تونس.. تحدّيات اقتصاديَّة بعد عقد على الثورة
تتمثّل الخطوة الأولى لمراجعة الوضع الاقتصادي التونسي في تصحيح طريقة احتساب الميزان التجاريّ، الذي يؤثّر بدوره في قيمة العملة التونسيّة، بعد أن وصلت إلى منحنى تنازلي منذ سنوات. كما تعاني تونس أزمة تأمين فرص عمل جرّاء واقع القطاعات الإنتاجية التي شهدت تردياً
تونس الخضراء تنزلق نحو الأسوأ، سواء على الصّعيد المالي، أو على صعيد القطاعات الاقتصادية المختلفة، أو على الصعيد السياسي. ومؤخراً، خيّمت جائحة كورونا على المشهد الذي أصبح أكثر ضبابيّة، فيما لا تعرف البلاد إلى أين تتّجه.
بعد 10 سنوات على انتصار الثورة التونسية وإزاحة نظام زين العابدين بن علي عن سدّة الحكم، تعيش تونس أزمة اقتصادية غير مسبوقة، فشعارات تأمين فرص العمل وتنمية القطاعات الإنتاجية لم تتحقق، بل إنّ المؤشرات الاقتصادية الصادمة تعكس واقعاً صعباً. وما لم يتم تداركه، ستكون معيشة الشعب التونسي والأجيال المقبلة في خطر.
وتؤكّد وكالة التصنيف الائتماني "موديز"، في أحدث تقرير لها في شباط/فبراير 2021، خفض تصنيف تونس إلى "B-3"، مشيرةً إلى أن الآفاق المستقبلية سلبية، ما يساهم في اهتزاز ثقة الدول المتعاملة معها، لأنّها ستصبح مصنّفة ضمن الدول غير القادرة على الخلاص من الديون.
تعتبر الخبيرة الاقتصادية جنات بن عبد الله في حديث إلى "الميادين نت" أنّ الاقتصاد التونسي يعاني مخاطر عالية اليوم، وأن المستثمر الأجنبي، إذا ما أراد توظيف رأس ماله في البلاد، سيواجه خطر عجز الدولة عن السداد.
وتشير إلى أنّ حجم الاقتراض الخارجي وصل إلى رقم غير مسبوق، بلغ 16 مليار دينار تونسي، أي قرابة 6 مليارات دولار، إضافةً إلى دين داخلي يتخطّى 3 مليارات دينار، لتبلغ نسبة الدين من إجمالي الموازنة للعام 2020، البالغة 57 مليار دينار، 30%، ما يعكس هشاشة في المؤشرات الاقتصادية والمالية والاجتماعية.
صحيح أنّ جائحة كورونا أدت دوراً في تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي، لكنّها أيضاً عمّقت ما كان موجوداً سابقاً، وهو حصيلة 9 سنوات بعد الثورة، إذ ارتفع عدد العاطلين من العمل في العام 2020 إلى 725000، أي ما نسبته 17.4%.
وقد نزل وقع تصنيف "موديز" كالصاعقة على الرأي العام التونسي، مع ما يحمله من تداعيات خطيرة، فهو يسمح لتونس التي باتت من الدول ذات المخاطر العالية بالاقتراض بنسب فوائد تتجاوز 11%، بعد أن كانت نسبتها 7%، ما يفرض على الشعب والأجيال المقبلة كلفة مرتفعة جداً للخروج من الأزمة.
هنا، تلفت بن عبد الله إلى أنّ تصنيف "موديز" عكس حقيقة الوضع الاقتصادي الصعب. وقد دعت الوكالة العالمية إلى الإسراع في تنفيذ برنامج الإصلاحات الهيكلية الذي أوصى به صندوق النقد الدولي. وتعتبر "موديز" أنّ تونس تباطأت في تنفيذ البرنامج، ولا سيّما في موضوع خفض نفقات الميزانية في ما يتعلّق بكتلة الأجور المرتفعة مقارنة بالناتج المحلي. وقد دعت في تقريرها البنك المركزي التونسي إلى الحفاظ على سياسة نقدية متشدّدة ونسبة فائدة مرتفعة للبنك المركزي.
من جهته، أصدر المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي بياناً في 26 شباط/فبراير 2021 لتقييم الوضع الاقتصادي في تونس، دعا فيه الدولة إلى المسارعة في تنفيذ برنامج الإصلاحات الهيكلية، والمباشرة بخفض النفقات، عبر تجميد الأجور ووقف التوظيف في القطاع العام، كما طالب برفع الدعم عن المحروقات، وإعادة هيكلة المؤسّسات العامّة، والاتجاه نحو الخصخصة.
تعلّق الباحثة بن عبد الله على "وصفة" صندوق النقد لتونس بالقول إنّ الأخير لم يبدل تعليماته وشروطه للدول النامية لمنحها قروضاً منذ سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، على الرغم من أنّ العالم تغيّر، واعتبرت أنّ هذه "الوصفة" أدّت إلى كوارث أصابت الدول النامية.
كما أنّ الصندوق لم يبدّل أيّ بند من البنود التي يفرضها على البلدان النامية التي تعاني أزمة مديونية مرتفعة، وهي، بحسب اعتقاده، صالحة لكلّ زمان ومكان ولكلّ بلد. وتضيف أنّ هذه الشروط نفسها تُفرض في لبنان ومصر وتونس، وفي كلّ الدول التي تعاني مديونية مرتفعة.
ورأت أنّ "وصفة" صندوق النقد تساهم في إفقار الشعوب وتجهيلها، وتدمير منظومة الإنتاج، وتدمير كلّ ما هو محليّ، والاتجاه نحو الاعتماد على الاستيراد من الخارج، عبر فتح الحدود للشركات العالمية التي تحوّل بلادنا إلى أسواق استهلاكية، مع خصخصة المرافق العامة تحت ذريعة التطور التقني. واتهمت جنات بن عبد الله الحكومات بالتواطؤ مع هذه المؤسسات الدولية لتثبيت موقعها السياسي على حساب شعوبها.
وكانت الحكومة التونسيّة تسعى إلى الحصول على قرض خارجيّ من الصندوق لتمويل عجز الموازنة الذي بلغ 13.4 من قيمة الناتج الإجمالي في العام 2020، وهو العام نفسه الذي شهد انكماشاً اقتصادياً غير مسبوق وصل إلى 8.8% جرّاء جائحة كورونا، كما تراجع الناتج المحلي الإجمالي إلى 110 مليارات دينار. وتعتمد تونس بشكل أساسيّ على السّياحة لتأمين العملة الصّعبة، إضافةً إلى تحويلات المغتربين من الخارج، إلّا أنّ المداخيل السّياحية تراجعت جرّاء العمليات الإرهابية التي شهدتها البلاد.
وأوضحت جنّات بن عبد الله أنّ ثمّة مغالطات في طريقة احتساب عجز الميزان التجاري؛ ففي العام 2020، بلغ العجز 23.7 مليار دينار، أي حوالى 8.8 مليار دولار، بينما اعتبرت السلطات الرسمية أنّ العجز يبلغ 12.7 مليار دينار. وتعود هذه الفجوة إلى طريقة الاحتساب التي يرى عدد من المختصين والاقتصاديين أنّها تتضمَّن الكثير من المغالطات.
وبحسب صندوق النقد الدولي الذي أقرّ في العام 2008 النسخة السادسة لميزان المدفوعات، والذي يفرق عند احتساب عجز ميزانية الدولة بين المبادلات التجارية للشركات غير المقيمة الخاضعة لنظام التصدير الكلّي والمبادلات التجارية للشركات المقيمة الخاضعة للنظام العامّ للتصدير، فإنَّ الأولى غير مطالبة باسترجاع مداخيل صادراتها، أي أنّ هذه المداخيل تبقى في البلد الأمّ، باعتبارها شركات غير مقيمة، وتعمل وفق نظام المناولة. أمّا المبادلات التجارية للشركات المقيمة الخاضعة للنظام العامّ للتصدير، فهي مطالبة باسترجاع مداخيل صادراتها، ما يؤدّي إلى تزويد البلد بالعملة الصعبة، بينما لا تأثير للشركات غير المقيمة في الاحتياطي.
وذكّرت جنات بن عبد الله بمطالبتها المصرف المركزي التونسي منذ العام 2015 بمراجعة طريقة الاحتساب، واعتماد النّسخة السّادسة التي أقرّها صندوق النقد الدولي، لافتةً إلى أنّ الاتحاد الأوروبي بدأ يعتمد هذه الطريقة منذ العام 2010، مشيرة إلى أنّه الشّريك التجاريّ الأوّل لتونس.
وتتمثّل الخطوة الأولى لمراجعة الوضع الاقتصادي التونسي في تصحيح طريقة احتساب الميزان التجاريّ، الذي يؤثّر بدوره في قيمة العملة التونسيّة، بعد أن وصلت إلى منحنى تنازلي منذ سنوات. كما تعاني تونس أزمة تأمين فرص عمل جرّاء واقع القطاعات الإنتاجية التي شهدت تردياً على مدى سنوات منذ أيام المخلوع زين العابدين بن علي.
وسط هذه المؤشّرات السّلبية، هل ستستطيع تونس النّهوض من كبوتها والاعتماد على مواردها وطاقاتها لإعادة اقتصادها إلى السكّة الصّحيحة؟