الابتكار التكنولوجي.. صراع واشنطن ضد التفوق الصيني

لعقود من الزمان، سخر العديد من الأميركيين من الصين باعتبارها أمة من المقلدين غير القادرين على الإبداع، لكن مع مرور السنوات القليلة الماضية تغيرت الرواية، وتبخر أي تهاون بشأن التفوق التكنولوجي الصيني.

  • تقوم الاستخبارات الأميركية بالعمل على التكيف مع تحديات البيئة الرقمية المعاصرة
    تقوم الاستخبارات الأميركية بالعمل على التكيف مع تحديات البيئة الرقمية المعاصرة

الابتكار التكنولوجي هو عنوان منافسة عالية المخاطر بين الولايات المتحدة والصين. ورغم موجة النشاط الكبير على المستوى الفيدرالي على مدى السنوات الثلاث الماضية، إلا أن واشنطن لا تزال تلعب، في هذا المجال، دور اللحاق بالركب التي قادته بكين على مستوى عال.

قبل عدة أشهر، ومع قانون "CHIPS and Science"، التزمت الحكومة الأميركية تزويد صناعة رقائق أشباه الموصلات بأكثر من 50 مليار دولار من الاستثمارات الفيدرالية على مدى السنوات الخمس المقبلة. جاءت هذه الخطوة في السنة الأولى للرئيس الأميركي جو بايدن في منصبه، حين نفذت إدارة بايدن-هاريس استراتيجية صناعية لتنشيط التصنيع المحلي، واعتبرت أنّ العمل على هذا التقدم سيقوم باستثمارات تاريخية من شأنها أن تهيئ العمال والمجتمعات والشركات الأميركية للفوز في سباق القرن الـ 21.

فوق ذلك، سيعزز هذا العمل التصنيع الأميركي، وسلاسل التوريد، والأمن القومي، ويستثمر في البحث والتطوير، والعلوم والتكنولوجيا، والقوى العاملة في المستقبل للحفاظ على "بلاد رائدة في صناعات الغد"، بما في ذلك تكنولوجيا النانو، والطاقة النظيفة، والحوسبة الكمومية، والذكاء الاصطناعي.

يقوم قانون"CHIPS and Science" بالاستثمارات الذكية حتى يتمكن الأميركيون من التنافس في المستقبل والعمل على إيجاد ما يمكن أن يضاهي ما وصلت اليه بكين.

كذكل، سيعزز قانون "CHIPS and Science" البحث والتطوير والإنتاج الأميركي لأشباه الموصلات، ما يضمن قيادة الولايات المتحدة في التكنولوجيا التي تشكل أساس كل شيء من السيارات إلى الأجهزة المنزلية إلى أنظمة الدفاع. تمكنت واشنطن من اختراع أشباه الموصلات، لكنها تنتج اليوم نحو 10% فقط من الإمدادات العالمية، ولا تنتج أي من الرقائق التجارية الأكثر تقدماً، وبدلاً من ذلك، تعتمد على شرق آسيا في 98% من الإنتاج العالمي

لكن، في خضم الصراع مع الصين، فإنّ الأموال التي وضعت بخطة هذا المشروع لزمها حواجز وقائية قوية، يضمن عدم قيام المستفيدين ببناء مرافق معينة في الصين وغيرها من البلدان التي اعتبرتها واشنطن مثيرةً للقلق. كل هذا العمل جاء لتخفيض التكاليف العامة في الحياة اليومية، وخلق فرص العمل وتعزيز سلاسل التوريد، والأهم: المواجهة الاسراتيجية مع الصين.

مع العلم أن ذلك لم يحدث إلا بعد أن عصفت أزمة سلسلة التوريد بالاقتصاد الأميركي لمدة عامين نتيجة "كوفيد-"19، وبعد أن حذر "البنتاغون" من أنّه أصبح يعتمد على موردي شرق آسيا بشكل شبه كامل من الرقائق التجارية التي يستخدمها.

في عام 2019، كثفت الولايات المتحدة حملة دبلوماسية لإحباط محاولة الصين للسيطرة على البنية التحتية لـ 5G في العالم. خطوةٌ كانت بطيئة سبقتها تقويض الشركتان الصينيتان المدعومتان من الدولة على نطاق واسع "هواوي" و"زي تي إي" المنافسين الرئيسيين، بعدما عززا مواقعهما في شبكات الاتصالات داخل بلدان حلفاء الولايات المتحدة.

وفي العام الماضي، قدمت لجنة الأمن القومي المعنية بالذكاء الاصطناعي تقريرها النهائي، الذي أوصى باتباع نهج شامل للحفاظ على قيادة الولايات المتحدة في التعليم والبحث والتطبيقات في الذكاء الاصطناعي. وهذا يعني ضخ الملايين في استثمارات فيدرالية جديدة وتركيز حكومي مستدام. 

خطوة متأخرة أيضاً، إذ جاءت بعد أربع سنوات من إطلاق الصين استراتيجيتها الوطنية بشأن الذكاء الاصطناعي، والتي ولدت مليارات الدولارات من التمويل الجديد، وأظهرت الشركات الوطنية الرائدة، ودمجت الذكاء الاصطناعي في استراتيجية الاندماج العسكري - المدني في بكين.

في ساحات المعارك التكنولوجية، ومع الأخذ بعين الاعتبار الخطوات المهمة التي اتخذتها واشنطن في السنوات الثلاث الماضية، يصعب القول إن الولايات المتحدة أصبحت الآن في وضع أفضل أو منظم للمنافسة طويلة الأجل. 

ولأن التكنولوجيا في قلب المنافسة الأميركية الصينية لبناء اقتصاد متنام وأدوات قوة أكثر حدة، تحتاج الحكومة الفيدرالية إلى تقديم التزام جاد بتجديد أدوات فن الحكم الأميركي، بما في ذلك الجيش، للتغلب على فترة طويلة من الخطر الذي بات يداهمها عالمياً.

لا يمكن لواشنطن أن تقف مكتوفة الأيدي وتسمح لبكين بالحصول على ميزة في الجولة التالية من التقنيات الناشئة، والتي ستمتد إلى ما هو أبعد من المجال الرقمي لتشمل التكنولوجيا الحيوية، والتصنيع الذكي، والأساليب الجديدة لإنتاج الطاقة وتخزينها.

خسارة التفوق

وفي ظل هذا السيناريو، يخاف الأميركيون من ازدياد سحب البلدان التي تعتمد على التكنولوجيا المصنوعة في الصين، بما في ذلك بعض حلفاء الولايات المتحدة، إلى المدار السياسي لبكين، وهو ما جعل السؤال يُطرح في الإعلام الأميركي: كيف سمحت واشنطن للأمور بأن تصبح بهذا السوء؟

وللمفارقة، فإنّ الولايات المتحدة التي تعتبر قوة تكنولوجية عظمى تعاني مع ذلك من نقاط ضعف تكنولوجية كبيرة، فمن ناحية، يبدو أن البلاد تمتلك كل شيء: شركات ضخمة ذات منصات عالمية ضخمة، ومصممو رقائق رائدون في العالم، ونظاماً بيئياً غنياً للشركات الناشئة، ومراكز ابتكار، إضافة إلى الافتخار بأفضل الجامعات في العالم وتعمل كوجهة مفضلة للمواهب العالمية في مجال التكنولوجيا. لكن من ناحية أخرى، هناك الكثير من الأدلة على أنّ هناك خطب ما غير صحيح في المنظومة نفسها: قاعدة تصنيع التكنولوجيا الذابلة، والجيش الذي يكافح للتكيف بسرعة مع الابتكارات العلمية، والشلل العام عندما يتعلق الأمر بالتقنيات الجديدة مثل الذكاء الاصطناعي.

الأزمة هي أنّه، في حقبة ما بعد الحرب الباردة، تطور النظام البيئي للتكنولوجيا الفائقة في الولايات المتحدة وفقاً لمنطق العولمة، ليس استجابةً لاعتبارات استراتيجية، وهذا لا شك أنّه عامل مهم للغاية. كانت الاستثمارات ذات الهامش المرتفع وسلسلة القيمة العالية والبحث عن موردين رخيصين في الخارج منطقية، من ناحية تجارية، للشركات والمستثمرين الأميركيين، لكنها دمرت مشهد التصنيع التكنولوجي الأميركي، بالتوازي مع التقدم البطيء لكن العملاني لبكين. ملأت الصين بذكاء الفراغ الذي سببه عدم مبالاة الأميركيين بالآثار الاستراتيجية الدولية أو القدرة التنافسية لهم.

شبكة الجيل الخامس حلبة صراع جديدة

الصراع المحتدم بين الولايات المتحدة والصين إزاء تكنولوجيا الاتصالات من الجيل الخامس ينطوي على رؤيتين مختلفتين كلياً للإنترنت ولطريقة إدارة الشبكة العالمية. التقدم الذي أحرزته الصين، في هذا المجال، والذي سيعتمد في البنى التحتية الموجودة حالياً لدى دول العالم، بما فيها المستشفيات والمواصلات ومحطات إنتاج الطاقة، جعل الغرب يقف سداً منيعاً أمامها خوفاً من نفوذ بكين في داخل دولهم.

سريعاً، حثت "هواوي" الصينية واشنطن على التخلي عن "سلوك الخاسر" وانتقدت الادعاءات الأميركية بأنّ معداتها يمكن أن تُستخدم من قبل بكين للتجسس، مع ضعف نشاطها للشبكات في ظل تصاعد التدقيق العالمي بشأنها. وقال غوه بينغ رئيس مجلس إدارة "هواوي"، وهو المنصب الذي يتناوب عليه مسؤولي أكبر شركة منتجة لمعدات الاتصالات في العالم وثالث أكبر منتج للهواتف الذكية يوم الجمعة: "الحكومة الأميركية تتبع سلوك الخاسر، تريد تشويه هواوي لأنّها لا تستطيع منافستها". 

تعمل الولايات المتحدة على معالجة قدرتها المتناقصة على إنتاج التكنولوجيا الحيوية واعتمادها على سلاسل التوريد التي تمر عبر منافسها الرئيسي أو تقترب منه بشكل خطير. وستحتاج الحكومة الفيدرالية إلى التأكد من أن الاستثمارات في البنية التحتية الرقمية، بدءاً من شبكات 5G والألياف البصرية، ستؤدي إلى العمل على نشرها بسرعة وكفاءة، إذا ما أرادوا الحاق بقدارت بكين في هذا المجال.

وهذه "السياسة الصناعية" التي تدعو إليها صحيفة "فورين أفيرز"، هي تسمية محفوفة بالمخاطر حسب التقرير، ولكن التدخل الحكومي المستهدف، يمكن أن يسد الفجوات الحرجة ويوفر المنافع العامة عندما يقصر السوق في خلق مسارات لنشر التكنولوجيات في جميع أنحاء الاقتصاد، وإطلاق العنان للابتكار في القطاع الخاص وتعزيز الناتج الاقتصادي. 

قانون "CHIPS and Science" هو سبب للتفاؤل الأميركي، لكن إذا لم يتم تنفيذه بنجاح، فإنّ واشنطن تخاطر بأن تكون الخطوة الأولى هي نفسها الأخيرة في الاستراتيجية التكنولوجية الصناعية الجديدة المدعومة من دافعي الضرائب.

كما أن الصراع بين بكين وواشنطن يعزز الحوافز التي يمكن أن تروق لـ "الدول المتأرجحة" التي تحسب حالياً ما إذا كانت الصين أو الولايات المتحدة تقدم نهجاً أكثر جاذبية للتكنولوجيا.  ولأجل ذلك، يتخذ قانون "CHIPS and Science" خطوةً في هذا الاتجاه من خلال تفويض 500 مليون دولار لإنشاء صندوق دولي للأمن التكنولوجي والابتكار. 

كل هذا يصب في مصلحة "البنتاغون" أيضاً، الذي ينوي المتابعة والحفاظ على تفوق البرمجيات لأنه في المستقبل ستحدد جودة البرامج ميزة الجيش الأميركي في جمع المعلومات وتجميعها وتحليلها، إضافة إلى إحباط أي نوع من الهجمات. كل هذا يقوم على المقارنة بقدرات الجيش الشعبي الصيني، وعليه يطالب الجيش الأميركي بتطوير كل نظام وقدرة ومفهوم تشغيلي مستقبلي لوزارة الدفاع، مع وضع البرمجيات في الاعتبار، حتى يتمكن من إثبات علو كعبه، في أي قتال مستقبلي. 

من جهتها، تقوم الاستخبارات الأميركية بالعمل على التكيف مع تحديات البيئة الرقمية المعاصرة وتركيز اهتمام أكبر على فهم اتجاهات التكنولوجيا الأجنبية. ومع اكتساب الصين قدرات جديدة، تخاطر الـ"CIA" بالتخلف عن الركب أيضاً. وبمجرد أن يتم تسويق قدرات فريدة مثل الذكاء الجغرافي المكاني والإشارات، غالباً ما ستكون الشركات الصينية الرسمية والخاصة، في وضع أفضل من الحكومة الأميركية لاستغلال تحليلات البيانات التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي. وعليه، تحتاج قيادة الاستخبارات إلى تسريع التحول الرقمي لوكالاتها من خلال تبني استراتيجية موحدة ومعايير بيانات مشتركة وبنية تحتية رقمية قابلة للتشغيل البيني. 

ومن المسلم به أنّ قائمة المهام هذه طويلة وشاقة، لكن الولايات المتحدة لديها كل الأسباب للاعتقاد بأنّ منافستها التكنولوجية مع الصين سوف تشتد في السنوات المقبلة. 

لعقود من الزمان، سخر العديد من الأميركيين من الصين باعتبارها أمة من المقلدين غير القادرين على الإبداع، ناهيك بالابتكار غير المألوف. ومع ذلك، على مدى السنوات القليلة الماضية ومع الصعود العامودي لبكين، في مختلف المجالات، تغيرت الرواية وتبخر أي تهاون بشأن التفوق التكنولوجي الصيني.

اخترنا لك