أجساد ضائعة و "عقول مشتتة" تُبهر العيون
مفاجأة مشهدية لم نعتد مثلها من قبل. الرقص المعاصر يحضر في أبهى صورة وأعمق تعبير من خلال العرض الساحر "عقول مشتتة" (falling minds) للفنانة المتميزة "ندى كانو"، على خشبة "المدينة" مع 5 راقصين تعبيريين، قدّموا عرضاً درامياً بالغ الشفافية والإيحاء، إختصر المعاناة الإجتماعية التي يعيشها الناس هذه الأيام وسط تفكك الروابط وتشعب القناعات بما يصب في خانة الإحباط على ما وصلت إليه الحال العامة في البلاد.
غريب أمر الإنسياب في الرقص لدى العناصر الخمسة على الخشبة، ثلاث صبايا في عمر الشباب الأول (لوري فريوتليان، ريم نعماني، وماريا زغيب) وشابان (شادي عون، وديمتري حداد) كانوا في حالة تناغم وإنسياب كأنهم جسد واحد، والأمر اللافت أن رقصهم ينطلق منهم فرداً فرداً بمعنى أن المشاهد لا يلاحظ أي تنسيق بين الراقصين، لا بل إن أحداً منهم لا ينظر إلى زميله بطرف عينه لكي يظل على الإيقاع ، كما يحصل في غالبية العروض الراقصة سواء كانت فولكلورية، أو كلاسيكية أو معاصرة. وهذا أمر أعطى اللوحات دفقاً من التواصل العاطفي ندر توفره إلاّ في الفرق العالمية المحترفة، حيث يطير الراقصون كل في فضائه ليلتقوا لاحقاً في رقعة محددة، يُعلن فيها الخطاب المأخوذ من اللوحة المنفّذة على الخشبة.
العيون تتابع الراقصين وكأنهم يروون حدوتة بسيطة تتلاحق تفاصيلها نقلة إثر نقلة وخضوعاً بالإحباط عنصراً إثر الآخر، تعبيراً عن الإنكفاء الشخصي على الذات تمهيداً لإثبات أن التشتت في العقول هو الذي جعل من الحياة الإجتماعية غير متوازنة، أو أن التداعيات في العلاقات الإجتماعية هي التي أوصلت العقول إلى هذه النهاية السلبية من التشتت، وبالتالي باتت الصورة مبعثرة غير متماسكة مما يفرض على الراقصين وفق الكوريغرافيا التي أشرفت عليها وأطلقتها "ندى كانو" أن يركضوا في كل الإتجاهات، وينقادوا في إتجاه بعضهم البعض ثم التفرق كل في إتجاه مع إعادة هذه الحركية عدة مرات، لشرح فحوى التشتت الذي يفرض نفسه على المناخ العام في العرض الذي يستمر ساعة وربع الساعة، يشعر به المتابع وكأنه بضع دقائق فقط نظراً لسلاسته وجماله.
"عقول مشتتة" عمل في منتهى الرقي والقيمة والقدرة على جذب العقول والأفئدة في آن إلى ما يجري على المسرح من فعل إبداعي يرتكز على معنى إنساني أساسه ومحوره التذوق والشعور. والتحية للفنانة "كانو" التي أسست عام 2003 "فرقة بيروت للرقص" وبعد أربع سنوات أتبعتها بـ "ٍستوديو بيروت للرقص"، وراقصو العمل الخمسة من تلاميذها.