في ضيافة القاعدة - الجزء الأول

يروي الزميل أبي ولد زيدان رحلته الي الشمال المالي حيث تسيطر حركات إسلامية مسلحة علي ذلك الإمتداد الصحراوي من الحدود الموريتانية حتى الجزائر. الرحلة لا تخلو من مفارقات ومواقف يرويها على حلقات.

مدينة باسكنو على الحدود الموريتانية المالية

مدينة باسكنو على الحدود الموريتانية المالية غارقة في الوحل من آثار المطر الذي تساقط في الليلة الماضية. السير عبرالطرقات الضيقة ليس بالأمر السهل في هذه الأيام، فالمدينة تقع في سهل منخفض ما جعل تربتها الداكنة لا تتحمل ما يفوق العشر مليمترات من الماء.. الوحل يعكر صفو الحياة التي بدت داخل السوق المركزي في أوج نشاطها...ملثموا الطوارق وعرب أزواد وزنوج السونغاي والفلان وعرب البيظان الجميع منشغلون في هموم الحياة اليومية، وكان ما يحول بيني مع الاستمتاع بالمشهد لا يعنيهم ... السيارات رباعية الدفع تمر من كل مكان محملة بالأشخاص والبضائع من وإلى الأسواق الأسبوعية في ضواحي المدينة الحدودية.

بالامس كنت قد اتخذت قراري الجديد، بعدما فهمت من وزير hلتقنيات الحديثة السيد محمد الأمين ولد أحمد، أن مسيرتنا المبرمجة مسبقاً من باسكنو إلى قرية بوجبيهة على بعد 200 كلم شمال مدينة تومبكتو لتغطية فعاليات مؤتمر الجبهة العربية لتحرير أزواد، لم تعد ممكنة، كان تبريره أن حركات إسلامية متشددة حذرتهم من عقد المؤتمر في إقليم أزواد، ولم يعد أمامهم من خيار إلا التحدي والمجازفة...

بطريقة مرتبكة وبصوت متلعثم قال لي: إذا كنت مستعدا للمجازفة فتفضل معنا!

أجبته كما كان يتوقع مني تماما، فقد فهمت الرسالة. قلت له من دون تردد لن أجازف...أجابني: تصحبك السلامة!

كان حديثاً موجزا، على غير العادة في المرات السابقة.

على وقع الصراع داخل الجبهة، الحركات الإسلامية تدخل على خط اللعبة السياسية والعسكرية

كان حديثاً موجزا، على غير العادة في المرات السابقة.

ثلاثة أيام قضيتها مع قادة الجبهة العربية لتحرير أزواد في مدينة باسكنو، كانت كافية لفهم بعض أسرار الصراع الدائر في إقليم أزواد... كنا جميعا ننتظر وصول قوات عسكرية تابعة للتنظيم إلى الحدود الموريتانية لتأمين وصولنا إلى منطقة انعقاد المؤتمر الذي تريد الجبهة من خلاله تحديد استراتيجيتها المستقبلية في إقليم أزواد... كنت أنوي إعداد سلسلة تقارير عن حياة العرب في تلك المنطقة الصحراوية حيث قرية "الخليل" التي اشتهرت بأنها النقطة الآمنة خارج سلطة القانون لرحلة تهريب المخدرات من أميركا الجنوبية باتجاه أوروبا ... ولكن للأسف...يبدو أن هناك صراعا قويا داخل الجبهة العربية لتحرير أزواد بين طرفين قويين أحدهما لا يريد الإنفصال عن جمهورية مالي فيما يصر الطرف الآخر على الإنفصال، وبين الموقفين هناك من يؤيد موقف المتفرج الإيجابي بعدما دخلت الحركات الإسلامية على خط اللعبة السياسية والعسكرية .

هذا بالضبط ما لا يريد منا سيادة الوزير الإطلاع على تفاصيله! هكذا فهمت رسالة معاليه، والا لماذا يغير رأيه بهذه السرعة بعدما كان يؤكد في كل لحظة ، بمناسبة أو من دونها، منذ انطلاقتنا من نواكشوط حتى باسكنو أن الأمور بالكامل تحت سيطرة قواته، وأن الرحلة هي رحلة سياحية بامتياز؟

على وقع الصراع داخل الجبهة، الحركات الإسلامية تدخل على خط اللعبة السياسية والعسكرية

من بوجبيهة إلى مدينة تمبكتو التاريخية حيث حركة أنصار الدين

سنده بو عمامه - الناطق الرسمي بإسم جماعة أنصار الدين

الأخبار الواردة من إقليم أزواد تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن موازين القوى مالت هناك بشكل واضح لصالح تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي بعدما سيطر على السلاح القادم من ليبيا ونجح في إبرام تحالف غامض مع القيادي التاركي والقنصل السابق لجمهورية مالي في جده بالمملكة العربية السعودية أياد أغ غالي، التحالف الذي شرع للقاعدة دخول المدن الرئيسية الثلاث في شمال مالي، كيدال وكاوه وتمبكتو، تحت إسم أنصار الدين، وطرد عناصر الحركة الوطنية لتحرير أزواد التي تحاول الجبهة العربية لتحرير أزواد جاهدة التميز عنها حتى وإن كانت تبدو في بعض الأحيان مجرد فصيل من فصائلها يتستر تحت غطاء عرقي عربي.

إنسحب سيادة الوزير في صمت بعدما ودعني قبل أن يغيب في الظلام الذي بدا حالكا جداً. الساعة تشير إلى العاشرة مساء... أخرجت جهاز الثريا من حقيبتي وأجريت إتصالا بأمير مدينة تومبكتو الجديد: الناطق الرسمي بإسم جماعة أنصار الدين كما يفضل أن يعرف. سنده بوعمامه، من عرب أزواد. إعتقل مرة في نواكشوط بتهمة الإرهاب وأطلق سراحه بعدما لم تستطع النيابة الموريتانية تأكيد جرم ضده... يملك محلا تجاريا في مدينة باسكنو ما زال يعمل حتى اليوم... والده مدرس سابق للغة الفرنسية كان يعمل لصالح الفرنسيين في موريتانيا أيام كانت المنطقة تحت الإستعمار الفرنسي ... درس سنده في مدينة كيفه الموريتانية حيث كان يدرس والده، وواصل تعليمه قبل أن يتخرج من جامعة نواكشوط.

عرفته بنفسي وهدفي من الرحلة... وبعد فحص أمني مطلوب في مثل هذه الحالات أخبرني أنهم في انتظاري.

وعلى عجل إتخذت قراري بتغيير مسار الرحلة، من بوجبيهة إلى مدينة تمبكتو التاريخية التي سقطت في يد حركة أنصار الدين، الواجهة السياسية الجديدة لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الاسلامي.

صباح جديد ... السماء ملبدة بالغيوم وزخات مطر قليلة تتساقط مبشرة بفصل ممطر بعد سنة عانى فيها سكان مدينة باسكنو من جفاف كاد أن يقضي على ما تبقى من ثروتهم الحيوانية التي يعتمدون عليها في حياتهم إعتمادا كليا.

في الساحة الرئيسية أمام مبنى مقاطعة المدينة، كانت مهمتى صعبة جدا، فكل ملاك السيارات يرفضون التوجه بسياراتهم إلى منطقة لا تبشر الأخبار الواردة منها بخير... يقولون إن الفوضى هي سيدة الموقف... فلم يعد هناك من قانون، بعدما خرجت القوات المالية من الإقليم مغلوبة على أمرها.

قدمت عرضا مغريا باستعدادي لدفع أي ثمن يحددونه، مع محاولة طمأنتهم عبر الإتصال بحاكم تومبكتو أمامهم... ولكن جهودي كلها باءت بالفشل... عدت أدراجي إلى حيث أقيم بعدما فكرت بحل آخر.. العودة إلى نواكشوط والتوجه إلى بوركينا فاسو في الطائرة ثم المغادرة عبر طريق واكادوكو- كاوه.

كان ذاك هو الحل الوحيد الممكن.

إستسلمت للواقع وجلست أرتب حقائبي بعدما أخبرت مصوري بكل التفاصيل... وللحقيقة كان شجاعا جداً ولا أنكر أنه شجعني بمواقفه الموافقة دائماً على أي قرار أتخذه من دون تردد.

مرت لحظات صعبة، فأن تقطع مسافة ما يقارب 1500 كلم في اتجاه هدف معين ثم تكون مجبرا في النهاية على العودة من نفس الطريق لتسلك طريقا آخر ،هو أمر ليس بالهين .

أخيرا تغير كل شيء، أخبرني أحدهم ان هناك شخصا يدعى يربه البربوشي يستطيع المسير بنا إلى تومبكتو عبر طريق باسكنو.

إتصلت به عبر الهاتف وشرحت له الخطوط العامة للرحلة، وفي سرعة البرق كان يجلس معنا بكل استعداد.. كان شخصا مرحا أكثر من اللازم .. يضحك بسبب أو بدون سبب... وضعنا الحقائب في السيارة وانطلقنا في اتجاه تومبكتو.

في الجزء الثاني:

... لحظات وتوقفنا عند البوابة العسكرية الاولى...تقدم إلينا شاب اسمر بملابس أفغانية، حاملا مدفعا رشاشا.. تبادلنا التحية على الطريقة الإسلامية... فتح لي الطريق ليتمتم بعدها قائلا بلغة هي أقرب إلى الفرنسية: "تمبكتو على بعد 90 كلم..السلام عليكم".

استراحة أبي ولد زيدان (يسار) مع يربه البربوشي (يمين)

اخترنا لك