مدينة طرابلس اللبنانية: صراع سياسي وأمني لا يتوقف- الجزء الثالث
مضى النصف الأول من القرن، وبدأت تفاعلات الأحداث الداخلية والخارجية تلقي بظلالها على الأحياء الفقيرة، خصوصا منطقة باب التبانة. فالمحلة تتشكل من خليط من العائلات المحلية، وأخرى الوافدة من الأرياف المجاورة.
الستينات وصعود الناصرية والمقاومة الفلسطينية
وكانت المنطقة تعرف بسوق الذهب حيث تركزت فيها تجارة مزدهرة منذ مطلع القرن، وتطورت مع تطور الحركة في مرفأ المدينة، وفتحت فيها الأسواق التجارية تستقبل المنتوجات الزراعية والصناعية الطرابلسية ومن الجوار، ومن سوريا أيضا، وتنقل إليها المستوردات من الخارج عبر مرفأها بواسطة الترامواي تجره الأحصنة عبر خط سكة الحديد الممتد من المرفأ عابرا المدينة الجرداء مطلع القرن، ووصولا إلى باب التبانة.
تنامي الحركة التجارية في التبانة
نما سوق القمح خارج بوابة المدينة المملوكية القديمة، وامتد إلى سوق الخضار، فالخانات، ومنها إلى الشارع الذي عرف بشارع سوريا، صلة الوصل بين الأرياف والداخل السوري مع المدينة، وهو اكتسب تسميته بسبب تركز الحركة التجارية مع المدن السورية فيه، خصوصا حمص وحلب.
شكل شارع سوريا المعبر من أي نقطة خارج المدينة لجهة الشرق (زغرتا والضنية) والشمال (المنية وعكار)، إلى بقية الأحياء (الزهرية والتل) التي راحت تنمو ببطء وبالتدريج عقب بدء خروج المدينة من نطاقها الداخلي المملوكي إلى افقها الحديث، ذلك الخروج الذي بدأ ببناء السراي العثمانية أواخر ثمانينات القرن التاسع عشر.
ومن سوق القمح إلى شارع سوريا، ضاقت المحلة بسبب الازدحام التجاري، وبالوافدين. ونمت فيها المطاعم والفنادق، والمقاهي لتأمين استراحة التجار والزوار اللبنانيين والسوريين.
مطلع الستينات، خرجت المدينة من احداث ١٩٥٨، وانضم زعيم الثورة طرابلسيا، رشيد كرامي، إلى الحلف الشهابي الذي استلم السلطة. وكان لبروز الناصرية تأثير وصدى كبير في المحلة.
الستينات وأوائل السبعينات: سلطة محلية شعبية الطابع
شهدت التبانة في الستينات إرهاصات تشكلات محلية شبابية غلب عليها الطابع اليساري الرافض، منها "مجموعة العمل الاشتراكي"سنة ١٩٦٧، التي تحولت إلى "اللجان الشعبية المستقلة"، بعلاقة مع حركة "فتح".
كما برز شاب عفوي ناصري يساري هو علي عكاوي الذي اشتغل في جريدة "الأنوار" الناصرية، بوساطة من الطامح السياسي آنذاك جان عبيد، وبنى صلات مع حركة علي شعيب ومرشد شبو، ثم مع الجبهة الشعبية-القيادة العامة، ونقل وعيه اليساري إلى منطقته. كان علي شعبيا، عفويا في تصرفاته، وصادقا في قناعاته، فمال إلى خدمة الناس بمغامرات مختلفة. وأسس حركة أطلق عليها أسم "الغضب"، وخاض باسمها مع رفاقه تحركاتهم المدافعة عن المطالب التي تهم الناس في مختلف المجالات.
ويروي محمد العجم-أحد قدامى رفاق علي عكاوي - ما كانت مجموعتهم تمارسه في خدمة المواطنين من أبناء حيهم الفقير والمهمل. قال ل"الميادين نت" أنه "انضم إلى مجموعة علي عام ١٩٧٠، وكانت للمجموعة تطلعات ماركسية. تركز تحركنا على المطالب المعيشية للمنطقة، وتأثرنا بتشي غيفارا واستلهمنا من تجربته مسألة العنف الثوري، ولذلك لم نكن نتورع عن الاصطدام بالسلطات الأمنية، فدخل كثيرون منا السجن. وقتل منا شخص عرف ب"أبو العفاريت" وهو محمود النعمان".
ويعرض رواية تمثل جانبا من ممارساتهم في خدمة أبناء المنطقة: "عندما كانت الحكومة تقوم بحملات تلقيح عامة، غالبا ما كانت تستثني منطقتنا. قررنا ذات يوم مصادرة كميات من اللقاحات لتلقيح أبناء المنطقة. فأرسلنا طفلا مع أحد أعضائنا ليتلقى التلقيح في أحد المراكز. عند تلقيح الطفل راقب رفيقنا من أي قنينة أخذت العينة. وبعد انتهاء تلقيح الطفل، خطف القنينة وهرب بها مسرعا إلى المنطقة. أحضرنا ممرضا متطوعا، وقام بإعطاء اللقاحات للأطفال بالمجان. وعندما نفذت الكمية، كنا نرسل شخصا إلى أحد المستشفيات القريبة، ويدخل خلسة في الليل من نافذة، ويأتي بقنينة مماثلة، وهكذا كنا نلقح أطفال المنطقة".
ثم روى كيف انضم علي عكاوي إلى حركة الفلاحين المناهضة للإقطاع في عكار، وناصر الفلاحين، وقام معهم بتفجير خزانات المياه للبكوات. وكان الدافع لمناصرة الفلاحين منطلقا من وجهة نظر ماركسية، "لكن السلطة كانت أقوى منا حيث لم يكن لدينا من سلاح سوى ثلاثة قطع، غوستابو ألماني، وبورسعيد، وقنبلة يدوية".
وتابع: طاردتنا الشرطة، فهربنا واختبأنا في بعل محسن فالناس فيه ناصروا الحركة الفلاحية أيضا. كانت علاقتنا ببعل محسن علاقة وطيدة، فعندما ضرب سعودي علي عيد بالسكين، ذهب وفد منا برئاسة علي إلى المحكمة العسكرية لمواجهة السعودي الذي طعنه بالسكين".
ويضيف: في السبعين أيضا، اعتقلت مجموعة منا في تشرين الثاني، فقد تشكلت بيننا مجموعات ثورية منها من حمل اسم "أشبال لينين"، أو "حركة ١٥ تشرين" ذكرى اعتقالهم. اعتقلت مجموعة كبيرة لأن أعضاءها أرعبوا المدينة بإلقاء المتفجرات ضد السلطة، لكن علي هرب واختبأ عند أحد معارفه في الضنية وهو أحمد آغا. ومن لم يتم اعتقاله هرب إلى البساتين. وخلال ملاحقة الأجهزة لعلي، اشتبكت معه، وأصيب فاعتقل، وبقي ٣ سنوات في الاعتقال إلى أن توفي في السجن في ظروف غامضة".
وبذلك انتهت تجربة علي عكاوي ومجموعته "الغضب".
خلافات القوى المحلية
كما يروي أحد أعضاء منظمة "الغضب" محمود الأسود (أبو عبد الله) بعض الوقائع عن تجربة علي، ويقول ل"الميادين نت" أن الأفرقاء الحزبيين والمجموعات المحلية في التبانة اتهمت علي عكاوي بالتهور السياسي، ولم يتورع هو في ظل تأييده للحركة الفلاحية في عكار عن تفجير خزانات المياه التابعة للقوى الاقطاعية في عكار، كما قام فريق من مجموعته بإلقاء قنبلة على المستوصف الشعبي التابع لحزب البعث العربي الاشتراكي بقيادة الدكتور عبد المجيد الرافعي، بسبب الخلافات السياسية بين المجموعتين، فاعتقل علي أوائل السبعينات لثلاث سنوات، إلى أن توفي في السجن.
أضاف الأسود أن حركة علي كانت تضم في صفوفها فقراء ابناء المذهبين بصفتهم أبناء منطقة واحدة، وحي واحد، وانتماء واحد، ولم يكن للنزعة المذهبية حظ بالتسرب إليهم، لا بل أن امتداد حركة علي خارج باب التبانة كانت في السهل العكاري، وتحديدا في قرى فلاحي السهل حيث غالبية علوية”.
ورغم الاختلافات بين المجموعات المحلية، فقد كان يدور بينها تعاون على مستوى الخدمات للمحلة.
بروز "المقاومة الشعبية"
تطور هام دخل على المنطقة لم يكن أحد يتوقع أن يغير وجه المدينة، والحركة السياسية فيها، وهي نشوء تجربة خليل، شقيق علي عكاوي، في تنظيم أسمي ب"المقاومة الشعبية".
رافق خليل تجربة شقيقه منذ صغره، فكان شعبيا من جهة، وعنفيا من جهة ثانية. وواكب حركة "اللجان الشعبية" لكن دون الالتزام بكل توجهات قيادتها وأعضائها.
يدخل على الخط في هذه الفترة أحد كوادر حركة فتح الذي عرف ب"عاصي"، وهو روجيه نبعة. كان روجيه (عاصي) صديقا للقائد الفلسطيني الدكتور محجوب عمر، الذي تولى مسؤولية قيادة حركة "فتح" في الشمال عام ١٩٧٤، وكلف صديقه روجيه بمهام مدينة طرابلس، وأشاع عمر الخبر في المدينة فبدأت الوفود تؤمه للتعرف عليه.
وزار خليل روجيه وتعرف عليه، فقد سبق لعاصي أن انشق عن منظمة العمل الشيوعي سنة ١٩٦٩، وشكل مع مجموعة من أصدقائه ما كان يعرف باسم "نواة الشعب الثوري"، وكلف التنظيم الجديد روجيه بالتوجه للعمل في صفوف حركة فتح.
كان خليل شقيا كأخيه، يصفه روجيه بقبضاي فوضوي، ويقول أنه خاض معه ابتداء من ١٩٧٤ تجربة سياسية محلية بلورت توجهاته نحو عقلانية أكثر وفوضوية أقل، حتى تأسيس حركة "المقاومة الشعبية" ١٩٧٤.
شارك في التأسيس مجموعة من الشباب المتنوع الانتماءات المذهبية، لكن بطابع يساري، ماركسي، شعبي، يستلهم تجارب شعوب العالم الثالث كالصين الماوية، وفييتنام، وكوبا.
خاضت "المقاومة الشعبية" الحرب الأهلية بممارسات خدماتية شعبية في باب التبانة وفق لنظرتها الماركسية، فكانت تؤمن الإضاءة الليلية للمحلة، والحراسة، والمساعدة في الطبابة، والشؤون الاجتماعية المختلفة، فلقيت استحسانا شعبيا.