مدينة طرابلس اللبنانية: صراع سياسي وأمني لا يتوقف- الجزء الرابع
حتى العام ١٩٧٥، عام اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، لم تشهد محلة باب التبانة، بحييها التبانة وبعل محسن، أية صراعات داخلية. فقد كانت المنطقة منضوية في الاصطفاف اليساري-الإسلامي الداعم للمقاومة الفلسطينية في لبنان والمعروف ب”الحركة الوطنية اللبنانية”
الحرب الأهلية ١٩٧٥ وما بعدها
ضم هذا الاصطفاف قوى وتنظيمات منها الموالي لسوريا كمنظمة "حزب البعث العربي الاشتراكي" و"منظمة الصاعقة" و"الحزب العربي الديمقراطي" وحركة "أمل"، ومنها الموالي للمقاومة الفلسطينية بقيادة "فتح" ورئاسة ياسر عرفات، ومعها أحزاب وقوى لبنانية وفلسطينية أمثال الجبهات "الشعبية" و"الديمقراطية"، و"الحزب التقدمي الاشتراكي" و"الشيوعي اللبناني"، ومنظمة العمل الشيوعي"، وتيار واسع من "القومي السوري الاجتماعي"، وحركة "٢٤ تشرين" الطرابلسية، وآخرين.
انقسام الاصطفاف الوطني اليساري-الإسلامي
انقسم الاصطفاف اليساري الإسلامي سنة ١٩٧٦، بين مؤيد لسوريا أو مؤيد لعرفات. وأعلنت قوى ك"أمل" والبعث" والصاعقة الانشقاق عن الحركة الوطنية اللبنانية، والوقوف إلى جانب سوريا، بينما وقفت بقية القوى إلى جانب عرفات، وخيضت بين الجبهتين صراعات عسكرية، أدت إلى سيطرة تحالف القوى المتحالفة مع سوريا على الساحة التي كانت تعرف بالساحة الوطنية، خصوصا بعد دخول الجيش السوري إلى لبنان كقوة ردع عربية لوقف الحرب الأهلية بقرار عربي وغطاء دولي.
وكان لمحلة باب التبانة حصتها في الصراع، حيث شن تحالف يساري وفلسطيني، من ضمنه حركة "المقاومة الشعبية"، هجوما على حي بعل محسن كموقع موال لسوريا، نجم عنه تهجير سكانه بالكامل. إلى أن انتهت الأحداث لكن لتؤسس للصراعات التي ما زالت طرابلس تدفع ثمنا لها. فالهجوم على حي بعل محسن أسس للصراع اللاحق الذي ما زالت المدينة تعيشه من فترة إلى اخرى.
وقد سبق أن تأسست قوة في جبل محسن عرفت ب"جبهة المواجهة الوطنية" التي تحولت إلى "الحزب العربي الديمقراطي" بداية السبعينات، وهو امتداد وتحول لحركة عرفت قبيل الأحداث ب"حركة الشباب العلوي" يقودها الشاب المتخرج من الجامعة الأميركية في بيروت علي عيد حاملا لواء الدفاع عن طائفته. ولا بد من التذكير أن عيد هو الشاب الذي تلقى طعنة من سعودي في الجامعة الأميركية، وانتصرت له في حينه، مجموعة علي عكاوي التي عرفت ب"الغضب" والتي كان لها امتداد في بعل محسن.
وفي غمرة ردود الفعل على ذيول الأحداث التي وقعت ١٩٧٦، شعر المنتصر بقدرة على الثأر، خصوصا أنه مدعوم من الجيش السوري المسيطر بقوة على الأرض تحت عنوان قوات الردع العربية.
استأنس "الحزب العربي الديمقراطي" قوة في موقفه بعد توقف أحداث ١٩٧٦، وسيطرة الجيش السوري على الموقف، فتحولت عناصر منه للثأر من شباب باب التبانة إن في حركة "المقاومة الشعبية"، أم في غيرها، الذين افترض مشاركتهم في صراعات الانقسام في الصف اليساري-الإسلامي. وتكررت هذه الأحداث مما شحن النفوس، إلى أن بدأ ابناء التبانة، بدعم من "المقاومة الشعبية" بالتصدي لذلك.
عندما كانت المحاولات تتجدد، كانت تجابه بنزول شعبي إلى الشارع يجابه القوى الداخلة إلى المنطقة لأخذ رجال جدد، حتى لو كان الجيش السوري حاميا للداخلين إليها. وبدأت تتظهر حركة مقاومة للتدخل السوري في المنطقة. ومع كل تحرك ذي طابع مقاوم، كان جمهور المنطقة يلتف حول الحركة، ويشارك بالتصدي لمحاولات الخطف.
وتطور الموقف إلى التصفية المباشرة دون الاضطرار للدخول إلى المنازل، وبدأت أعمال رد الفعل تكبر لتأخذ أبعاد المواجهة المسلحة وتبادل إطلاق النار على نطاق الأحياء. وتضخمت الصراعات، وكبرت، وكانت كلما ازداد حجمها ازداد مؤيدو "المقاومة الشعبية" في أوساط المدينة، وانضم إليها كثيرون من مختلف الأحياء.
مطلع الثمانينات بدأت اعتداءات تأخذ طابعا سنيا- علويا للمرة الأولى، دون أن تتوافر بحوث وتحقيقات عن كيفية وقوع هكذا أحداث. هل هي عفوية أم بتدخل خارجي؟ لم يكن أحد يفكر بذلك. وتفاقم الصراع وكبر، وتداخل مع الصراعات الاقليمية، فإذا وقع خلاف بين القيادتين السورية والفلسطينية، انفجر الوضع الأمني بين التبانة وجبل محسن.
ويتفاقم الصراع واصلا إلى ذروته مع اندلاع احداث "الأخوان المسلمين" في سوريا أوائل الثمانينات، ولم يكن ينقص الصراع المحلي في طرابلس إلا أن يؤيد طرف السلطة (الجبل) والآخر يؤيد الأخوان (التبانة).
في ظل هذه المعمعة، كان من الطبيعي أن تتدخل اطراف مع هذا الفريق وأطراف مع الفريق الآخر. فكبرت المواجهة في المدينة، وتعقدت، وتداخلت الأمور ولم يعد أحد يعرف من يحرك الشارع الذي خرج عن أية إمكانية ضبط. وانتهت الأحداث في سوريا بسيطرة النظام على الموقف في ١٩٨٢.
تحولات تؤسس لحركة التوحيد الإسلامي
سنة ١٩٨٣،ظهرت إلى العلن حركة سياسية-عسكرية جديدة عمادها حركة "المقاومة الشعبية" التي كانت بلغت قوتها العسكرية العشرين فصيلا (نحو ٥٠٠ مقاتل) آنذاك والحركة الجديدة هي "حركة التوحيد الإسلامي" التي ضمت أيضا قوى أخرى، منها المتحالف مع فتح، ومنها الإسلامي، وأوكلت قيادتها إلى خطيب إحدى مساجد المدينة (التوبة) الشيخ سعيد شعبان.
ظهرت الحركة بعد تصاعد التيارات الإسلامية المتأثرة بالثورة الإيرانية، وكانت الكثير من القوى السياسية ذات التوجهات اليسارية تعاني أزمات إيديولوجية وسياسية فتحول العديد منها نحو الإسلام، والتقت عدة شخصيات وتجمعات لتشكل الحركة الجديدة التي أضافت تجربة سياسية جديدة على المدينة لم تشهدها من قبل.
لم يمض وقت طويل على الإعلان عن تأسيس "حركة التوحيد الإسلامي"حتى احكمت سيطرتها على المدينة بعد أن أخلتها من كل القوى المتواجدة فيها، بهجومات واسعة على مراكزها واحدة تلو الأخرى، وتصفيتها، وإنهاء وجودها في المدينة.
وتواصل الصراع بأشد ما سبق بين جبل محسن وباب التبانة لكن بقيادة الحركة الجديدة- "حركة التوحيد الإسلامي”- التي احتضنت قوات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات في صراعه مع خصومه في "فتح" في ما عرف بحرب المخيمات بين "فتح" الرسمية و"فتح الانتفاضة” سنة ١٩٨٣.
واستمرت الصراعات والتجاذبات في المدينة حتى عام ١٩٨٥ عندما قام الجيش السوري والقوى المتحالفة معه، المتضررة من سيطرة حركة التوحيد سابقا، بشن هجوم واسع على المدينة ليسيطر عليها، ووجه ضربة قاسية إلى "حركة التوحيد الإسلامي”، وأنهى سيطرتها على المدينة.
شهور قليلة مضت فجرى اغتيال خليل عكاوي في شباط ١٩٨٦، وكرد فعل على ذلك، وقعت أحداث كبيرة بعد شهر وانتهت بمجزرة وقعت في باب التبانة، دخلت المدينة بعدها في حالة مغايرة، لكن مع الاحتفاظ بقوة رمزية لحركة التوحيد تموضعت في محلة أبي سمراء.
بعد ١٩٨٦، سكتت البنادق بين المنطقتين، وعادت الحياة إلى طبيعتها ببطء، وعاد سكان الحيين، الجبل والتبانة، للتواصل. وبدأت الحياة تدب في أكبر الشوارع التجارية في المدينة وهو شارع سوريا الفاصل بين الحيين المذكورين.
وعند دخول البلاد مرحلة اتفاق الطائف، انعكس الواقع المستجد على استمرار الهدوء في المدينة، ودخولها مرحلة جديدة في ظل تحالف بين سوريا والسلطة اللبنانية عمادها رئيس الحكومة رفيق الحريري.
إعادة إنتاج الصراع: عود متأخر على بدء
ومع تطورات الحياة السياسية وتجاذباتها، ووقوع إشكالات وخلافات بين السلطات السورية والحريرية، واشتداد التجاذب، وجدت الحريرية في الشارع الطرابلسي إمكانية شعبية داعمة لها، فتوجهت منها بطرق شتى ومنها تعبئة الشارع على قاعدة مذهبية سبق أن تأسست بشكل ما في سنوات الصراع في الثمانينات.
خمد البركان حتى عام ٢٠٠٨، وعاد للتفجر على خلفية الصراعات التي أعقبت اغتيار رئيس الحكومة رفيق الحريري، وتوجت بما عرف بأحداث السابع من أيار ٢٠٠٨. فردا على السابع من أيار في بيروت، أعاد مناصرون ل"تيار المستقبل" فتح النار على محلة بعل محسن، لتشتعل الجبهة الصامتة منذ سنين لكن على خلفية التجاذبات السياسية اللبنانية الداخلية وارتداداتها الاقليمية.
عام ٢٠٠٨، وضع اتفاق لوقف الصراع في التبانة، لكنه تجدد في ٢٥ كانون الثاني ٢٠١١ عند تسمية ابن المدينة نجيب ميقاتي رئيسا للحكومة خلفا للرئيس السابق سعد الحريري، وتكرر الاشتباك عند إعلان تشكيل حكومة ميقاتي في١٣ حزيران ٢٠١١، ثم على خلفية الأحداث السورية في ١٥ أيار ٢٠١٢، بعد أن شهدت المدينة الكثير من التحركات المؤيدة للمعارضة السورية، حيث عاد تبادل إطلاق النار بين المحلتين، التبانة المؤيدة للمعارضة السورية، وبعل محسن المؤيد للنظام.
كما جرت جولة أخرى على الخلفية عينها أوائل حزيران ٢٠١٢، ولا يزال الصراع قابلا للتفجر بين لحظة وأخرى وفقا لحاجة القوى المتصارعة.
لا يكتمل البحث في قضايا متشعبة وكبيرة كقضايا مدينة طرابلس وإشكالاتها بملف صغير. يبقى الكثير للتحقق في التطورات التي جرت في المدينة خصوصا في مرحلة الستينات وما بعد، مثل إشكاليات تشكل القوى المحلية في الستينات ومطلع السبعينات في باب التبانة، وحركة "٢٤ تشرين" بقيادة فاروق المقدم، نجل الشخصية الطرابلسية التي قتلت في حادثة عودة فوزي القاوقجي إلى المدينة، ونشوء "حركة التوحيد الإسلامي"، وحيثياتها، وتنامي التيار السلفي، إلى مواضيع أخرى.