الترامواي: ناظم بيروت وبشير الحداثة..وبعده الفوضى

الترامواي في بيروت
الترامواي في بيروت..كان سبباً  أساسياً في إضاءة المدينة بالكهرباء بعد الفوانيس في العقد الأول من القرن الماضي، ونظّم توزيع المؤسسات الرسمية وغير الرسمية على امتداد طريقه بعد أن كانت متناثرة على جغرافية الوطن، وكان عامود الموصلات الفردية والتجارية بين العاصمة اللبنانية ومحيطها.

 

أنجز إنشاء الترامواي في بيروت سنة 1908 بقرار اتخذته السلطات العثمانية عام 1890. وكان من الطبيعي أن يستغرق تنفيذه كل هذه المدة نظرا لضعف المعدات مقارنة مع اليوم.

 

سهّل الترامواي حركة التنقل على البيروتيين الذين اعتمدوا قبل ذلك على عربات الخيل، وانطلقت عرباته في أكثر من اتجاه نحو مختلف المناطق البيروتية.

 

أنشيء الترامواي ولم يكن التيار الكهربائي قد وصل بعد إلى بيروت، وتأمنت الكهرباء بالاتفاق مع أحد الأمراء الأرسلانيين الذي قدم الأرض لتوليد الطاقة في معمل "معصريتي" الذي عمل على إنتاج الكهرباء على المياه.

بمعنى آخر، كان الترامواي السبب الأول في إيصال الكهرباء إلى العاصمة. 

رصد خطوط الترامواي

"الترامواي كهرب البلد، فكان بشير الحداثة، وقبله كانت الشوارع تضاء بالفوانيس"، يعلق الدكتور محب شانه ساز، استاذ الأنتروبولوجيا في معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية في بيروت، والذي أسس فرقة بحثية تحت اسم "إنسان" ضمت خمسة عشر طالبا من طلابه، وقامت بوضع الأبحاث والدراسات عن الترامواي منذ نشأته وحتى توقيفه عن العمل سنة 1964.

 

الخطوط التي رصدها الفريق إن على الخرائط أو ميدانياً، أظهرت أنها كانت تمتد من الحرج - سينما سلوى إلى الدورة، وفي خط ثانٍ من فرن الشباك إلى المنارة، ويتقاطع الخطان في ساحة البرج (وسط المدينة). كما اكتشف خطان، أحدهما ينطلق من البرج، ويمر قرب السراي الحكومي فالكبوشية وشارع الحويك، ثم خانات فخري وأنطون بك، ويبدو أن هذا الخط كان تجارياً لأنه كان يصل إلى المرفأ، والثاني يمتد من ويغان - شارع فوش وصولا إلى المرفأ، وأغلب الظن أنه تجاري أيضا.

 

في أواخر القرن التاسع عشر، كان عدد سكان بيروت يبلغ 60 الف نسمة، ولكن مع بداية القرن العشرين ومع وجود القطار، وسكك الحديد، والبنية التحتية للنقل المشترك، زاد عدد سكان بيروت إلى 145 ألف نسمة بحسب معلومات لجمعية "تران تران" التي تهتم بشؤون السكك الحديدية في لبنان. تمكن الترامواي من خدمة المدينة وأهلها بشكل جيد، وقلب الحياة فيها رأسا على عقب.

الدكتور محب شانه ساز، استاذ الأنتروبولوجيا في الجامعة اللبنانية في بيروت

المتغيرات

ترامويات متقاعدة على الروشة تحولت إلى مطاعم في السبعينات

يمكن تحديد المتغيرات التي نجمت عن إنشاء الترامواي ووصول الكهرباء إلى العاصمة بسببه، بعنصرين: بنية المدينة ونمط الحياة فيها.

 

فقد تبين أن خط الترامواي هو المحور الذي نسجت المدينة من حوله وتشكلت. يقول ساز: "الترامواي هو الذي صنع المدينة، واكتشفنا بالتدرج أن كل المؤسسات الرسمية تأسست على خط الترامواي، من وزارة الدفاع، إلى وزارة المالية، والسراي الحكومي، والبرلمان. ثم كل المخافر الأمنية، من مخفر البسطة إلى البرج إلى حبيش. وعلى الخط أيضا بنيت أهم الكاتدرائيات والمساجد والمدافن للديانات الثلاث المسيحية والإسلامية واليهودية. ثم اكتشفنا أن المدارس والجامعات والمستشفيات كلها بنيت على مقربة من خط الترامواي. كذلك المقاهي ومراكز السلوى، والسينمات، والمسارح".

 

أما عن متغيرات حياة المدينة، فيتحدث ساز عن نتائج عمل فريقه الذي قابل العديد من كبار السن ممن عايشوا زمن الترامواي فأخبروه أنه أخرجهم من قوقعتهم، وفتح الناس والمناطق بعضها على بعض، وقرّب المسافات، وحلّ مشكلة التنقل بين المناطق المتباعدة".

 

ويضيف: "عرف الناس أن الترامواي وسيلة آمنة، وله توقيت دقيق، وتنظيم كامل وتكاليف رخيصة، وكان الشريان الحيوي لحياة الناس الاقتصادية والسياسية والثقافية والدينية، وقد قصد الخط أقصى الضواحي، ما جعل المدينة تنمو بسرعة، ولأول مرة بعد "الحنطور - أي عربة الخيل"، يُنشأ شيء اسمه خط عام، أو طريق عام، أو حيز عام".

 

فرض الترامواي على الناس تنظيم أنفسهم على إيقاعه، ويقول ساز إن الناس تحركوا للمرة الأولى على أساس الوقت "لدرجة أنهم أصبحوا ينهون سهراتهم عند توقيت مرور آخر ترامواي".

 

ويعلّق قائلاً إن "مسألة المحطات، والجغرافيا لم تعد على مزاج المواطن، إذ أصبح هناك نظاما مروري، وانضباط حركة، فالترامواي لا ينتظر الراكب لشراء حاجياته كالحنطور، ولا شيء يقف في وججه، والحيز المحيط به ممنوع الاقتراب منه، وبذلك كوّن الحس المدني عند الناس، فأسمينا الترامواي ناظم المدينة، وبشير الحداثة".

 

رزق الله على أيامك يا ترامواي بيروت

مع تقدم القرن العشرين، والتطور الكبير الذي شهدته بيروت، ازداد عدد سكانها والوافدين إليها عن النصف مليون نسمة، فلم يعد الترامواي قادرا على تأمين النقل المشترك، وكثيرا ما اضطر الركاب للتعلق على النوافذ والأبواب لأن الأماكن فيه كانت ممتلئة على الدوام، فكان ذلك تبرير السلطات لوضعه خارج الخدمة.

 

يختم ساز بأسف قائلا إن "انتهى المنطق المنظم مع الترامواي، عندما أصدرت إحدى الحكومات مرسوماً سنة 1964، أوقفت بموجبه الترامواي لمصلحة الباص العامل على البترول والذي يستفيد منه تجار البترول في السلطة، وهنا لم يعد النقل مستقلا خلافا للترامواي الذي عمل على كهرباء الماء".

 

يعاني لبنان منذ عقود من أزمة مواصلات تكاد لا تنتهي فصولها. فبعد الباصات العامة جاءت الباصات الخاصة في ظل أخبار وتسريبات للصحافة مستمرة تتحدث عن عقود وصفقات تجارية يستفيد منها النافذون مالياً وسياسياً. تبعات ذلك أوصلت المشكلة اليوم إلى ذروتها من غياب للنقل المشترك واضطرار المواطن للتنقل في سيارته الخاصة ما انعكس أزمة سير خانقة لاسيما في العاصمة وباقي المدن وأزمة أخرى في مواقف السيارات، ولسان حال المواطن اللبناني" رزق الله على أيامك يا ترامواي بيروت". 

القطار في شارع الأمير بشير سنة ١٩٣٧

اخترنا لك