آفاق نشوب نزاع أهلي وتمرّد مسلح في أميركا
مكتب الميادين في واشنطن يتناول بالتحليل إمكانية نشوب إضطرابات أهلية وعصيان مدني في أميركا متحدثاً عن خطر الميليشيات المسلحة على الإستقرار الاجتماعي، ويتطرق إلى ظواهر الإنقسامات الأفقية في المجتمع الأميركي محاولاً إستخلاص نتائج محتملة.
تركيبة الدول الوطنية ومجتمعاتها عبر العالم تشترك بخاصية تجانس أعراقها المختلفة، باستثناء الولايات المتحدة التي تتشكل من بوتقة جامعة تجمع فيها أعراق عدة وثقافات مختلفة – وهنا لا نناقش الممارسات العنصرية البشعة التي لا زالت سائدة ضد الأميركيين من أصول إفريقية بشكل خاص. كما أن النظام السياسي الأميركي لا يستند إلى صيغة توارث الحكم ضمن "العائلة المالكة"، وطبّق مشاركة أفراد المجتمع في انتخاب ممثليه تصاعدياً إلى منصب الرئيس وفقاً لأحكام الدستور. أما بعض مثالب النظام القائم فهي تؤشر على تعدد منابع التوتر في المجتمع نظراً لتعظيم دور الفرد على حساب الجماعة، إذ يسعى كل من يستطيع إلى تحقيق أهدافه الخاصة ضمن النظام الواحد، والذي أرسى اللبنة الأولى لنظام تتحكم شريحة ضيقة لا تتعدى 1% بالمقدرات والثروات الطبيعية.
المجتمعات الانسانية عامة لا تخلو من التوترات والتناقضات، والمجتمع الأميركي ليس استثناءاً لتلك القاعدة، بل شهد مصادمات ومواجهات مسلحة عبر مراحل تشكله منذ قدوم الأوروبيين إلى القارة الجديدة، لعل أشدها قسوة كانت الحرب الأهلية الأميركية والتي تلاها عدد من الاشتباكات إتسمت بالعنف والتصفية الجسدية بين طرفي صراع، خاصة بين العمال وأرباب العمل إبان تطور الثورة الصناعية وحاجتها لليد العاملة. ومن محطات الصدام الأخرى برزت حركة المهمشين والمستهدفين بالتمييز العنصري للمطالبة بحقوقهم المدنية، مطلع عقد الستينيات من القرن الماضي، توالت بعدها الاحتجاجات الواسعة ضد العدوان الأميركي على فيتنام، وتجلياتها الأخرى أهمها تفجير أحد مقرات الحكومة الإتحادية في مدينة أوكلاهوما، ولا زالت الاشتباكات المسلحة تتجلى في المجتمع بين فينة وأخرى لأسباب متعددة. هذه الإطلالة السريعة تستثني الاضطرابات الناجمة عن انقطاع التيار الكهربائي، مثلاً، والتي يظهر البعد الاقتصادي من أهم مسبباتها.
بعض الاشتباكات تؤدي إلى التفاف الشرائح الاجتماعية وتضافر جهودها، والبعض الآخر ينجم عنها تشققات وانقسامات قد تكون حادة أحياناً كما شهدت عليه التظاهرات ضد التمييز العنصري في الستينيات. وفي الوقت نفسه لا يجوز اغفال البعد العقائدي والاصطفاف السياسي وحتى الديني في إطلاق الشرارة الأولى للإحتجاجات، خاصة عند النظر إلى ما آل إليه الوضع خلال المواجهة بين قوى الأمن الاتحادية وراعي البقر، كلايفن بندي، وصحبه، قبل تدارك السلطات المعنية واستيعابها لاصطفاف الميليشيات المسلحة وجاهزيتها للإشتباك مع الدولة الاتحادية.
بالمحصلة، تم إرجاء الاشتباك إلى مرحلة قد لا تطول على الرغم من ظاهرها في غياب القوى الرسمية وبقاء فريق ضيق من الميليشيات مرابط بالقرب من بندي، وهي لا تزال تتلقى دعماً لوجستياً متعدد الأوجه من أنصارها ومؤيديها من مناطق أميركية متعددة.
إستقراء حالة عدم الإستقرار في المجتمع الأميركي
من سمات عدم الإستقرار، بل تنامي وتيرته، التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي أدت إلى إعادة تموضع الثروة العامة وتركيزها في قبضة شريحة ضيقة لا تتجاوز 1% من كامل النشاط الاقتصادي، بدءاً من عهد الرئيس الأسبق نيكسون – الذي أرسى توجهات السلك القضائي ممثلاً بالمحكمة العليا نحو التيارات اليمينية؛ والرئيس الأسبق ريغان الذي بشّر عهده بإزالة القيود وتخفيف تفعيل القوانين المركزية على شريحة الأثرياء وإطلاق العنان لها في كامل النشاطات الاقتصادية؛ ومن ثم تنامي ظاهرة الإرهاب الداخلي ممثلا بالميليشيات المسلحة وتعزيز سيطرة القوى الأشد محافظة على مقاليد السلطة في جزء كبير من الولايات المكونة للاتحاد الفيدرالي.
في الشق الاقتصادي، جذر الأزمات والآفات الإجتماعية، برع عدد من الاخصائيين في التحذير من تراكم مصادر الثروة واقصاء الشريحة الوسطى تدريجياً عن ممارسة دورها الإنتاجي. وجاءت مؤخراً شهادة مسؤول سابق في وزارة الخارجية الأميركية، بيتر فان بيورين، والذي شغل مناصب رفيعة، دلالة على اختمار بذور الاحتجاجات إنتظاراً لشرارة تدب النار في الهشيم. وقال فان بيورين إن "تراكم النتائج الكارثية لعدة سنوات واكبها الاقلاع عن التصنيع والانتاجية، وتراجع سلم الأجور والرواتب، وتقلص الامتيازات والرعاية رافقها إضعاف ممنهج للنقابات العمالية، وارتفاع معدلات الاتجار بالمخدرات والكحول بين العامة والعاطلين، وخسارة جماعية عريضة لوظائف هامة، وانحدار شديد في معدلات المساواة" وتوزيع الثروة "أي تدمير ممنهج لنمط حياة المجموع لخدمة أهداف شريحة 1%" (اسبوعية "ذي نيشن" 1 أيار 2014).
الروائي الأميركي الشهير، جون ستايبك، مؤلف ملحمة "عناقيد الغضب" 1939، أوجز مشاهدته للفوارق والاختلال الاجتماعي بعد نشره روايته الشهيرة بالقول إنه بات "مشحون بتجليات غاضبة ضد أناس يمارسون إضطهاد الآخرين".
ما لم يمر عليه فان بيورين وآخرين هو تردي البنية التحتية في عموم الولايات المتحدة: شبكات الكهرباء وتوزيع المياه والمصارف الصحية والجسور .. الخ، بفعل جشع الشريحة الضيقة المسيطرة وقرارها بعدم الاستثمار في تطوير قطاعات الخدمات، باستثاءات معزولة لا تعدل الصورة العامة، ومراكمتها معدلات أرباح خيالية لعدة عقود خلت. ويعد هذا التردي في الأداء وعدم الوفاء بالالتزامات التنموية مصدراً إضافياً لحالة عدم الإستقرار، غالباً ما يتم القفز عليها وإهمالها بالكامل.
سبق لمركز الدراسات أن تناول وضع الشبكات الكهربائية الأميركية وإبراز خصائصها وتردي تجهيزاتها ومعداتها، وأضحت البنية غير قادرة على تلبية تزايد الطلب على التيار الكهربائي دون انقطاع لفترات متعددة في المدن الصناعية الكبرى. يشار ايضاً إلى التقلص في إمدادات محطات التوليد بوقود الفحم، لعدة اعتبارات منها المحافظة على البيئة وتقليص انبعاث الغازات السامة. والنتيجة، تنامي الطلب وتراجع الانتاج وارتفاع فترات إنقطاع التيار الكهربائي، كما أسلفنا.
وإنقطاع التيار الكهربائي تتأثر سلباً به القطاعات والمراكز المدينية بحكم كثافة المؤسسات الانتاجية والاستهلاكية، والتي لا تضاهي إمكانياتها تخزين الاغذية، مثلا، قدرات المناطق الريفية أو الضواحي السكنية الأوسع انتشاراً. وعليه، تشتد الحاجة لنقل الامدادات على طرق المواصلات. فانقطاع التيار الكهربائي، ولو عرضياً، يؤدي إلى فساد الأغذية المحفوظة وإرباك شبكة الامدادات. فالظروف المناخية القاسية، لا سيما انقطاع التيار بفعل العواصف الثلجية، الأعاصير والزوابع المدمر، تؤدي إلى ازدياد الطلب على المواد الاستهلاكية والتي ينفد بعضها سريعاً، يرافقه صعوبة المؤسسات في اتمام العمليات المصرفية وإدامة الاتصال مع المصارف والبنوك لسداد قيمة المواد الإستهلاكية إلكترونياً.
تعثر إمدادات المواد الغذائية والاستهلاكية للأسواق المدينية يرفع معدلات الاحتجاج والتي قد تتطور سريعاً لاشتباك والوصول للمواد المطلوبة بطريق السرقة، وقد تتفاقم الأوضاع سلباً مع استمرار انقطاع التيار الكهربائي مما يعزز حتمية المواجهة والاشتباك مع قوات الأمن والحرس الوطني التي قد تجد صعوبة في السيطرة على الأوضاع، كما شهدت مدن لوس انجليس ونيويورك سابقاً.
لعل أبرز مثال على تطور الاحتجاجات وصعوبة السيطرة كان ما شهدته ولاية لويزيانا خلال "اعصار كاترينا" المدمر عام 2005، والذي اعتبر أحد أشد الأعاصير التي ضربت الأراضي الأميركية طيلة تاريخ تكوين الدولة. واندلعت أحداث السطو والاشتباك مباشرة عقب تراجع حدة الاعصار، 30 أب 2005، وسعي من تبقى من الناجين للبحث عن مواد غذائية ومياه شفه نادرة، وتعرضت بعض المتاجر للسرقة نظراً لعدم توفر المواد الحيوية بوسائل إعتيادية، وإخفاق السلطات المركزية في توفير الإغاثة والامكانيات المطلوبة بالسرعة اللازمة.
وشهد منطقة مركز الإعصار في قطاع من مدينة نيو 2اورلينز أعمال سطو واغتيال مسلح وسرقة للسيارات وبعض أحداث الاغتصاب كردود أفعال على حجم الغضب والاحتقان الشعبي ضد تقصير السلطات، ليس إبان الإعصار فحسب، بل للتهميش والفقر المدقع والاهمال الذي أصاب تلك المناطق. وتجدر الإشارة إلى أن السلطات المركزية، للدولة الاتحادية والولاية على قدم المساواة، عمدت إلى إخلاء تلك المنطقة ممن تبقى من سكانها وأجبروهم على اللاعودة، ليتبين لاحقاً أن هناك مخطط لاستثمار البقعة الجغرافية لصالح أحد حيتان المال والنفوذ المحليين، والذي تربطه علاقة صداقة حميمية مع الرئيس السابق جورج بوش الإبن آنذاك.
كما أن السلطات استدعت عشرات الالاف من الحرس الوطني والقوى الأمنية المدججة بالسلاح، أتوا من مناطق أميركية متعددة، بلغ تعدادها زهاء 46،838 عنصراً أرسلوا على عجل "لحفظ الأمن" في تلك المنطقة الملتهبة. واتضح لاحقاً أن جزءاً كبيراً من تلك القوى لم تتوفر له المعرفة التامة بحقيقة التوترات ودرجات الاحتقان. وعبرت حاكم ولاية لويزيانا آنذاك، كاثلين بلانكو، بصفاقة عن جهوزية القوة قائلة "لديها بنادق رشاشة من طراز ام-16 معدة وجاهزة للاطلاق. أعضاؤها يحترفون إطلاق النار والقتل وتوقعاتي أنها ستقوم بذلك". وأقر النائب في مجلس النواب عن الولاية، بيل جيفرسون، في تصريح لشبكة "ايه بي سي" للتلفزة بالقول إن القوة "اشتركت في إطلاق النار، وأيضاً في أعمال القنص".
ما دلت عليه تلك التجربة المكلفة بشريا وماديا هو عدم قدرة السلطات الاتحادية السيطرة على اندلاع اشتباكات عاجلة تهدد السلم الأهلي، بل ربما فاقمتها. ففي حال اعصار كاترينا، تردد ان السلطات الاتحادية كان لديها خطة باخلاء الناجين من الاعصار الى مراكز اكثر أمنا، منها ملعب كرة القدم الضخم، مهيأ لاستيعاب 800 فرد في احوال الطواريء بينما تدفق اليه حوالي 30،000 نازح.
هشاشة البنية التحيتية لشبكة توزيع الكهرباء لم تغب عن بال المسؤولين الحكوميين، وادراكهم ايضا لتداعيات انقطاع التيار لبعض الوقت مما قد يشعل هشيم العنف في معظم المناطق. وطالبوا بتطبيق بعض الاجراءات، لتبرز عقبة الانجاز بانها ستستغرق عدة سنوات بتكلفة اجمالية تقدر ببضع مليارات من الدولارات.
التقلبات المناخية الحادة تشكل احد اهم دواعي القلق فضلا عن خلل تقني ينال شبكة توزيع الكهرباء بالتتالي، مع الاخذ بعين الاعتبار ان الشبكة تبقى عرضة لاستهداف هجمات ارهابية، محلية او خارجية. ورصدت الاجهزة الرسمية حالتي هجوم على الشبكة العام الماضي؛ الاول استهدف المحطة النووية لتوليد الكهرباء في ولاية تنسي، والثاني استهدف محطة فرعية في ولاية كاليفورنيا عبر اطلاق نار من قبل مجموعة مجهولة الهوية، ادى الى تدمير 19 محولا كهربائيا. تم الحادث في ساعات متأخرة من الليل وهي فترة لا يكثر عليها الطلب وتم استدراك التداعيات واصلاح الخطوط قبل بزوغ ساعات الفجر. يشار الى ان الحادث الاخير لو وقع في وضح النهار اثناء ذروة الطلب على التيار الكهربائي، ربما لتسبب بانقطاع تام لمنطقة جغرافية واسعة. كما ان الفاعلين في كلا الحادثتين استطاعوا الافلات ولم يعثر عليهم. واخذت شركات التوليد عبرة سريعة بتعزيز اعمال الحراسة على المحطات الرئيسة والفرعية.
في الاحوال الاعتيادية، تشكل الاضطرابات الناجمة عن انقطاع التيار الكهربائي احد اكبر التهديدات التي تواجه النسيج الاجتماعي الاميركي. وتم رصد تنامي مضطرد لاحتمال وقوع اشتباك مسلح بين السلطة المركزية والمواطنين، تعزز بشكل اكبر خلال المواجهة مع راعي البقر، كلايفن بندي، تصدرتها الميليشيات المسلحة والوافدة على جناح السرعة لمنطقة الاشتباك المحتملة بدافع اختلافاتها مع سيطرة ونفوذ الدولة الاتحادية.
تشكيلات الميليشيات المتعددة تلتزم جانب السرية في اعمالها، وما يتوفر من معلومات دقيقة هو النذر اليسير. احدى اهم مكونات تلك المجموعات برز "حماة القسَم"، الذين يبلغ تعداد افرادها نحو 3،000 عنصر وسبق لبعضهم اداء الخدمة العسكرية او في اجهزة الشرطة، وعقدوا العزم فيما بينهم على عدم امتثالهم لاوامر الدولة التي يعتبرونها مناهضة للدستور.
برز تشكيل "حماة القسَم" بقوة في مواجهة القوات الاتحادية نظرا لاتخاذها من مدينة لاس فيغاس مقرا اساسيا لها واستطاعت حشد اعضائها على وجه السرعة وتوفير المساعدات اللوجستية للمرابطين في مزرعة بندي. التشكيل لا يعتبر نفسه ميليشيا مسلحة، بيد ان رصد اعضائه بكامل اسلحتهم في المنطقة سلط الاضواء عليه.
تعزز وجود "حماة القسَم" بفروع اخرى من الميليشيات المسلحة، والتي لم تعرف اعدادهم بدقة لكن يعتقد انها ادنى من سرية مشاة. وتجدر الاشارة الى الولايات المتعددة التي ارسلت "ميليشيات مسلحة" للمرابطة هناك، منها: تكساس، مونتانا، اوكلاهوما، اريزونا، ونيفادا. اما الاعداد الدقيقة فبقيت حيز التكهن. من المجموعات المسلحة الاخرى صعد "فرسان الجبل الغربي، حركة 912، ومجموعة 3%." الاعتقاد السائد ان اعضاء تلك المجموعات لا تتجاوز اصابع اليدين، اما حجم المساعدات الراجلة والمعدات التي تموضعت في موقع الاشتباك المحتمل يدل على قاعدة عريضة من المؤيدين الملتزمين بتوفير المعونات اللوجستية.
من الخطأ اعتبار تلك الميليشيات المسلحة رديفة لقوة عسكرية حقيقية، بالرغم من خبرة بعض اعضائها في الاعمال الحربية كمجندين في القوات الاميركية المحتلة في العراق وافغانستان. وكل منها لديها هيكلية قيادية منفصلة عن الاخرى، ومن الطبيعي ان تتعرض صفوفها الى خلافات حول التكتيكات التي ينبغي اتباعها. كما ان تشكيلاتها تتباين في جملة الاهداف التي تسعى لتحقيقها، فالبعض هرع لتوفير الحماية لراعي البقر بندي ليس الا، والبعض الآخر لا يتورع عن الانخراط في اشتباك مسلح مع القوى الأمنية الاتحادية.
دلت المواجهة الاخيرة غير المكتملة على امكانية اشعال صاعق التفجير للتمرد في الاراضي الاميركية. وقد افصح عدد من عناصر الميلشيات المشاركة عن رغبتهم باندلاع المواجهة والتي من شانها اطلاق رصاصة التمرد ليعم كافة اراضي البلاد. القوى الأمنية بدورها، والتي تمتلك معلومات مفصلة عن التشكيلات المسلحة واهدافها عبر مخبريها داخلهم، تدرك خطورة الأمر مما دفعها الى التراجع المرحلي عن الاشتباك وانهاك اعضاء الميليشيات عبر المرابطة لفترة غير محددة وما سينتج عنها من عودتهم تدريجيا الى مناطقهم الاصلية.
مع مضي الزمن فقد "بندي" ومناصريه زخم التحرك والاستقطاب وتراجعت حدة الاشتعال التي مثلتها المواجهة قبل بضعة اسابيع. لكن التموجات داخل صفوف تلك العناصر تبقى قابلة للاشتعال مرة اخرى ردا على اي محاولة قمع قد تقدم عليها السلطات الاتحادية، وايقاع خسائر بالارواح.
في حال ساد التعقل وتم نزع فتيل الاشتعال مع "بندي" واعوانه سلميا، لا ينبغي غض الطرف عن التداعيات السياسية العميقة. فالتجربة التاريخية لنشوء الدولة المركزية تشير الى حوادث عدة مشابهة، وكان من شأنها احداث تغيرات بالغة في الخارطة السياسية افرزت حزبين سياسيين يتناوبان السلطة، منذ عهد انتخاب الرئيس توماس جيفرسون. وعرفت تلك المواجهة الحادة "بانتفاضة الويسكي،" عام 1794، في تحدي مزارعي الحبوب خاصة الذرة ومؤسسات تقطير الكحول سلطة الدولة بفرض ضرائب اضافية عالية على مشروب الويسكي، بلغت 25% من القيمة التجارية، بغية تمويل عجز خزينة الدولة الناجم عن الحروب. ولخص احد المسؤولين الرافضين لسلطة الدولة آنذاك الأمر بالقول "ان نخضع لكافة اعباء الدولة والتمتع بصفر من المزايا العائدة للدولة هو وضع لن نخضع له ابدا."
يجدر الاشارة الى ان انتفاضة الويسكي كانت اشمل واوسع واكبر حجما مما جرى مع راعي البقر، بندي، وفي نفس الوقت ينبغي عدم اغفال الجوانب المشتركة المتعددة خاصة لهبة العديد من المعارضين وتشكيل جسم شبه متجانس مقاوم لاستخدام السلطة المركزية وسائل الضغط بالقوة غير المتناسبة. كما ان المواجهات كشفت اتساع تعدد الاراء السياسية المختلفة، خاصة للوافدين من المناطق الحضرية استعدادا للمواجهة.
تشكلت حينئذ عدة هيئات ومنظمات على ارضية الولاء للوطن، اطلق عليها "الجمعيات الجمهورية والديموقراطية" التي اعتبرت مناوئة وهدامة للدولة الاتحادية. وحذر الرئيس الاميركي الاول جورج واشنطن من تلك الظاهرة المتبلورة قائلا " ان لم يتم مواجهة تلك الجمعيات .. ستلجأ لهز الاسس التي تقوم عليها الدولة". وسارع واشنطن برفقة وزير خزانته آنذاك، الكساندر هاميلتون، تشكيل وترؤس قوة عسكرية ضخمة بمقاييس ذلك الزمن، انطلقت من مقر العاصمة الاتحادية، فيلادلفيا، الى بؤرة التمرد في المناطق الريفية الواقعة في الشطر الغربي من ولاية بنسلفانيا لاخماد حركة التمرد بنجاح. المناوئين للحكومة اطلقوا على القوة المتشكلة "جيش البطيخ" تندرا (واطلاق التسمية مرده ان الجنود كانوا يرتدون بذلات عسكرية خضراء تغطي قمصانهم الحمراء تحتها، أي اخضر من الخارج أحمر من الداخل مثل البطيخ)، والتي استطاعت القاء القبض على نحو 30 فردا منهم دون مقاومة، بيد ان التداعيات السياسية لتلك الخطوة كانت بالغة.
عودة لظاهرة "بندي" وما كرسته من تفاعلات وآفاق في المدى المنظور، ورغبة في وضعها ضمن سياقها الحقيقي بعيدا عن الرغبات والمبالغات الاعلامية، نستدرك اوصاف وسائل الاعلام اليمينية وعلى رأسها شبكة "فوكس نيوز" التي جاهدت واستمرت في ابراز الدور البطولي لراعي البقر ورفعه الى مكانة "الاباء المؤسسين" للدولة الاتحادية ومساواة فعلته بمواجهتهم آنذاك لسطوة التاج الملكي البريطاني. بعد انقضاء "السكرة وحلول الفكرة"، ثبت ان التحدي المشار اليه لم يكن معزولا عن دعم وتحريض التيارات اليمينية وعلى رأسها الممول الثنائي الاخوين كوك، اللذين تبلغ ثروتهما مجتمعة عدة مليارات من الدولارات، والذي وصف بأنه "نموذجا رائعا لحماقة ارتكبها التيار اليميني"، في رهانه على شخص "منزوع الدسم"، في المقياس السياسي والايديولوجي، لتنفيذ اجندة اكبر من حجمه وقدراته الفردية، بل اكبر من طاقات مؤيديه من الميليشيات.
من المفارقة والسخرية في آن ان "بندي" ومناصريه اقاموا خيمة استقبال على بوابة مزرعته لاستيعاب الميليشيات المسلحة تحت يافطة اضرت باللغة الانكليزية لما تضمنته من سوء املائي جاء على الشكل التالي "MILITA SIGHN IN"، خطء قد يرتكبه طالب بثقافة المرحلة الابتدائية، مما يدل على سطحية ثقافة الميلشيات المسلحة من ناحية.
دعم الاخوين كوك لحركة "بندي" الهزلية غير قابل للجدل، وشكل منصة انطلاق لتشكيلات ومجموعات اخرى تناهض الدولة. تراجع الدعم المعلن عقب ارتكابه خطايا تصريحاته المفعمة بالعنصرية والتي شكلت احراجا كبيرا لهذين الممولين "لمواجهة مع السلطة المركزية انتظراها نحو عقدين من الزمن"، كما افاد مقربون منهما. محصلة اجندة الاخوين هي سعيهما لنزع ملكية الدولة عن الاراضي العامة وتحويلها الى السلطات المحلية في الولايات المعنية، كي يتسنى لهما الفوز بعقود مجزية لاستثمار اراضي شاسعة بثمن بخس، ان وجد، مستغلين نفوذهما التجاري عبر شبكة استثمارات متشعبة تدر دخلا لبعض الولايات عن طريق الضرائب من الصعب الاستغناء عنها، مهما بلغت بسيطة.
في غضون ذلك، النشاط التجاري للاخوين كوك يشمل التنقيب عن المعادن والنفط وتقنية تكسير الصخور التحتية لاستخراج النفط، وتجارة الاخشاب. يدرك الاخوين بدقة ان استغلال الاراضي المشار اليها ضمن الظروف الراهنة مقيد بقوانين الحماية من الدولة المركزية، ويتضح مدى حرصهما على ركوب موجة الغضب التي رمز لها في البداية "منزوع الدسم" بندي بغية توسيع حجم استثماراتهما. بعبارة اخرى، شكل بندي "حصان طروادة" لمشاريع الاخوين كوك لحين افصاحه عن توجهات عنصرية احرجت اقرب المقربين اليه. وما مراهنتهما على "بندي" الا امتداد لتاريخ المراهنة على "الجمعيات الوطنية" في التاريخ الاميركي الرسمي، ذات الافق الضيق والتي يسهل تسييرها من قبل المتنفذين، على قاعدة صراع ثنائية بين فريق يطالب بدور اكبر للدولة المركزية وآخر ينادي بتكثيف السلطات في المجالس المحلية.
اما آفاق المواجهة المذكورة فينبغي النظر اليها في سياق معارك متصلة تعلو وتنخفض حدتها، وتترك خلفها آثارا سلبية في البنى الاجتماعية، ليس اقلها تسليط الضوء على سطوة شريحة الاثرياء (1%) سالفة الذكر، وتنامي فالق توزيع الثروة وتقلص شريحة الطبقة الوسطى تباعا، وتداعي البنى التحتية، مما سيؤدي الى مزيد من المواجهات التي لن تكون نهاياتها بسلاسة نهاية المواجهة مع راعي البقر.