رغم الحرب والعقوبات وكورونا.. الزراعة السورية الضامن لعودة الاقتصاد
أمام تحديات الحرب والعقوبات الأميركية والأوروبية، جاء انتشار جائحة كورونا عالمياً ليؤكد أهمية الزراعة في سوريا. وفي ظل الإجراءات الحكومية الصارمة التي اتخذتها دمشق لمنع انتشار الفيروس، شكل القطاع الزراعي الرافد الأساسي للسوق السورية بما تحتاجه من محاصيل زراعية وحيوانية.
على بعد قرابة 20 كيلومتراً جنوب غرب مدينة حلب شمال سوريا، شرق الأوتستراد الدولي حلب دمشق، يقع المركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة المعروف باسم "الإيكاردا". المركز نقل أعماله من لبنان إلى سوريا في العام 1977، بالتزامن مع انطلاقة النهضة الزراعية في البلاد.
اختير الريف الجنوبي لحلب مقراً رئيسياً للمركز، لأسباب تتعلق بالمناخ والتربة، أهمها ارتفاع المنطقة عن سطح البحر، والهطولات المطرية، وتنوع الأتربة، كما تبعد المنطقة عن مجرى نهر قويق أقل من 4 كيلومترات، ما أهّلها لتكون موقعاً مناسباً لأبحاث المركز الذي يهتم بتطوير المحاصيل في المجتمعات الزراعية النامية.
عمل المركز في سوريا في ظل إيلاء الدولة الزراعة أهمية خاصة، فالزراعة في رؤية دمشق كانت الرافعة الرئيسية للتخفيف من آثار العقوبات التي فرضت عليها في ثمانينيات القرن الماضي، على خلفية رفض الرئيس الراحل حافظ الأسد الدخول في معاهدة سلام مع "إسرائيل"، إضافة إلى ما عرف حينها بأحداث الإخوان المسلمين.
دعم الزراعة ومنح الأرض مجاناً للفلاحين من قبل الحكومة، شكلا عاملين رئيسيين لزيادة مساحة الأراضي المستصلحة زراعياً في سوريا، فبلغت مساحة الأراضي المزروعة 6 مليون هكتار.
تشكل الأراضي القابلة للزراعة ما يقارب 32% من مساحة سوريا، وتنقسم إلى أراضٍ مروية، وتبلغ مساحتها مليوناً و500 ألف هكتار، وأراضٍ بعلية (تعتمد على مياه الأمطار للري) تبلغ مساحتها 3 ملايين و600 ألف هكتار.
شكلت الزراعة ما يزيد على 25% من الصادرات السورية في العام 2009، في حين شكلت ما يقارب 21% من الدخل القومي للبلاد بين الأعوام 2000 و2010، أي قبل بداية الحرب في هذا البلد في العام 2011.
شكلت بداية الحرب في سوريا نقطة تحوّل قلبت موازين الواقع الزراعي في البلاد التي خسرت معظم مواردها الزراعية، ما انعكس سلباً على حياة أكثر من 60% من السكان، فالزراعة بشقيها النباتي والحيواني شكلت فرص عمل لـ 25% من السكان، في حين اعتبرت مصدر دخل رئيسياً لقرابة 60% من السكان حتى العام 2010.
شكل الدعم الحكومي والبنى التحتية حاضنتين أساسيتين لعمل الفلاحين في الزراعة. حرصت الحكومة على منح الأرض مجاناً للفلاحين، كما عملت على وصول الخدمات إلى القرى النائية في الأرياف، وأهمها "الطرق والاتصالات والتعليم والمستوصفات الصحية والمراكز الزراعية والمحروقات"، إضافة إلى تكفل الدولة باستلام المحاصيل وتسويقها. وقد قُدمت هذه الخدمات بهدف دفع الفلاح إلى البقاء في أرضه، واستمرت حتى العام 2011.
تكفلت المؤسسة العامة للأسمدة والمؤسسة العامة لإكثار البذار، إلى جانب شركت الجرارات الحكوميات، بتأمين مستلزمات الزراعة للفلاحين، كما تكفلت الدولة باستلام المحاصيل الزراعية وتسويقها داخلياً أو تصديرها إلى خارج البلاد في حال تطلب الأمر.
من جهة ثانية، تقدم المؤسسة العامة للأعلاف ومديريات وزارة الزراعة حاجات مربي المواشي والدواجن من أعلاف وأدوية وطبابة بيطرية. وتشرف الدولة على تصدير الدواجن والمواشي، ما يضمن للمزارع ثباتاً في تصريف منتجاته محلياً وخارجياً (للتذكير: شكلت دول الخليج والعراق أهم وجهات تصدير المواشي السورية حتى العام 2011، في حين بدأ تهريب المواشي إلى تركيا بعد الحرب بطرق غير شرعية).
خسائر الزراعة ودورها في مواجهة العقوبات
في السنوات الثلاث الأولى من الحرب السورية، خرج أكثر من 70% من مساحة البلاد عن سيطرة الدولة، وسيطرت فصائل مسلحة مصنفة إرهابية على الأرياف على وجه الخصوص، ومنطقة الجزيرة السورية، ودير الزور. واقعٌ أفقد دمشق مواردها الزراعية بشكل شبه كامل، كما أفقد الفلاحين أهم نقاط الدعم لاستمرارهم في أراضيهم.
فقدان الأمان وخطورة الوصول إلى المدن دفع الفلاحين إلى عدم بيع المحصول وتركه في أغلب الأحيان في أرضه.
استمرار الحرب أدى إلى فقدان الأسمدة، وخصوصاً مع سيطرة تنظيم داعش على شرق البلاد ووسطها. كما بات تأمين البذور والأعلاف المدعومة حكومياً أمراً مستحيلاً، إضافة إلى انقطاع الكهرباء وعدم وصول المحروقات إلى الفلاحين. جميع ما ذكر شكل عوامل أدت إلى نزوح كثيف من الأرياف إلى المدن؛ "مناطق سيطرة الدولة السورية، كما في دمشق مثلاً"، أو اللجوء إلى دول الجوار وأوروبا، ما أدى إلى نزيف حاد في اليد العاملة في الزراعة.
وقد شكل كل ما سبق ضربة قاسية تلقاها القطاع الزراعي على مدار سنوات الحرب، فانخفضت نسبة مساهمة الزراعة في الناتج المحلي من 20% في العام 2010 إلى 5% في العام 2015، كما تراجع الإنتاج الحيواني بمقدار 35%، وانخفضت أعداد الدواجن بنسبة 40%، بحسب الإحصائيات الصادرة عن وزارة الزراعة للعام 2015.
كما سجل إنتاج القمح أعلى مستوى تراجع له منذ 30 عاماً، بحسب منطمة "الفاو" العالمية. يُشار إلى أن القمح يعتبر السلعة الأهم غذائياً في سوريا. وقد تمتعت البلاد بالاكتفاء الذاتي من هذا المحصول منذ العام 1999 وحتى العام 2010، إذ بلغ إنتاجها من القمح قبل بدء الحرب 4.5 مليون طن من القمح سنوياً، بفائض يصل إلى 10% من حاجة البلاد.
وخلال سنوات الحرب، تراجع الإنتاج، وسجل في العام 2016 ما يقارب 2.5 مليون طن، بحسب تقديرات منظمة الزراعة والأغذية التابعة للأمم المتحدة "الفاو".
وقدرت الأضرار التي لحقت بالقطاع الزراعي في سوريا بحوالى 2 مليار دولار في العام 2014 فقط. وقدر إجمالي الخسائر حتى العام 2017 بـ 18 مليار دولار. مع ذلك، بقيت الزراعة تؤمن أهم مستلزمات السوق السوري من لحوم وألبان وأجبان، إضافة إلى المحاصيل الزراعية، فلم تستورد سوريا من المحاصيل السابقة الذكر إلا القمح، بسبب الانخفاض الحاد الذي شهدته زراعته.
تحرير حلب نقطة تحول جديدة
شكل تحرير حلب في نهاية العام 2016 ومطلع العام 2017 نقطة تحول جديدة في الواقع الزراعي السوري. في تقريرها الصادر في 3 نيسان/أبريل 2017، أشارت منظمة "الفاو" إلى أن الزراعة، ورغم الأضرار التي لحقت بالقطاع الزراعي، ما زالت تشكل الرافعة الأساس لتأمين حاجة المواطن. كما يمكن من خلال دعم الزراعة تقليل حاجة السوريين إلى مساعدات إنسانية وخفض أعداد اللاجئين إلى خارج البلاد.
التقرير أشار إلى أن أكثر من 57% من الأسر في المناطق الريفية تزرع الغذاء لاستهلاكها الخاص، في حين رأى 60% من الأسر أن أسباب تراجع الزراعة تعود إلى الافتقار إلى الأسمدة، ولفتوا إلى أن فقدان الأسمدة يشكل العائق الرئيسي لإنتاج المحاصيل المعمرة، مثل القمح والشعير والبقوليات.
كما يشكل شح المحروقات (إما بسبب العقوبات الأميركية الأوروبية وإما بسبب سيطرة أميركا وحلفائها في قسد على آبار النفط السوري) أحد أهم أسباب عزوف الفلاحين عن الزراعة.
ومع تحرير حلب والوصول إلى البوكمال شرق البلاد. بدأت الحياة تعود إلى القطاع الزراعي السوري تدريجياً. وقد سجل العام 2019 بداية العودة القوية للدولة السورية، بتحريرها أكثر من 70% من جغرافيا البلاد، ما أتاح إمكانية عودة طرق المواصلات، ووصول الكوادر المختصة إلى المناطق الزراعية، إضافة إلى إعادة تشغيل مشاريع الري، وبدء تأمين الأعلاف والأسمدة للفلاحين ومربي المواشي والدواجن.
يؤكد رئيس اتحاد الفلاحين السوريين المهندس أحمد صالح إبراهيم، للميادين، أن مساحة الأراضي الزراعية الخاضعة لسيطرة الدولة السورية زادت بعد تحرير الجيش السوري معظم المحافظات السورية، وخصوصاً الأرياف. ويؤكد إبراهيم أن بات بإمكان مؤسسات الدولة والتنظيم الفلاحي الوصول إلى المناطق المحررة، ومساعدة الفلاحين لتأمين احتياجاتهم من المدخلات الزراعية.
ركزت الدولة جهودها على القطاع الزراعي مع بداية تحرير ريفي حلب الغربي والشرقي نهاية العام 2017، إذ شكل تدمير تنظيم داعش أجزاء من قنوات الري، إلى جانب الأضرار التي لحقت بمضخات المياه التي تزود أقنية الري بمياه نهر الفرات، "كمحطة ضخ البابيري شرق حلب"، التحدي الأكبر للدولة السورية.
واعتبرت إعادة تأهيل محطات الضخ والأقنية اللبنة الأولى لبدء عودة الحياة الزراعية النشطة إلى ريف حلب الشرقي وريف الرقة الجنوبي، وتطلّبت إعادة تأهيل المناطق الزراعية المحررة جهوداً مضاعفة لإعادة تأهيل البنى التحتية ومراكز الزراعة، ما انعكس سريعاً على إعادة زراعة مساحات واسعة من الأراضي، فتوزعت المساحات المزروعة في سوريا للعام 2019 – 2020 على الشكل التالي:
- القمح / 1.353.803 / هكتار.
- الشعير / 1.505.921 / هكتاراً.
- بقوليات (حمص – عدس – بازلاء – فول) / 171615 / هكتاراً.
- المحاصيل الطبية والعطرية / 83.263 / هكتاراً.
- البطاطا للعروة الربيعية / 13.547 / هكتاراً.
ما ذكره رئيس اتحاد الفلاحين السوريين يعلل ربما أهم عوامل قدرة دمشق على الصمود ومواجهة تشديد أميركا لعقوباتها. كما تشير الإحصائيات التي زود بها المهندس أحمد إبراهيم "الميادين نت" إلى اكتفاء ذاتي تمكنت دمشق من تحقيقه العام الماضي في العديد من المحاصيل الزراعية، وأهمها:
- إنتاج الشعير / 3.053.000 / طن. الفائض عن حاجة القطر من الإنتاج كان بحدود / 800.00 / طن.
- إنتاج البطاطا (خريفية – ربيعية – صيفية) بلغ / 626.000 / وهي تحقق الاكتفاء الذاتي.
- الزيتون / 848.000 / بزيادة عن حاجة القطر 35%.
- الحمضيات / 1.095.000 / طن بزيادة عن حاجة القطر 35%.
- الخضار الصيفية / 1.763.000 / طن، والشتوية / 306.000 / بزيادة عن حاجة القطر 15%.
- الإنتاج الحيواني: حتى اليوم، لم تستورد سوريا أي منتجات حيوانية، سواء في ما يتعلق باللحوم أو الألبان أو حتى الدواجن.
لغة الأرقام تثبت دور البنى التحتية التي تتمتع بها سوريا في إمكانية عودة القطاع الزراعي إلى ما كان عليه في مدة زمنية قياسية، لتبقى العقوبات الأميركية العائق الأكبر أمام تمكن دمشق من النهوض بقطاعها الزراعي على النحو الأمثل.
العقوبات الدولية وانتشار كورونا
أمام تحديات العقوبات الأميركية والأوروبية، جاء انتشار جائحة كورونا عالمياً ليؤكد أهمية الزراعة في سوريا. وفي ظل الإجراءات الحكومية الصارمة التي اتخذتها دمشق لمنع انتشار الفيروس، شكل القطاع الزراعي الرافد الأساسي للسوق السورية بما تحتاجه من محاصيل زراعية وحيوانية.
يؤكد رئيس اتحاد الفلاحين السوريين أن دمشق يمكنها أن تؤمن كل ما تحتاجه السوق من محاصيل زراعية، كما يمكن لمربّي الدواجن والمواشي في سوريا أن يرفدوا السوق بحاجتها من لحوم ومشتقات حيوانية.
كلام رئيس اتحاد الفلاحين بدا جلياً في السوق التي حافظت على كل ما يحتاجه المواطن. ورغم الارتفاع الطفيف في الأسعار، فإنها بقيت ضمن حدودها المقبولة سورياً، وظلت الأرخص عالمياً.