في ضيافة القاعدة ـ الجزء الثالث
يروي الزميل أبي ولد زيدان رحلته إلى الشمال المالي حيث تسيطر حركات إسلامية مسلحة علي ذلك الإمتداد الصحراوي من الحدود الموريتانية حتى الجزائر. الرحلة لا تخلو من مفارقات ومواقف يرويها على حلقات.
... غادرنا البوابة العسكرية لمدينة كوندام، وبمجرد أن حال الغبار بيننا دون رؤيتها من الخلف، إنفجر يربه ضاحكاً... قلت له ما الذي يضحكك ؟ قال: أضحكني الموقف، فبعد كل هذه السنين من العيش في الصحراء، أقف أخيراً أمام طفل صغير يحمل رشاشه بطريقة تنم عن جهل كامل بأصول القتال ومع ذلك أكون مرغماً على تنفيذ رغباته.
ساد الصمت لبعض الوقت، وبالسرعة التي نزعت بها مشغل الموسيقى أعاده يربه لمكانه. إنبعثت منه أنغام محلية تاركية وكأنها تعيد إلينا الحياة من جديد... كان الطريق شبه معبد فلم تستغرق المسافة بين كوندام وتمبكتو أكثر من ساعة...
اللوحات الإعلانية تنتشر على جنبات الطريق لتذكر المار من هنا أن السيادة على الارض كانت يوماً ما لجمهورية مالي... كل اللوحات مكتوب عليها باللغة الفرنسية "جمهورية مالي- ولاية تومبكتو"، بعضها يتحدث عن منشآت مدنية وبعضها الآخر عن مشاريع تنموية بالتشارك بين مالي وبعض الجهات الدولية المانحة...لقد اختفى كل شيء ولم يعد من وجود إلا لهذه اللوحات التي بدت كئيبة في هذا الفضاء الذي يؤكد أن ظروفاً إستثنائية حقاً تعيشها المنطقة.
اللقاء بطلحة عند بوابة تمبكتو
وصلنا إلى البوابة العسكرية الغربية لمدينة تومبكتو... كان الموقف هذه المرة أكثر رهبة من السابق... حتى المظاهر العسكرية هنا أكثر جذباً للإنتباه.دبابتان متوقفتان بشكل متقابل وفوق كل منهما علم القاعدة يرفرف، وثلاث سيارات من نوع "لاند كروزر" فوق كل واحدة منهما سلاح ثقيل... تقدم إلينا شاب بنفس هيئة سابقه في محطة كوندام، وبعد تبادل التحية، عرفته بفريقي ومهمتي وأخبرته عن اتصالي السابق بسنده بوعمامة. أمرني بالإنتظار، ودخل في مكالمة هاتفية إنزوى بها قليلاً.
كانوا مجموعة في حدود العشرة أغلبهم لم يتجاوز العشرين من العمر... بدا أنهم لم يكونوا على علم مسبق بقدومنا، وفيما زميلهم يواصل مكالمته الهاتفية شرع الآخرون في نزع الأغطية عن المدافع الثقيلة فوق السيارات. وفي دقائق قليلة أعادوا إنتشارهم عند البوابة من جديد. إستلم اثنان منهم كانا شبه نائمين تحت شجرة سلاحهما، ووقفا مباشرة أمام سيارتنا في حالة إستعداد، أما الآخرون فصعدوا إلى السيارات والدبابات...
بعد حوالى ربع ساعة ظهرت سيارة "لاند كروزر" من خلف الغبار قادمة من ناحية تومبكتو... نزل منها شاب وسيم في الثلاثينيات من العمر، طويل القامة وملتحي، قدّم إلينا نفسه باسم "طلحة" مدير أمن البوابات...شاب خلوق وبشوش وعلى محياه إبتسامة تكاد لا تفارقه... سألنا عن الطريق ومشقّته ودخل معنا من دون مقدمات في حديث ودي لاشك كان مهما جداً من الناحية النفسية التي لا أنكر أنها ساءت جداً خلال ربع الساعة الأخير.
طلحة، كما قيل لي بعد ذلك، من أصل ليبي ومن أم عربية من مدينة تومبكتو، دخل التنظيم منذ سنوات عدة، وكان على علاقة خاصة بسيف الإسلام القذافي الذي أهداه السيارة التي يحتفظ بها اليوم في تومبكتو..
سألني ان كنت سأقبل ضيافتهم.. أجبته بأني لا استطيع رفض هذا العرض الكريم من طرفهم، لكني أود لو كان بإمكاني النزول في فندق خاص إذا كان موجوداً.. ردّ علي بأن كل شيء موجود، وأن ما أسمعه من خلال وسائل الإعلام "ليس إلا عملية تضليلية تقوم بها الجهات التي ترفض إقامة شرع الله في بلاد الله".
لم أحلق ذقني منذ أسبوع، ما جعل مظهري لا يبدو مستفزاً للمنظومة القيمية والأخلاقية الجديدة، لكن مشكلتي الرئيسية كانت مع السجائر، فمن الصعب التخلي عن إدمانها خصوصاً في مثل هذه المواقف، إحساس ما يدفعني للإعتقاد انها ستكون أنيسي الوحيد في هذه الرحلة.
انتهزت فرصة الجو الحميمي الذي دخلت فيه مع طلحة، وسألته إن كان بإمكاني التدخين؟ ابتسم وسكت. بعد لحظات قال ماذا تفيدك؟ على الأقل إن لم تكن تهتم بصحتك فقد لا تجدها في المدينة للبيع. إسترحت لإجابته وحاولت إشعال سيجارة لتأكيد ما فهمته منه، لكنه إستبقني قائلاً: اتبعوني...
في فندق الصحراء
سار أمامنا بسيارته، وتبعناه داخل المدينة، إلى أن توقف أمام "فندق الصحراء".. نزل من السيارة وقال لي إذا لم يكن هذا الفندق جيداً بالنسبة لك، فقد تغير رأيك وتقبل الإقامة عندنا في فندق آخر من الفنادق "التي فاء الله بها علينا"... قلت له شكراً جزيلاً، ولكن أظن هذا قد يكفي.ودّعته بعدما وعدني بزيارة قريبة، وسار في طريقه .
اتصلت بصديق قديم يعمل منتجاً لمؤسسة "صحراء ميديا" في مدينة تومبكتو. عثمان آغ عثمان، الجندي المجهول الذي زوّد العالم الخارجي - بصفة حصرية- بصور ما جرى في المدينة على امتداد أربعة أشهر قضاها مع حكام المدينة الجدد.. أعطيته العنوان وخلال دقائق كان معي.
عثمان ، فضلاً عن معرفته بالمدينة بحكم أصوله الطوارقية، يملك علاقات جيدة مع جميع الحركات المتصارعة في الإقليم، لذلك كان مهماً أن أستفيد منه كمرافق ودليل في المهمة.
دلفت الى الداخل، حيث البوابة الرئيسة لـ"فندق الصحراء"، الذي لا يملك من علامات الفندق إلا إسمه وإشارات متقطعة توحي من حين لآخر أنه كان ذات يوم فندقاً من أربع نجوم في مدينة بدا اليوم أنها تغيّرت بشكل كامل.
أتربة الغبار في كل مكان، والقطط هي الساكنة الوحيدة هنا. لقد كان طلحة محقاً إذن، لكن في الحقيقة- لأسباب مهنية- كنت أفضل الإقامة بشكل مستقل حتى ولو كان المكان أشبه بمخزن منه بفندق.
جلست مع عثمان في الصالة الأمامية بعدما أعاد محمد مسيّر الفندق، ترتيبها ونفض الغبار عنها.. بدأت استفسر منه عن المنطقة، وطبيعة العمل فيها، وبحكم خبرته أعطاني التعليمات الأساسية المطلوب التقيد بها للعمل دون مشاكل: لا تقرب الكاميرا من وجه أي أحد، لا تدعه يلاحظ أنك تصوره، وعند مباشرة التصوير في منطقة ما أخبر المسؤول الإعلامي سنده بوعمامه قبل ذلك بنصف ساعة... كانت تلك تقريباً هي كل التعليمات.
فجأة رن هاتف عثمان، وأجاب: تفضل، وقطع المكالمة. إلتفت الي قائلاً:هذا صاحب الشرطة يستأذن في الدخول علينا.
ودون أن يعطيني فرصة لإخراج رائحة السجائر من الصالة دخل آدم... شاب داكن اللون في الثلاثينيات من العمر، من أصول موريتانية كما قيل لي بعد ذلك، قليل الكلام، يلبس بنطالاً عسكرياً قصيراً وأحذية رياضية مع كوفية فلسطينية يلفها فوق رأسه...
تبادلنا التحية وجلسنا جميعاً... مضت ثوانٍ صمت فيها الجميع، قبل أن يبادر عثمان ليعرفنا ببعضنا قائلاً هذا آدم، صاحب الشرطة، كما يفضل أن يسمى مع أني لا اناديه إلا "مسيو لو كومسير" ( نفس التسمية ولكن باللغة الفرنسية).إبتسم آدم إبتسامة خفيفة وقد بدا عليه التأثر من رائحة السجائر، قال له عثمان: معذرة فمراسل الميادين لم يطلع بعد على القوانين الجديدة لذلك كان يدخن في الصالة... ردّ آدم بابتسامة أخرى قائلاً "لا عليك ربما يتفهم دوافعنا لمحاربتها في المرات القادمة".
قال كلمته ووقف مستأذناً في الخروج. قلت له "ألا تشرب شيئاً؟" قال لي "لدي مشاغل وقد جئت فقط لأسلم عليكم وسأعود في وقت لاحق".
بوعمامه: إيران عدو لنا أكثر من أي طرف آخر
لم تمض سوى عشر دقائق بعد خروجه حتى دخل سنده بوعمامه، المسؤول الإعلامي لحركة أنصار الدين والذي كنت قد اتصلت به من باسكنو في موريتانيا.كان مشغولاً في مكالمة هاتفية ومع ذلك تعمد الدخول قبل أن ينهيها... إستغرقت المكالمة أكثر من خمس دقائق ويبدو أنها كانت مع صحفي.. هذا ماعرفته بعد انتهائها حيث خاطبني مباشرة "أنتم الصحفيون لا تتركوا لنا فرصة لمباشرة هموم المواطنين فكل الوقت يمضي في اتصالاتكم ولقاءاتكم وحتى زياراتكم".. قالها مبتسماً وكأنه يريدها بوابة لفتح الحديث من دون رسميات.
قلت له "صحيح ولكن يبدو أنكم سعداء جداً بما تقومون به تجاهنا، وإلا لانشغلتم بمهام المواطنين وبالعالم الذي شغلتموه، وأرحتم صديقي عثمان الذي ترك أسرته وأهله وجلس معكم كل هذه الفترة".
رد بإيماءة خفيفة متظاهراً بالانشغال في هاتفه الخلوي، فهو رجل جاد وذكي ومثقف... تلك هي الصورة التي كانت في ذهني عنه قبل أن ألتقيه، وفعلاً تأكدت لي بعد لقائه.. لذلك كنت متحفظا جداً في كل ما أتفوه به أمامه...
دار بيننا حديث أولي حول الأوضاع في موريتانيا.. عن الجفاف وأزمة الغلاء، ومحاولات المعارضة الموريتانية لخلق ربيع ديمقراطي على غرار ما سمي بثورات الربيع العربي، وأخيرا قال لي "الحل أبسط مما يتصورون، لا يحتاج الى مظاهرات ولا اعتصامات ولا حلول سياسية". سألته كيف ذلك؟ قال "يتطوع أحدهم وينتهز إحدى فرص خروج الرئيس ويطلق عليه رصاصة في الرأس وتنتهي المشكلة".
قلت له "هذا حل دموي والناس تريد الديمقراطية".. ردّ علي بابتسامة لم أفهم معناها، ربما لا يريد الدخول معي في حوار حول هذا الموضوع.. غيّر مجرى الحديث، هذه المرة حول قناة الميادين، ما هو خطها التحريري ومن يقف وراءها؟ أجبته، ولكن يبدو أن أفكاراً مسبقة لديه، حالت دون تفهم ردودي...أخيراً قال لي: أنا لا أعرف، ولكن أعرف أن غسان بن جدو كان يعمل في طهران ولديه أيضاً علاقات جيدة مع حزب الله وقد تابعته في مرات سابقة وفهمت منه أنه ضد أهل السنة وأنه منحاز للشيعة..
قلت له بغض النظر عن موقفك الشخصي منه وتصنيفك له في صراع طائفي لا أساس له، لماذا لا تنظر إلى مواقفه من القضية الفلسطينية والقضايا الإسلامية والعربية بصفة عامة؟ قال لي تلك هي القضايا التي تحاول إيران من خلالها إيهامنا بضرورة قيام تحالف سياسي بيننا وبينها وقد حاولوا مراراً... لكن الحقيقة أنهم أعداء لنا أكثر من أي طرف آخر!
حاولت تغيير مجرى الحديث بعدما بدا لي أن لا فائدة ترجى من ورائه... سألته عن إدارة تومبكتو والحرب المتوقعة ضد قوات المجموعة الإقتصادية لدول غرب أفريقيا التي تحشد قواها من أجل استصدار قرار أممي بالتدخل لتحرير مدن الشمال المالي...أجاب بسرعة وهو يستعد للمغادرة "الأمر ليس أكثر من حرب إعلامية" مضيفاً "سنكمل الحديث في وقت آخر فلدي مشاغل في المدينة وأنتم بحاجة إلى الراحة، إذا احتجتم أي شيء فلا تترددوا بالإتصال".لوّح بيده وخرج من الصالة، أشعلت سيجارة واحتسيت آخر قطرة من كأس شاي أعدّها لي محمد مسيّر الفندق، ثم دخلت إلى غرفتي لأستريح.
الليلة الأولى في تمبكتو
الكهرباء غير موجودة ورائحة الغبار تملأ المكان، أخبرني محمد أن العمل توقف في ثلاث من المولّدات الكهربائية وبقي واحد فقط، منذ وصل الإسلاميون إلى المدينة، حيث يتمّ توزيع الكهرباء بين أحياء المدينة بالتناوب، وبالتالي لن نجدها في الفندق إلا في اليوم التالي ولفترة محددة تبدأ من الخامسة مساء حتى الرابعة صباحاً.
وقفت أستنشق الهواء عبر نافذة الغرفة فبدت المدينة وكأنها مقبرة، فباستثناء الشارع الرئيسي المعبّد الوحيد الذي يربط بين المطار ووسط المدينة، تلف الظلمة والسكون كل شيء، أضواء وأصوات محركات السيارات التي تمر عبر الشارع الرئيسي وحدها تشكّل الإستثناء، على الأقل في الحي الذي يوجد فيه الفندق.
فكّرت للحظة بالإتصال بطلحة ولكني في النهاية إستسلمت للواقع، وطلبت من محمد أن يحوّل فراشي إلى السطح حتى أتمكن من النوم.
درجات الحرارة مرتفعة جداً حتى ولو كانت الشمس قد غابت منذ ساعات، وجيوش البعوض الإفريقي ذات الشهرة السيئة تستعد للهجوم.. كانت حقاً ليلة صعبة.. هي ليلتي الأولى في تمبكتو.