آفاق هجوم إلكتروني محتمل على المؤسسات الأميركية
تعرض الأراضي الأميركية لهجمات إلكترونية خرج من دائرة التكهن منذ زمن في الولايات المتحدة، أما وسائل المواجهة فمقرونة بقابلية المؤسسات المعنية بالبنى التحتية على اتخاذ تدابير صارمة لتعزيز دفاعات شبكاتها الإلكترونية.
المناخ السياسي الأميركي ملبد بالقلق جراء إمكانية تعرض البنى التحتية بكاملها الى هجمات الكترونية تنذر بتوقف وشلل تام لحياة البذخ والرخاء والرفاهية الاقتصادية، يستشعره الانسان العادي قبل السياسي والاكاديمي. بل من دواعي الارتباك الخشية من ارتداد سياسات الهيمنة على العالم الى الاراضي الاميركية، واطلاق المؤسسات الحاكمة تحذيرات متباينة لكنها جلية في عدم قدرتها على التفاعل او الرد او التأقلم مع المتغيرات، بل عدم قدرتها على التحكم بمسار الاحداث، ولا يختلف الوضع عما آل اليه الجهد العسكري الاميركي المباشر في الميدان .
ربما هي المرة الأولى منذ طي صفحة الحرب الاهلية قبل 127 عاما التي يجري فيها الحديث عن تعرض المؤسسات الاميركية وبناها التحتية لشلل تام وعلى الارض الاميركية بالذات، سيما وان هيكلية البنى التحتية المقصودة تعتمد بصورة شبه تامة على التقنية الحديثة لتشغيلها، والتي تشمل: شبكات توليد وتوزيع الطاقة، السدود والمرافق المائية، القطاع المصرفي الهائل، القطاع التجاري بكل تشعباته واختصاصاته، وكل من له دور في المؤسسات الامنية والعسكرية المختلفة.
إعلاميا، تصدرت صحيفة "نيويورك تايمز" مطلع الاسبوع اثارة "تنامي التهديد من هجمات الكترونية ضد الولايات المتحدة،" معتبرة ان مصدرها الجيش الاحمر الوطني في الصين، والتي تجلت بتداعيات ملموسة في عموم شبكات الحواسيب الالكترونية التي تتحكم بمناحي الحياة اليومية – بدءا من قطاع الامن والدفاع القومي الى القطاع المصرفي ومعلبات المشروبات الغازية وما بينها. تلتها أيضا صحيفة "واشنطن بوست" لتؤكد أن "كل ما له علاقة بمسار الحياة اليومية في واشنطن قد تم اختراقه،" لا سيما مراكز الابحاث كافة ومقرات المحاماة المنتشرة بوفرة والشركات العاملة في القطاع العسكري، الخ.للدقة، فإن الهجمات المنظمة والمنتظمة المشار اليها لا ترتقي الى مستوى تصنيفها هجمات الكترونية، بل هي اقرب الى سعي "لجس النبض الالكتروني،" لسبر اغوار نقاط الضعف في الشبكات العائدة للحكومة وللقطاع الخاص على السواء، ربما لاستخدامات لاحقة. وتجلى جزء لا باس به من المحاولات بادخال برامج ضارة خفية، فايروس، تتيح للمشرفين على القرصنة منفذا داخليا للتأثير والتحكم بالاجهزة والشبكات بالغة الحساسية في وقت لاحق.
رسمياً، أقرت الحكومة الاميركية ان المحاولات الصينية امتدت للمصانع والموردين لاجهزة الحواسيب للمكاتب والمقرات الحكومية والمجمعات الصناعية الحساسة. كما ان البرامج العائدة للمؤسسات التجارية المصنعة عادة تشكل حلقة الضعف الكبرى لشبكات الحواسيب الحساسة، كما بدا في برنامج "ستكسنت" ضد البنية التحتية لبرنامج ايران النووي.عقب تسليط الوسائل الاعلامية الضوء على جهود القرصنة الالكترونية، تبارى الخبراء للاجابة على سؤال بديهي لمدى فعالية الدفاعات الاميركية الراهنة ضدها. النتيجة التي اجمعوا عليها كانت محبطة، بل ان التدابير المتخذة لمكافحة الاختراقات تبدو ضئيلة، حجما وتأثيرا. تصدر الرئيس اوباما جهود بلورة الاشراف على تعزيز الدفاعات الداخلية باصداره قرار رئاسي يحث فيه القطاعين الحكومي والخاص على تبادل المعلومات بينهما، وكذلك تبادلها مع المؤسسات الخاصة التي تقيم سدودا منيعة امام منافسي منتجاتها وخدماتها المتعددة؛ ومن غير المحتمل ان يسفر القرار عن قفزة ملموسة في جهود التعاون والحماية.
لعل أهم النواحي الإيجابية في القرار الرئاسي اشتراطه بلورة معايير تحدد مصدر الخطر وآليات مكافحته، مع العلم انه لا يشترط على المؤسسات الخاصة وضع تدابير من شأنها توفير الحماية لمنشآت حيوية مثل شبكة توزيع الطاقة.وعليه، كيف نرصد التوقعات لما قد تتعرض له الولايات المتحدة لهجمات الكترونية مدمرة.
من نافل القول أن البنية التحتية في عموم الولايات المتحدة تجاوزت عمرها الافتراضي، كما ان اغلبيتها تدار من قبل القطاع الخاص (شركات توزيع الطاقة على سبيل المثال) مما يحرم الحكومة المركزية من بلورة وتطبيق تدابير فعالة لمكافحة الخطر.بعض جهود القرصنة التي اثمرت اثارت قلق المختصين بنظم الشبكات المعلوماتية لتدبر الامر. واجري تحقيق رسمي عام 2011 للتيقن من السبب الذي كان وراء عطل اصاب آلة ضخ للمياه في محطة عامة للتوزيع بمقاطعة من ولاية الينوي، وهل يقف هجوم الكتروني شنه غرباء وارءه. وفي وقت متزامن، نجح احد القراصنة باختراق شبكة توزيع للمياه في مدينة هيوستن، وتعمد ترك اثار فعلته على شاكلة صور للمعدات الحساسة في الشبكة لتأكيد نجاحه. وعلى الرغم من انه لم يسجل اي اختراق موثق لشبكة توزيع الكهرباء لتاريخه، الا ان انقطاع التيار الكهربائي في عدد من المؤسسات البرازيلية الهامة، بين اعوام 2005 و 2007، اسفرت عن اضطرار عشرات الالاف من السكان البقاء في الظلام يرجح ان قرصنة الكترونية كانت وراء ذلك.يذكر ان النظم الصناعية المعتمدة للتحكم في عدد من الشبكات الحيوية اضحت قديمة، والتي تعرف بمنظومة الاشراف والتحكم بالمعلومات، لا زالت تستخدم في قطاعات خطوط الانابيب وشبكات الطاقة والمصانع، والتي تصنعها مؤسسات ضخمة مثل شركة جنرال اليكتريك وسيمنز. الاعتقاد السائد آنذاك ان تلك النظم تحتوي على مكونات تعزز حمايتها وتثبيتها كنظم آمنة، وتم توصيلها لاحقا بشبكة الانترنت وما يرافقها من مخاطر تعرضها للاختراق. بل ان الاجهزة التي تعرضت لفايروس ستكسنت في ايران كانت من تصنيع شركة سيمنز الالمانية.
الهجوم يحاكي دمار بيرل هاربر
أسفر الهجوم الياباني على مرفأ بيرل هاربر في جزر هاوايي، 7 كانون الأول 1941، عن دمار هائل لسلاح البحرية الاميركية طالت قدرته التدميرية قطعا عسكرية كانت ثابتة في مرابضها، ونجاة العجلة الاقتصادية وبنى التصنيع التحتية آنذاك، وتفادي الحاق خسائر بشرية في المجتمع الاميركي. أما شن هجوم الكتروني على الولايات المتحدة في الزمن الراهن قد تفوق تداعياته كل ما تقدم.هجوم الكتروني بحجم بيرل هاربر قد يشل المرافق والبنى التحتية الاقتصادية ويترك بصماته على مستوى العيش الراهن للمواطنين الاميركيين. ومن اكثر الاهداف عرضة للهجوم تبرز المناطق الحضرية، خصوصا تلك المقامة على الساحلين الشرقي والغربي للولايات المتحدة. تعتمد الحياة الحضرية اليومية بصورة شبه كلية على توفر متواصل للتيار الكهربائي واتصالات فورية.
وقد لا يسبب انقطاع التيار الكهربائي حالة من الذعر بين المواطنين، بيد ان انقطاع مستدام لاجهزة الاتصالات قد يؤدي الى تنامي مشاعر الخوف على نطاق واسع، في ظل عدم تيقن الجمهور من البعد الزمني الذي سيستغرقه انقطاع الكهرباء والاتصالات.على سبيل المثال، لو تعرضت شبكة توزيع كهرباء في احدى المدن الرئيسة لهجوم الكتروني سينطوي عليها متاعب فورية نتيجة خسارة الانارة والطاقة للوهلة الاولى والتي ستؤدي لغياب المعلومات تلقائيا. كما من شأنه تعطيل عمل شبكة امدادات المياه التي تعتمد على الطاقة الكهربائية للضخ؛ اشارات المرور ستتعطل ايضا مما يفرض على طاقم الشرطة القيام بمهام تنظيم المرور وتراجع مهمة حماية السلم الاهلي؛ نظم المواصلات العامة سينالها الشلل مما يضاعف حركة المواصلات على شبكات الطرق العامة؛ المحلات التجارية ستفقد قدرتها لادارة معاملاتها المالية الكترونيا؛ محطات توزيع الوقود ستفقد طاقتها لضخ وقود السيارات؛ المحال التجارية وشبكة المطاعم ستتعرض لخسارة مخزونها من البضائع القابلة للتلف بسبب توقف اجهزة التبريد عن العمل. أما تزامن شن الهجوم مع فصل الشتاء فقد يؤدي الى وفاة الآلاف من المواطنين، لا سيما المسنين، بسبب البرد القارص.
هجوم الكتروني منسق قد يؤدي لنتائج مدمرة لا ريب، وما على المرء الا تأمل ما قد ينجم عن شن عدد من الهجمات الارهابية الكبرى مقرونة بهجوم الكتروني مركب.من باب الافتراض، لنتأمل حيثيات عدة هجمات ارهابية تشن على عدد من المدن الاميركية الرئيسة – باستخدام طائرات مدنية يتم اختطافها على غرار 11 أيلول 2001، سيارات مفخخة بعبوات كبيرة، او هجمات ارهابية تستهدف الفنادق تحاكي ما تم في مدينة مومباي الهندية، يتلوها هجمات الكترونية على شبكات توزيع الطاقة والاتصالات لتلك المدن.
أما داخلها، فمن شأن الاضرار الناجمة عرقلة جهود وطواقم الانقاذ. اما في المحيط الخارجي للمدن المستهدفة، فسينتشر خبر الهجمات على امتداد الاراضي الاميركية مجردا من اية تفاصيل دقيقة توضح الى اي مدى بلغ حجم الضرر. وكل مدينة تتعرض لعطل في شبكات الكهرباء والاتصالات سيفترض انها اضحت ضحية هجوم ارهابي.الهجمات التالية على المصارف المالية، ان تمت، ستضع مزيدا من العراقيل امام سيرورة الحياة اليومية في ظل تبخر الاموال النقدية من المصارف الآلية. وامتداد الهجمات الى انابيب النفط والغاز ايضا سيضاعف من عراقيل قطاع المواصلات ومفاقمة ازمة التدفئة التي تعتمد فيها المنازل على امدادات وقود الديزل والغاز الطبيعي.في حال تعثر جهود الهيئات الرسمية لاعادة تشغيل البنى التحتية واستعادة السلم الاهلي بصورة عاجلة ، فمن المرجح تصاعد الاضطرابات المدنية وامتدادها الى مدن الكثافة السكانية والتي سيصبح اهلوها غير قادرين على توفير احتياجاتهم من الماء والغذاء. في هذا الحال، ستجري تعبئة فورية لقوى الحرس الوطني لدخول بؤر الاحتجاجات والسيطرة على الاضطرابات، مما سيفقد المشهد القومي الاشمل من قوى بشرية ضرورية لمواجهة مخاطر اخرى.سردية ما تقدم لا تمثل السيناريو الاسوأ من بين الاحتمالات الاخرى، على الرغم من امكانية تعرض مناطق الساحل الشرقي – الشمالي وجنوبي كاليفورنيا الى ضربات موجعة؛ اما المناطق الريفية التي يتضاءل اعتمادها على نظم خدمات وبنى تحتية متطورة قد تبقى في حال افضل. عملية الانتاج الغذائي ستستمر، وان بوتيرة مختلفة، الا ان عددا من العقبات تعترض ايصاله الى مدن الكثافة السكانية.
إن القدرة على ضبط الاضطرابات الاهلية والسيطرة عليها واعادة العمل لشبكات الطاقة والمياه ونقل المواد الغذائية خلال فترة زمنية معقولة ستحدد حجم التداعيات طويلة الامد الناجمة عن شن مثل تلك الهجمات.عمليا، واستنادا الى الاجراءات المتخذة بعد اعصار "ساندي" المدمر الذي ضرب اجزاء كبرى من الساحل الشرقي للبلاد، فان بؤس اداء الهيئات الرسمية لمواجهة كارثة الاعصار تضعها جميعا في دائرة التقصير. اذ تم التنبؤ مسبقا بالاعصار ومساحة دائرة المناطق المهددة، والنتيجة كانت انهيار البنى التحتية وتعطل الخدمات لفترة زمنية امتدة لعدة اسابيع. وعليه، يمكننا القول ان اداء الدوائر والهيئات والاجهزة الرسمية لتوفير الخدمات الرئيسة ستبقى بالغة الصعوبة عند مواجهتها كوارث تمتد على رقعة جغرافية اوسع.
تعرض الأراضي الاميركية لهجمات الكترونية خرج من دائرة التكهن منذ زمن. اما وسائل المواجهة للحد من التداعيات القاسية لهجوم منظم فهي مقرونة بقدرة المؤسسات الخاصة المعنية بالبنى التحتية على توزيع الخدمات العامة، وقابليتها لاتخاذ تدابير صارمة لتعزيز دفاعات شبكاتها الالكترونية – التي تمثل خط الدفاع الاول. وما يليها من منظومة دفاعية للتعامل مع الكوارث والطواريء يستند بشكل رئيس الى قدرة الهيئات والاجهزة الرسمية، مركزيا ومحليا، للحد من التهديدات المحدقة بالبنى التحتية عند تعرضها للهجوم، واعادة العمل الى مستوياته الطبيعية في اقصر فترة زمنية ممكنة. حقيقة الامر، ان الاجابة الصريحة لكلتا المهمتين المذكورتين يشوبها عدم اليقين والريبة.