الإمبراطور هولاند وزيارته إلى تونس
مقال في صحيفة "القدس العربي" يتناول زيارة الرئيس الفرنسي المزمعة إلى تونس، ويعود إلى بداية عهد الرئيس فرانسوا هولاند، قبل أن ينتقل لتناول تزامن الزيارة المؤجلة مع اقرار الدستور التونسي وتجاوز بعص مواده مراحل لم تبلغها حتى أعرق الديمقراطيات الغربية.
نزار بو لحية- صحيفة القدس العربي: قبل ان تحط طائرة الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند على مدرج مطار تونس قرطاج في زيارة هي الثانية في غضون ستة اشهر، لحضور احتفالية ختم الدستور المقررة الجمعة المقبل في قصر الرئاسة، بعثت لوبيات الإعلام في فرنسا رسائل مفتوحة ومشفرة، في الوقت نفسه، تلتقي كلها على أمر واحد، وهو أنه اصبح الآن بمقدور "المستعمرة السابقة" أن تطمح للحصول على مقعد العضوية الشرفية في نادي الديمقراطية العريق والمغلق، بعدما صادقت على الدستور وسلمّت مقاليد الحكومة لفريق من "التكنوقراط".
المصالح وهي البوصلة التي تقود نخب السياسة ودوائر المال والإعلام في باريس دفعت برئيس يواجه عواصف هوجاء من الانتقادات، بدءاً من ادائه المهزوز طوال العام الأول من عهدته الرئاسية، وانتهاء بمغامراته وغرامياته التي لا أول لها ولا آخر إلى القدوم على عجل إلى العاصمة تونس كي يقطف ما بدا ثمرة تغري رائحتها قبل طعمها الكثيرين في الشرق والغرب، بالإنقضاض على منطقة ظلت ردحا طويلا من الزمن تدور في فلك الإمبراطورية الفرنسية وحدها.
الصحف الفرنسية وقنوات التلفزيون اصيبت بشلل جزئي أدخلها في غيبوبة قصيرة افاقت معها وهي لا تكاد تصدق ما يجري في بلد وصفته قبل أسابيع قليلة بأنه ينحرف شيئا فشيئا نحو حرب أهلية طاحنة توشك أن تأتي على الاخضر واليابس بفعل جنون الإسلاميين واندفاعهم نحو تخريب منجزات الحداثة والتنوير واصرارهم على فرض نموذج غريب وغير مقبول على ابناء بلدهم.
المفاجأة لم تكن فقط في عدم حصول شيء من كل ذلك، بل أيضا وهذا الأهم في أن "أصحاب اللحى"، كما يصفهم جزء كبير من ذلك الإعلام، قطعوا خطوات جريئة وغير متوقعة نحو ترسيخ المكتسبات القديمة في الدستور وتجاوزها إلى مراحل لم تبلغها حتى أعرق الديمقراطيات الغربية مثل دسترة التناصف بين المرأة والرجل في المجالس المنتخبة، وحتى التزام الدولة بحرية الضمير ومنع دعوات التكفير وهي مواضيع لم يسبق أن تم التنصيص عليها في الدساتير العربية.
أثناء مناقشة فصول الدستور لم تصدق مراسلة صحيفة "لوموند" العريقة نفسها فكتبت بحماسة شديدة عنوانا يقول "تونس تدير ظهرها للشريعة"، نشر على الصفحة الاولى وجعل نفس الصحيفة تكتب بعـــــد ذلك بأيام في افتتاحيتها في العاشر من الشــهر الماضي مقالا مطولا تحت عنوان "وعود النموذج التونسي".
ما أربك باريس وخلط اوراقها هي انها لم تحاول منذ فوز حركة النهضة في انتخابات تشرين الاول/ اكتوبر 2011 ان تستوعب امكانية التعايش مع حكومة ائتلافية تضم اسلاميين معتدلين للمرة الأولى، فالحركات الإسلامية بنظرها وحسب التصريح الشهير لوزير الداخلية مانوال فالس إلى إذاعة اوروبا 1 اياما بعد اغتيال الناشط شكري بلعيد، تعني "فاشية اسلامية" لا غير.
التحول اللافت كان في الزيارة الأولى لهولاند مطلع شهر تموز/ يوليو الماضي ساعات فقط بعد إزاحة الرئيس المصري محمد مرسي من الحكم، وقال وقتها أمام نواب المجلس التأسيسي بأن فرنسا لا ترى تعارضاً بين الإسلام والديمقراطية وانها مستعدة للعمل مع أي طرف تفرزه صناديق الإقتراع في تونس.
بعد خطاب هولاند وزيارته التي ظلت تتأجل عدة مرات بفعل البرود الواضح في علاقة باريس بتونس حدث الاغتيال السياسي الثاني في ظرف عام واحد، وهنا لم تحاول فرنسا ان تنخرط في الأزمة السياسية التونسية بنفس الحماس السابق، بل حافظت على نوع من الحياد الظاهر رغم استقبالها لعدة قيادات من المعارضة وقدوم بعض النواب الفرنسيين لمساندة اعتصام الرحيل الذي نظم الصيف الماضي للاطاحة بالمجلس التأسيسي والحكومة.
ليس معروفا حتى الآن إن كانت فرنسا قد لعبت دوراً مباشرا في اللقاء الشهير بين الشيخ راشد الغنوشي وزعيم حركة نداء تونس الباجي قائد السبسي في أحد فنادق عاصمة الأنوار، الذي مهد الطريق في ما بعد للوصول إلى توافقات خطة الرباعي وخارطة الطريق، التي قادت بدورها في ما بعد إلى المصادقة على الدستور وولادة حكومة "التكنوقراط"، لكن الثابت أنها ترى في التطورات الحاصلة في تونس خطوات مهمة للحفاظ على نفوذها الثقافي والسياسي الواسع، فضلا عن مصالحها الاقتصادية والتجارية المتشعبة.
أما خروج الإسلاميين من الحكومة بالتحديد فهو يعني الكثير لباريس، إذ يشعرها بالإطمئنان وبعودة الثقة بينها وبين حلفائها التقليديين في السلطة، ممن تخرّجوا من جامعاتها وتأثروا بثقافتها الفرانكفونية، ويجنبها أيضا "وجع الرأس" والتوجس من نوايا الوافدين الجدد على السلطة، في الإنفتاح على اقتصادات دول آسيوية وأميركية لم يكن هناك مجال في السابق لإقتصاد تونسي وضع منذ الإستقلال تحت رحمة المستعمر أن يفكر أو يحلم يوما بالوصول إليها.
لن يضخ هولاند معه قناطير الذهب والفضة في ذلك الإقتصاد المأزوم بالتأكيد، لكنه سوف يقدم ايماءة مناسبة تدل على عودة الصفاء إلى العلاقات التونسية الفرنسية بعد جفاء طويل. أما بالنسبة لحركة النهضة فهي تجد نفسها الآن قد كسبت الكثير بذلك الخروج المشرف في الوقت المناسب، لإن نجاح حكومة المهدي جمعة سوف يحسب لها ولقرارها الشجاع، أما فشلها فسوف يدعم رصيدها الإنتخابي ويعزز فرص فوزها بالإنتخابات المقبلة، وهو ما يدركه الجميع تقريباً بمن فيهم الفرنسيون أيضا، ومن أجل كل ذلك فسوف يكون الحذر هو الشعار الأنسب لتعاملهم مع الوضع الإنتقالي لتونس في انتظار أن توضح الصورة أكثر بعد الإنتخابات.
ما حصل بهروب بن علي قبل ثلاث سنوات من الآن قد يعيد بعض الرشد للسياسة الفرنسية، فلا دعمها الأعمى لنظامه أثبت جدواه في السابق، مثلما لن يكون عداؤها المطلق للإسلاميين الآن مفيدا لا على المدى القريب أو البعيد.
مهمة الأمبراطور هولاند اذن لن تكون بالسهولة المتوقعة، خصوصا أن الحشود التي ينتظر ان تصل تونس لنفس الاحتفال لن تكون مرتاحة بالتأكيد لاستعادة باريس لنفوذ ظن الجميع انه ذهب مع الإمبراطورية القديمة ولم يعد ممكناً في ظل التحولات الجديدة أن يستمر بنفس الأسلوب والمنطق. فهل ينجح في حماية مكتسبات الإمبراطورية أم يظل الطريق؟ لننتظر ونرى.