضيوفها من جيوش البعوض.
وقفت على السطح أنظر للمدينة من حولي .. كان الفرق شاسعاً بين المشهدين في الليل ومع الصباح... بدت الحياة وهي تدب من جديد... ظهرت المنازل المجاورة للفندق حيث يسكن معظمها أفراد تنظيم القاعدة... شباب في الغالب وأطفال صغار، لا يتحركون إلا ومعهم أسلحتهم حتى في هذا الوقت المبكر من الصباح... أحدهم لاحظ أنني أسترق النظر إليهم، فبادرني بحركة احتجاجية بسلاحه وكأنه يقول لي "إنزل".
نزلت على عجل إلى ما يفترض أنها غرفتي في الفندق. غيّرت ملابسي وتناولت فطوراً بسيطاً، وانطلقنا في رحلة الإكتشاف الأولى لمدينة تومبكتو بعدما سيطر عليها الإسلاميون المتشددون.
كنت قد زرت تمبكتو قبل اليوم لأكثر من مرة. تمبكتو التي ولدت خلف تخوم الصحراء، ولدت على إيقاع حركة القوافل حلاًّ وترحالاً... بحسب الجغرافيا هي كانت عاصمة الولاية السادسة في جمهورية مالي، تماماً كما هي أهم أقطاب إقليم أزواد في عمق الصحراء الكبرى... أما بحساب التاريخ، فالمدينة مبنية منذ قديم الزمان... كانت مجرد بئر إختارته شعوب الطوارق والعرب في هذه المنطقة مكاناً لتخزين احتياطي الغذاء بعد إنقضاء موسم الأمطار، حين تدفعهم سموم الصحراء باتجاه المناطق الخصبة حول نهر الأنهار، نهر النيجر العظيم.
حول هذه البئر، كانت تقيم في الأصل عجوز "تاركية" من قبيلة "إيمقشرن"، إسمها - يقولون- "بكتو"، ومن هذا الإسم أراد التاريخ أن تنبثق ينابيع روت عطش الصحراء وسقت أعشاب أدغال أفريقيا... إنها تمبكتو... كانت مخيماً، ثم تحوّلت مع مرور الأيام الى قرية، وظلت تنمو باضطراد إلى أن تحوّلت- بفضل موقعها- من ملتقى للطرق التجارية الى عاصمة الثقافة والحضارة في أفريقيا الغربية والصحراء الكبرى...
أراد منها الطوارق والعرب مكاناً لعناق سفينة الصحراء مع سفينة البحر، ولكن الله شاء أن كانت محجة لساكني الصحراء ومنهلاً لعشاق العلم والتاريخ... الذهب من الجنوب والملح من الشمال، والعلم الإلهي ينبع من القلب... تلك هي عروس الصحراء، العروس التي ازدانت بحلتها بعد عودة ملك"الماندينغ" - الذي كان يحكم هذه البلاد قبل سبعة قرون- "كانكان موسى" من الحج عام 1325 ميلادي، تلك الحجة التي اعتبرت هنا أشهر حجة في التاريخ الإسلامي، حيث أخذ معه فيها اثنا عشر طناً من الذهب- مما أدى إلى هبوط سعره في القاهرة- وتصدّق به كله حتى إنه اضطر للإستدانة كي يتمكن من العودة، لكنه عاد بهمة عالية أفرزت نهضة في العلم والعمران مكّنت تمبكتو من ان تنافس بقية المدن والحواضر الاسلامية... عاد يحمل في موكبه المهندس الأندلسي أبا إسحاق الساحلي الذي بنى له مسجد "جنكر أبير"، كما ضمّ موكبه مجموعة من علماء المسلمين العرب لتدريس العلم في الجامعات التومبكتية، وشاءت الصدف أن كان من بينهم العالم المصري المعروف عبد الرحمن التميمي الذي وجد مستواه أقل بكثير من مستوى دخول إحدى جامعات تمبكتو الثلاث، أحرى بالتدريس داخلها، وهو ما حدا به إلى السفر الى فاس حتى يتمكن من تحصيل المستوى الذي خوّله في ما بعد لدخول جامعة "سانكارا" تلميذاً، قبل أن يلتحق بسلك التدريس في جامعة "سيدي يحي".
في تمبكتو ضاعت الجغرافيا.. والتاريخ
تلك صفحات من التاريخ القديم... اليوم أتنقل من حي لآخر ومن شارع لشارع، وأنا أستعيد ذاك التاريخ الجميل، هنا من ميدان الإستقلال تبدأ رحلة الإستكشاف... تخال نفسك قطعة من التاريخ، تلج بوابة الماضي عبر شواهده المتناثرة في كل مكان.. يتراءى لك شاخصاً وكأنه الحاضر، ضريح العالم الكبير أحمد بابا السوداني التمبكتي على اليمين وقد سوي البنيان فوقه، وعلى اليسار مسجد "جنكر أبير" يلعق جراحه بعد أن دمر الحكام الجدد "الزوائد الإضافية" بجانبه "خوفاً من عبادتها دون الله" كما يقولون... هي قوانين تمبكتو الجديدة، بحسب عشاق التاريخ، لا تراعي حرمة لماضي المدينة ذي الطابع الإنساني العالمي.
ضاعت الجغرافيا وضاع التاريخ، يقولون، كل شيء تغير بعد زيارتي الاخيرة للمدينة . حتى الناس في الشارع تغيرت.. حركة السيارات محدودة واغلبها سيارات الحكام الجدد.. الشوارع شبه خالية من المارة... وحده السوق المركزي مازال يحتفظ ببعض ملامحه القديمة حتى وان تغيرت في بعض الاحيان..
الأبواب والنوافذ مزيّنة بقطع النحاس والحديد، هم يقولون "إنها تغار على نسائها" لكنّ الصحيح أن كل المدينة تغار على ساكنيها، ولم لا؟ فقد حملت إسم امرأة طبعت بأنوثتها كلّ شيء في هذه المدينة القادمة من عمق التاريخ المشترك لعرق جبين الطوارق والعرب والزنوج الأفارقة...
كل شيء مثير للإهتمام هنا، حتى خبز المدينة المستدير لا تزال أفرانه الطينية القديمة تقابلك على جنبات الشوارع وكأنها تذكرك بما كتبه الرحالة العربي إبن بطوطة الذي قال حينما زار المدينة عام 1353 من العام الميلادي "إنها مدينة تخبز خبزها في شوارعها".
سألت سنده بوعمامه لماذا تصرون على طمس تاريخ المدينة وقد صنفتها اليونيسكو كتراث إنساني عالمي؟ قال"نحن لم نطمس التاريخ، وإنّما رسمنا له مساره الصحيح.. أنظر إلى باب القيامة الذي فتحناه قبل أسابيع... باب خشبي متهالك في جدار مسجد سيدي يحي، كان سكان المدينة والمناطق المجاورة يعتقدون أنه لن يفتح إلا مع قيام الساعة... مضى على الاعتقاد أكثر من ستة قرون... اليوم فتح الباب ولم تقم الساعة بعد".
حقاً لم تقم الساعة بعد، لكن ساعة تمبكتو أوشكت أن تقوم حسب اليونيسكو وكثير من منظمات المجتمع الدولي... لقد هجرها غالبية سكانها بعدما دخلها تنظيم القاعدة تحت لواء أنصار الدين.
من فندق "مدام ماري ميشل" إلى مقر المحكمة الشرعية الإسلامية
أبو ذر شاب زنجي أفريقي من السكان المحليين.. هو اليوم أحد قادة التنظيم الإسلامي المتشدد، ظهر مرة على إحدى القنوات الفرنسية على أنه من تنظيم "بوكو حرام"... يسخر من الموقف ويقول "غالطتهم فالإعلاميون يريدون ذلك.. كان يهمهم أن أكون من بوكو حرام وأكدت لهم فقط".. هو اليوم يرفض ثقافته القديمة.. يعتبرها جاهلية... "لا ثقافة إلا ثقافة الاسلام الصحيح في زمن النبوة المحمدية، ونحن جئنا للرجوع بالناس الى هذه الثقافة، لا يوجد تاريخ إلا تاريخ هذه الثقافة" يقول.
ثقافة تمبكتو هي ثقافة أخرى، أخذت من هذه وزادت... هي ثقافة إستطاعت المدينة صهرها من عدة ثقافات في بوتقة واحدة صنعت منها ثقافتها الخاصة، ثقافة إسلامية مع توابل من الثقافة الأفريقية القديمة بطقوسها وأساطيرها، بكل شحناتها البدائية.. ببساطة هي ثقافة التاريخ...التاريخ الشيء الوحيد الذي كانت تتغذى عليه المدينة، وتساير الزمن بما تبقى من ذكرياته، مقاومة النسيان، رافضة غروب الشمس في صمت متواضع يتخلل كبرياء الأمس الذي يعيش اليوم غربة حتى في مهده.. هنا حيث جامعة " سانكرا" تحولت الى مجرد مكان لإقامة الصلوات الخمس، وفي أحسن الاحوال شاهد ضمن سلسلة شهود آخرين على حضارة انطلقت من هنا ذات يوم وذاع صيتها في أرجاء المعمور، حتى في البرازيل ودول أمريكا الجنوبية، حيث ما زالت بقايا "حضارة الماندينغ" الممزوجة بالحضارة العربية والإسلامية، وهو ما يفسره بعض الباحثين المعاصرين باحتمال تمركز الأمير التمبكتي أبو بكر الثاني هناك، بعد أن تقطعت أخباره إثر خطوته الجريئة في التاريخ، التي قرر من خلالها البحث عن طريق بحري لوصول مكة المكرمة انطلاقاً من مدينة تمبكتو. جهّز عدداً كبيراً من السفن والعتاد لهذا الغرض، وكانت النتيجة عكس ما خطط له، فلا هو وصل إلى مبتغاه ولاهو عاد، ولم تصل عنه أي أخبار بعد انطلاقته من ضفاف نهر النيجر على بعد أقل من 20 كلم من تمبكتو.
أبو ذر يؤكد أن هذه الحضارة جاهلية في معظمها، وأن الحضارة الحقيقة بدأت اليوم من جديد، هنا حيث فندق "المادام ماري ميشل" صار اليوم المقر الجديد للمحكمة الشرعية الإسلامية... من هنا تصدر الأحكام الجديدة في تمبكتو من منطلق الشريعة الإسلامية ... وغير بعيد، في ساحات الأسواق تطبق الحدود الشرعية امام الناس... الجلد لحدّ الساعة فقط هو الحدّ الذي نفّذ لمرات عديدة.
يتبع..