هل تبدأ تعديلات الإستراتيجية من البوابة التركية؟
دراسة لمتكتب واشنطن في الميادين بالتعاون مع مركز الدراسات الاميركية والعربية تؤكد على إجماع شبه تام بين القادة العسكريين والسياسيين الأميركيين على النتائج المتواضعة التي لاتذكر للغارات الجوية ضد مواقع "داعش" في سوريا والعراق، وتسهب في الحديث عن الدور التركي المرتقب في سوريا، منتهية إلى نتيجة مؤداها بأن الازمة ستطول وربما لن تسير على هوى الرغبات الأميركية.
حرب مفتوحة لمدة 30 عاماً
في معرض تفسير قصور الغارات الجوية قالت صحيفة "واشنطن بوست،" وما تمثله من قوى ومصالح، والتي أسفرت عن نتائج "شبيهة بالحملة الجوية ضد طالبان عام 2002"، أوضحت أن الفارق الأساس بين التجربتين يكمن في طبيعة سلاح الجو "اذ ليس بوسع اطقم المقاتلات الأميركية الإعتماد على إستطلاع القوات الخاصة لتحديد الأهداف، في ظل إستبعاد الرئيس أوباما نشر مثل تلك القوات براً على الرغم من طلب القادة العسكريين بذلك."أميركا قلقة أيضاً من سرعة إندفاع "داعش" نحو بغداد وتمركزه على تخومها بمسافات قصيرة تمكنه من إستهداف المطار الدولي بقذائف المدفعية، مما دفع وزارة الخارجية مؤخراً لطمأنة الشعب الأميركي بخطل الأنباء التي تحدثت عن تعرض "المنطقة الخضراء" إلى قصف بقذائف الهاون من قبل داعش. بيد أن التنظيم توسع وإستقر في مناطق أخرى من العراق، منذ الإعلان عن بدء الغارات الجوية، شملت مدينة هيت على ضفاف نهر الفرات، ومحاصرته لمناطق مجاورة في الرمادي عاصمة محافظة الأنبار.الغارات الجوية "للإئتلاف" كانت نتائجها "عقيمة تماماً"، على الرغم من الحملة الإعلامية المكثفة لترويجها. وأقرّت وزارة الدفاع الأميركية ضمنياً بفشل الغارات الجوية في العراق من تحقيق أغراضها بإعلانها عن إدخال طائرات الأباتشي المروحية لساحة القتال كعنصر إضافي يعزز المرونة في شن العمليات العسكرية، مما حدى ببعض الساسة والمعلقين القول ان إستخدام "الأباتشي" يؤشر على تعاظم نية الإدارة نشر قوات برية بصيغة أخرى.
إعادة تصويب الإستراتيجية
تنامى الضغط الداخلي من القادة العسكريين والساسة واعضاء الكونغرس "للنظر بخيار نشر قوات برية" مما أوعز اوباما لإرسال اشارات تدل على نيته اتخاذه اجراءات وتدابير مغايرة لسياساته المعلنة. أما وزارة الخارجية، بطبيعتها وتفضيلها التحرك الديبلوماسي، فقد رفضت الخيار العسكري المنشود، وصرح وزير الخارجية جون كيري في منتصف الاسبوع ان "الحيلولة دون سقوط مدينة كوباني السورية بايدي "داعش" لا يعد هدفا استراتيجيا للولايات المتحدة". في تباين واضح مع هيلاري كلينتون التي كانت تحبذ استخدام القوة لدى استعصاء الحلول السياسية. وحث كيري جميع الأطراف الأميركية المعنية "بإتخاذ خطوة تراجعية بغية إستيعاب الهدف الإستراتيجي .. لمراكز التحكم والسيطرة والبنى التحتية للدولة الإسلامية، وحرمانها القدرة على شن هجمات ليس في كوباني فحسب، بل في عموم الأراضي السورية وامتداداً الى العراق." ولفت كيري النظر الى تعاطفه مع فكرة "انشاء منطقة عازلة بين سوريا وتركيا .. إنها فكرة جديرة للأخذ بها بعين الإعتبار .." بالمقابل، يسعى "حلفاء" أميركا من الدول الأوروبية إستدراج الرئيس أوباما لنيل موافقته على المنطقة العازلة، كما جاء على لسان الرئيس الفرنسي فرانسوا اولاند.وزير الخارجية البريطاني، فيليب هاموند، أيضاً أيّدها بحذر قائلاً "ينبغي بحثها مع حلفائنا وشركائنا" والإستقرار على مفهوم موحد لما تعنيه المنطقة العازلة "بيد انني لا استثني ذلك في المرحلة الحالية." يرتكز الجدل داخل الأوساط الأميركية على التدابير التي بوسع الولايات المتحدة اتخاذها لإنقاذ مدينة عين العرب – كوباني، وحيثيات الإستراتيجية التي يمكن أن يقدم عليها الرئيس اوباما لوقف اندفاع وتمدد داعش. ليس بوسع أميركا الآن او في المدى المنظور استخدام قواتها البرية في حرب اخرى بعد النتائج الكارثية لسياساتها في افغانستان والعراق، التي لا يزال يتردد صداها في اذهان الشعب الاميركي الرافض لمزيد من الانخراط العسكري الفاعل في مناطق اخرى. وعليه، الخيار المتوفر للولايات المتحدة يستند الى حشد وتدريب قوات محلية للتصدي لداعش، الامر الذي سيستغرق فترة زمنية طويلة نسبيا؛ وربما هذا بالضبط ما يمكننا استخلاصه من تصريح ليون بانيتا بالحرب المفتوحة "ولمدة 30 سنة". عقبات عدة تعترض نضوج قوات الجيش العراقي، الذي راهنت عليه اميركا طويلا، لاستلام زمام الامور والتصدي لداعش بغية استعادة سيطرة الدولة على مدينة الموصل. جاء ذلك على لسان منسق الائتلاف الدولي، الجنرال جون آلان، لصحيفة نيويورك تايمز مطلع الاسبوع الجاري موضحة ان ذلك "يدل على التحديات الهائلة التي تواجهها القيادة العسكرية العراقية وشركائها الدوليين كذلك." تطمح الولايات المتحدة إلى "انشاء جيش سوري جديد" بديل لكل التشكيلات المسلحة الحالية، بما فيها الجيش الحر، قوامه 15,000 عنصر ينبغي التدقيق في خلفية وولاء كل منهم، والذي سيوكل بمهمة "القوات البرية" البديلة عن القوات الاميركية، ويتطعم بالعقيدة القتالية الاميركية، كما ورد على لسان القادة العسكريين في البنتاغون. تدريب وتسليح العناصر سيستغرق نحو 12 شهرا، في المعدل، يتم اعدادها لمرحلة لاحقة. أما في المرحلة الراهنة فان الطرف المرشح للإسهام بقوات برية، كما ترغب البنتاغون، فهو تركيا التي يدخل في حساباتها الإعتبارات الإقليمية والتوازنات الدقيقة، والتي لحد اللحظة لم تتجاوز اجراءاتها التصريحات الكلامية. وكما اشرنا سابقا، فان الاهداف الاميركية والتركية غير متطابقة بالكامل فيما يتعلق بسوريا بعد مضي قرابة اربعة اعوام على الصراع المسلح. هدف تركيا الرئيس "اسقاط الرئيس الاسد،" اما الولايات المتحدة فقد اثبتت الوقائع السياسية والميدانية ترجعها عن هذا الهدف واعلاء "تقويض الدولة الاسلامية" في المرتبة الاولى. كما ان الولايات المتحدة لا تمانع قيام كيان كردي في المناطق السورية، مما يثير ذعر انقرة التي ترفض رفضا مطلقا اي تعبيرات او تجليات تؤكد على الهوية الكردية.
الرئيس التركي رجب طيب اردوغان أعلن مرارا رغبته بانشاء "منطقة عازلة" داخل الاراضي السورية وفرض حظر الطيران في اجوائها كشرط مسبق لدخول قوات برية تركية ارض المعركة. كما يبدي ارتياحا بيّناً لسقوط مدينة عين العرب الحدودية باغلبيتها الكردية في أيدي الدولة الاسلامية دون ان يحرك ساكنا.
الجانب الاميركي يعتبر اشتراط اردوغان تبريرا لعدم دخول تركيا النشط، اذ ان الغارات الجوية فوق مدينة كوباني ادت الى حظر حركة الطيران السورية هناك. وعلق مسؤول رفيع المستوى في البيت الابيض لصحيفة "نيويورك تايمز" على تردد تركيا بأنها "تخلق اعذارا لعدم المبادرة وتفادي كارثة انسانية اخرى." واضاف موبخا انقرة "هذا التصرف لا يعكس آلية عمل حليف للناتو بينما تفتح ابواب الجحيم على بعد مرمى حجر من حدوده."
اقتصر دور تركيا الفعلي، في المرحلة الراهنة، على الانضمام لجهود الائتلاف حرمان "داعش" من عائداتها المالية، اذ تعبر شاحنات نقل النفط الاراضي التركية وتصدر عبر موانئها ايضا. وقد فرضت حجرا على استخدام "داعش" الاراضي التركية، كما اوردت وسائل الاعلام المختلفة، وفرضت قيودا أخرى للحد من قدرة داعش شراء ذخيرة وقطع غيار للمعدات الثقيلة التي استولى عليها.
لجأ اكراد تركيا الى التظاهر والاحتجاج في المدن الرئيسة تنديداً بإغلاق تركيا المنافذ الحدودية مع مدينة عين العرب – كوباني المهددة بالسقوط، ومنعت الامدادات البشرية والمتطوعين من الهبة لنجدة اقرانهم عبر الحدود. استخدمت الحكومة التركية قوات الشرطة والجيش للتصدي وقمع الاحتجاجات مما ادى لسقوط ما لا يقل عن 19 قتيلا وجرح 145 في المظاهرات التي عمت الاراضي التركية، وفرضت حظر التجول على مدن ماردين وسييرت وباتمان وفان.
تجلت تداعيات ازمة كوباني في انخفاض قيمة الليرة التركية سبقتها تخفيض مكانة الاقتصاد التركي من قبل الشركات المالية الاميركية، الأمر الذي اثار قلق المستثمرين الاجانب وكذلك هاجس تدخل تركيا في سوريا. توفر السيولة المالية العالمية أمر حيوي للاقتصاد التركي، نظراً لنسبة العجز العالية في ميزان المدفوعات والذي "تضطر" الحكومة التركية للاقتراض من الاسواق العالمية مرة تلو اخرى لتغطية نفقاتها. نائب رئيس الوزراء التركي، علي بابكان، اقر في 8 تشرين الاول ارتفاع معدل التضخم في الاقتصاد التركي الى نسبة 9.4%، بما يقرب من ضعف التوقعات السابقة بنسبة تضخم 5.3% للعام الجاري. أحد المخارج للحكومة التركية يكمن في عدم قيامها بالتدخل وتأزيم الـأوضاع الإقليمية، وهو ما قد يلجأ اليه الرئيس اردوغان وحكومته للتكيف مع مطالب المؤسسات الاقتصادية الكبرى في البلاد. ان امتنعت تركيا عن المشاركة الفعالة في التصدي لداعش عسكريا فما يتبقى هو خيار الغارات الجوية واستمرارها للدول المشاركة في الائتلاف، وربما بعض العمليات الموكلة للقوات الخاصة القيام بها.