مدينة طرابلس اللبنانية: صراع سياسي وأمني لا يتوقف - الجزء الثاني

بدخول طرابلس مرحلة الاستقلال، بدأت حياتها السياسية تخضع للمعايير اللبنانية، وأولها محاولات تفريق رئيس الجمهورية الجديد بشارة الخوري بين ال كرامي وآل الصلح- العائلة الصاعدة بيروتيا.

مرحلة الإستقلال

الفرنسيون في طرابلس

فبعد وصول رياض الصلح إلى رئاسة الحكومة، برزت خصومات لآل كرامي أبرزها نافذ المقدم، تمثلت الخصومة بتأسيس فرع ل"حزب النداء القومي" التابع سياسيا لآل الصلح، في طرابلس ترأسه في المدينة قبولي الذوق.

وبدأ نجم آل كرامي بالصعود عند تولية عبد الحميد رئاسة مجلس الوزراء بعد استقالة رياض الصلح.

وتطبع حادثة أمنية تاريخ المدينة بعد دخولها المبكر في الحياة السياسية في الكيان الجديد، يرويها ميقاتي: “أثناء استقبال طرابلس لابنها البار فوزي القاوقجي العائد إليها بعد غيبة طويلة قضاها في محاربة الاستعمار والصهيوينة، وقيام نافذ المقدم بتنظيم الاستقبال، يتزاحم عليه مع مظهر العمري، وقع حادث خطير إذ لم يكد يصل الموكب إلى ساحة التل، حتى وقعت معركة بين أنصار المقدم، وبين مظهر العمري، وانهال الرصاص من جميع الجهات وذهب ضحيتها نافذ المقدم ومظهر العمري وعدد كبير من الأشخاص الأبرياء".

بروز رشيد كرامي رئيس الوزراء الأسبق

ويردف ميقاتي أنه "لم يكن للزعيم كرامي، أو لأحد من جماعته أي اصبع في المجزرة". وتلقي الحادثة بظلالها على آل كرامي حيث اعتكف عبد الحميد عن العمل السياسي تاركا الساحة لنجله رشيد الذي ووجه بمنافسة من عمه مصطفى.

وتظل المدينة في الفترة الممتدة بين ١٩٤٣ وحتى ظهور الناصرية، في صراع محلي عبر الزعامات العائلية بالطريقة السياسية التقليدية.

أعادت الناصرية الحنين الطرابلسي لفكرة دولة الوحدة العربية، فناصرتها، واتخذت موقفا مناوئا لموقف رئيس الجمهورية كميل شمعون بتقربه من حلف بغداد، وأعلنت العصيان على الدولة بحركة ثورة ١٩٥٨ بقيادة رشيد كرامي. وعند انتهاء أحداث ١٩٥٨، وظهور الشهابية بطابع عروبي، تقرب رشيد كرامي منها، ودخل في صميمها، ودخلت طرابلس معه مرحلة من الاستقرار.

استمرت المدينة مستقرة ومتطورة لم يعكر صفوها، وتناميها على مختلف الصعد أي حادث كبير يذكر، اللهم إلا غضبة الطرابلسيين في هزيمة ١٩٦٧، حيث نزلوا الشوارع وحطموا كل ما هو اجنبي.

رئيس الوزراء الأسبق رشيد كرامي

ظهور الأحزاب الحديثة

جمال عبد الناصر ورشيد كرامي

وفي عام ١٩٦٨، تصاعد حضور المقاومة الفلسطينية في لبنان، فناصرها الطرابلسيون، ونشأت فيها ظاهرة "حركة ٢٤ تشرين" بقيادة فاروق المقدم، نجل الزعيم المقتول في حادثة طرابلس الأربعينات نافذ المقدم.

وكانت المدينة شهدت تناميا بطيئا للأحزاب التي ظهرت بعيد ظهور الكيان اللبناني وتشكل لبنان الكبير، فظهر الحزب الشيوعي اللبناني أواخر العشرينات تحت شعارات مطلبية -اجتماعية، ولحقه الحزب القومي (السوري القومي الاجتماعي) أواسط الثلاثينات، ولقيت دعوته تجاوبا من العديد من العائلات نظرا لدعوته الانضمام إلى سوريا، لكن موقف الحزب ١٩٥٨، إلى جانب رئيس الجمهورية كميل شمعون مناصرا لحلف بغداد، ومعاديا للناصرية، وجه ضربة للحزب حيث فقد كثيرون من أعضائه إيمانهم بما يطرحه.

وإلى "الناصرية" و"القومية العربية"، برز "حزب البعث العربي الاشتراكي"، وكانت له اصداء إيجابية، ولقي تأييدا واسعا من الجمهور، ساهمت فيه خدمات اجتماعية وصحية قام بها أحد قادته عبد المجيد الرافعي، الذي تمكن من خرق اللائحة الكرامية في انتخابات ١٩٧٢.

واكتمل عقد الحركات السياسة ذات الطابع الحزبي قبيل ١٩٧٠ ببروز "حركة ٢٤ تشرين" كما سبق ذكره.

ويمكن سرد الأحزاب التي شهدتها المدينة في النصف الأول من القرن العشرين ب"حزب الشباب العربي (كرامي)، و"حزب النداء القومي" (الذوق)، و"الاتحاد العربي" (سالم كبارة)، والحزب الشيوعي اللبناني، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والحركة الناصرية، والقوميون العرب، وحزب البعث، وحركة ٢٤ تشرين أواخر الستينات، وحزب التحرر الإسلامي، والجماعة الإسلامية، وظهرت مكاتب لحزبي الكتائب والأحرار الشمعوني.

على الصعيد الإسلامي، يشرح أحد مؤسسي حركة التوحيد الإسلامي الشيخ ابراهيم الصالح، أن التيار الإسلامي بدأ بالظهور في المدينة مطلع الخمسينات، وكان يفترض أن يلعب دورا متقدما، لكن سطوع الناصرية، وتأثر الناس بها، أدى إلى تهميش دور التيار الإسلامي، وتحول التيار إلى الطابع التثقفوي خصوصا مع تفاقم النزاع بين تيار "الأخوان المسلمين" وعبد الناصر في مصر.

ولم يلعب التيار الإسلامي أي دور حتى اندلاع الحرب الأهلية ١٩٧٥ عندما شاركت بالأحداث "الجماعة الإسلامية" التي أسسها مطلع الستينات المشايخ فتحي يكن وسعيد شعبان وفيصل المولوي ردا على إعدام سيد قطب، وعرفوا بداية ب"عباد الرحمن" التي ترأسها في بيروت عمر الداعوق، وكان طابعها دعويا بحتا.

على صعيد التيار السلفي، فقد برز قبل ظهور حركة "الأخوان المسلمين" في مصر، لكن بمبادرة فردية من الشيخ سالم الشهال، والد مسؤول التيار السلفي حاليا الشيخ داعي الإسلام الشهال.

الشيخ ابراهيم الصالح أحد مؤسسي حركة التوحيد الإسلامي

التنوع الحزبي في طرابلس يخلق حياة سياسية متفاعلة

فاروق المقدم

ويبقى تيار جمعية المشاريع الخيرية، وحزب التحرير، وبقي تأثيرهما هامشيا.

وتتلخص الأحزاب بما هو محلي-عائلي، وبما هو عقائدي، وقومي عربي، إلى إسلامي شمولي. لكن الأحزاب التي حملت فكرة القومية بمختلف ابعادها راجت في المدينة أكثر من سواها.

وقد خلق هذا التنوع الحزبي حياة سياسية متفاعلة، استخدمت فيها شتى أساليب الصراع والمواجهة، من السلمي حينا، إلى المسلح أحيانا أخرى.

أما كيف انعكس هذا التنوع الحزبي على الحياة السياسية المتمثلة بالانتخابات النيابية، فيمكن رصد امتدادات انقسام العائلات بين موال للانكليز وموال للفرنسيين، وامتدادات ذلك الانقسام بعد الجلاء، في انتخابات كانت تخاض على أساس لوائح متكاملة من الطرفين العائليين غالبا، وبدأت الأحزاب العقائدية تدخل إلى خط الانتخابات بعد أن أعطى وزير الداخلية كمال جنبلاط لها الحق بالعمل المعلن سنة ١٩٧٢، فترشحت إلى الانتخابات لأول مرة في المدينة لائحة حزبية ضمت فاروق المقدم (٢٤ تشرين) ونقولا الشاوي (الحزب الشيوعي اللبناني) ورشيد درباس (قوميون عرب).

كانت تلك المعركة الانتخابية آخر انتخابات جرت في لبنان قبل اندلاع الحرب الأهلية ١٩٧٥. لكن تطورات هامة كانت تتفاعل في الجانب الآخر من المدينة، وتحديدا في باب التبانة، وهي تطورات أسست للمرحلة التي تلت ١٩٧٥.

اخترنا لك