الحرب في أوكرانيا "تحرر" أوروبا الوسطى من التبعيّة التاريخية

مع بدء الحرب في أوكرانيا، لعبت دول أوروبا الوسطى دوراً رئيسياً في مساندة كييف على مختلف الأصعدة السياسية والعسكرية، ما جعلها تأخذ حيزاً مهماً وضعها في مصاف الدول الغربية داخل الاتحاد الأوروبي، بعد تبعيتها في الماضي لأوروبا الغربية.

  • خطب الرئيس المجري نيابةً عن أكثر من دولة غربية داخل الاتحاد الأوروبي (أرشيف)
    خطب الرئيس المجري نيابةً عن أكثر من دولة غربية داخل الاتحاد الأوروبي (أرشيف)

في حزيران/يونيو الماضي، تحدث رئيس الوزراء السلوفيني روبرت غولوب لمدة 15 دقيقة عن مشاكل الطاقة في أوروبا داخل اجتماع قمة الاتحاد الأوروبي في بروكسل. كان حضوره وخطابه "رائع"، وفق صحيفة "فورين بوليسي"، إذ كانت أول قمة أوروبية له على الإطلاق. عادةً، يستمع القادمون الجدد في البداية، وإذا ما تحدثوا، فباختصار شديد.

لكن غولوب كسر القاعدة، والأمر اللافت هو أنه تحدث أيضاً نيابةً عن بلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ. وقتها، قال دبلوماسيون إنه فعل ذلك بمهارة وسلطة. قبل فوزه في الانتخابات السلوفينية في نيسان/أبريل مع حزبه الجديد "حركة الحرية"، وتشكيل حكومة في أيار/مايو، أسس غولوب، وهو مهندس كهربائي، شركة ناجحة لتجارة الطاقة، "GEN-I"، وقادها لسنواتٍ عديدة. 

لم يكن ليحدث قبل خمس سنوات، أن يطلب رؤساء وزراء دول من أوروبا الغربية أن يتحدث نيابةً عنهم زميل من أوروبا الوسطى. لكن ما حصل، يختصر مشهد اتجاه ملحوظ لدول القارة العجوز، وهو تحرر أوروبا الوسطى من التبعية لأوروبا الغربية، خصوصاً أن بلدان تلك المنطقة أصبحوا أخيراً أعضاء كاملي العضوية في الاتحاد.

المحفز الرئيسي؟ الحرب في أوكرانيا

يمكن أن تستغرق دول الاتحاد الأوروبي الجديدة، سنوات للوصول إلى إمكاناتها الكاملة في بروكسل. كما أن بناء شبكة واسعة، ليس في بروكسل فقط ولكن في جميع العواصم الأوروبية، يستغرق وقتاً وعملاً شاقاً، ومثله، للحصول على موظفين مدنيين أكفاء يعملون في المؤسسات الأوروبية ويسيطرون على القضايا المعقدة التي تعود أحياناً إلى سنوات عديدة.

وبعد ثمانية عشر عاماً من أكبر توسع للاتحاد الأوروبي، عندما انضمت 10 دول معظمها من أوروبا الوسطى، لا يزال بعض السياسيين والدبلوماسيين وموظفي الخدمة المدنية من تلك المنطقة يعانون نوعاً ما من "عقدة النقص". وبالمقارنة مع الهولنديين أو الفرنسيين، الذين كانوا هناك منذ بداية التكامل الأوروبي عام 1952، لا تزال تعتبر، في بعض الأحيان، هذه البلدان دول جديدة.

في كتابهما الصادر عام 2020 بعنوان "الضوء الذي فشل: لماذا يخسر الغرب المعركة من أجل الديمقراطية"، كتب عالم السياسة البلغاري إيفان كراستيف وأستاذ كلية الحقوق غي جامعة نيويورك ستيفن هولمز أنه بعد عام 1989، حاول العديد من الأوروبيين الوسطيين جاهدين أن يصبحوا مثل غرب أوروبا، وقالوا: "يمكن تلخيص الفلسفة السياسية لأوروبا الوسطى والشرقية في مرحلة ما بعد الشيوعية، بحتمية واحدة:  قلدوا الغرب". وكتب الباحثون أن ذلك تضمن "استيراد المؤسسات الليبرالية الديمقراطية، وتطبيق الوصفات السياسية والاقتصادية الغربية، وتأييد القيم الغربية علناً". وأضافا: "كان من المفهوم على نطاق واسع أن التقليد هو أقصر طريق إلى الحرية والازدهار".

ومع ذلك، تبين أن مطاردة "نموذج أجنبي مثالي" كان أكثر إحباطاً، أخلاقياً ونفسياً، مما توقعه الكثيرون، إذ يطارد المقلِدون شعور مستمر بعدم الكفاية والتبعية والدونية بينما يستقر المقلَّدون في دور الرعاة. وكتب كراستيف هولمز: "بينما كان المقلِدون ينظرون إلى نماذجهم، نظرت النماذج إلى مقلديها، على أنهم في الأسفل. وبالتالي، لم يعد غامضاً معرفة جواب السؤال: "لماذا أدى تقليد الغرب الذي اختاره الأوروبيون الشرقيون طوعاً قبل ثلاثة عقود في نهاية المطاف إلى رد فعل سياسي عنيف".

في النهاية، أصبحت بعض الحكومات محبطة للغاية، لدرجة أنها بدأت في التمرد على النموذج السابق. كان هذا الاستياء أحد القوى الدافعة وراء الموجة الشعبوية من التراجع الديمقراطي وكراهية الأجانب التي اجتاحت أوروبا الوسطى في العقد الماضي. كما بدأ البعض، مثل رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان ورئيس الوزراء السلوفيني السابق يانيز يانسا، في الوقوف علناً إلى جانب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الذي "يكره الاتحاد الأوروبي"، حسب الصحيفة. من بولندا والمجر إلى جمهورية التشيك وسلوفاكيا، انقلب السياسيون ضد كل ما تمثله بروكسل: المؤسسات المستقلة، احترام الأقليات، الصحافة الحرة، وما إلى ذلك. وفقاً لأوربان: "يمكن للعولمة الذهاب إلى الجحيم".

ولكن مع بدء الحرب الروسية في أوكرانيا في شباط/فبراير، تغيرت الأمور. أوروبا الوسطى هي المنطقة الواقعة بين ألمانيا وروسيا، وعندما كان هذان البلدان على وفاق، كان من غير الواضح أين تقف أوروبا الوسطى، لأنها، عملياً، لم تكن مضطرة إلى الانحياز إلى أي طرف. ولكن الآن بعد أن توترت العلاقات بين برلين وموسكو، بدأ هذا الغموض بالتبخر. وبصرف النظر عن المجر، التي تحافظ على علاقات ودية مع روسيا وتحاول أن تكون مع كلا الاتجاهين، اتخذت دول أوروبا الوسطى خياراً واضحاً: الانتماء إلى أوروبا.

على سبيل المثال، بولندا ناورت في السنوات الأخيرة من خلال تسييس النظام القضائي، وبالتالي انتهاك "سيادة القانون الأوروبية"، حتى أنها رفضت الانصياع لأحكام المحاكم الأوروبية بشأن هذه المسألة. وعندما حجبت المفوضية الأوروبية أموال الاتحاد الأوروبي عن بولندا رداً على ذلك، رفضت وارسو "التزحزح". ولهذا السبب، نادراً ما حصل أن زار وزراء دول الاتحاد الأوروبي بولندا بعد هذه الحادثة.

بعدها، وبسبب تعنتها، تم تهميش بولندا رغم أنها دولة كبيرة يمكن أن يكون لها نفوذ. ففي تقرير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية لعام 2020، الذي يصور إمكانات كل دولة في الاتحاد الأوروبي، برزت بولندا كثاني أكثر شريك مخيب للآمال للدول الأعضاء الأخرى. ولكن الآن، مع وجود أوكرانيا على رأس قائمة أولويات الاتحاد الأوروبي، أصبحت بولندا "دولة في خط المواجهة".

ومع تحذيرات دول أوروبا لها من روسيا، عادت واحتلت بثقة مركز الصدارة في العديد من النواحي. بدايةً، استقبلت ملايين اللاجئين الأوكرانيين، ونظراً لوجود حدود طويلة مع أوكرانيا، فكان لها دور رئيسي في توفير المساعدات الإنسانية والمعدات العسكرية لكييف. أيضاً، أخذت بولندا دوراً حاسماً بالنسبة لخطط "الناتو" الدفاعية لأوروبا. ولكل هذه الأسباب عاد الوزراء ورؤساء الحكومات الأوروبيون لزيارة وارسو مرةً أخرى. كذلك، كانت بولندا أول من أثار قضية عضوية أوكرانيا في الاتحاد الأوروبي في بروكسل، خلال اجتماع بعد أيام فقط من بدء الحرب.

فجأة، عادت بولندا لتكتسب مصداقيةً مرة أخرى، وهو الأمر الذي منحها نفوذاً داخل الاتحاد. وتحاول وارسو استخدام ذلك لحل مشكلة سيادة القانون مع الاتحاد الأوروبي، من خلال وضع قانون جديد يتضمن بعض التنازلات التي تهدف إلى الإفراج عن بعض أموال الاتحاد الأوروبي المجمدة البالغة 36 مليار يورو (أو 36.7 مليار دولار). رغم ذلك، لم تكن هذه التنازلات كافية حتى الآن، حسب ما حذرت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين مؤخراً. لكن واقع أن بولندا تحاول "النزول عن الشجرة العالية" جدير بالملاحظة في حد ذاته.

ومن العلامات الأخرى على التحرر البطيء لدول أوروبا الوسطى: اختفاء مجموعة "Visegrad"، وهي منصة غالباً ما تستخدمها بولندا والمجر وجمهورية التشيك وسلوفاكيا للتموضع المشترك في بروكسل، ولا سيما فيما يتعلق بقضايا الهجرة. المجر وحدها هي التي لا تزال مناهضة للهجرة بشراسة، حتى أن أوربان حذر أخيراً من "الاختلاط العرقي" في أوروبا. وعلى الرغم من أنها لم تغير مواقفها علناً بشأن الهجرة من أفريقيا أو الشرق الأوسط، إلا أن الدول الثلاث الأخرى فتحت حدودها على نطاق واسع أمام جميع الوافدين الأوكرانيين، الذين يقيمون في الغالب في منازل خاصة. في غضون بضعة أشهر فقط، استقبلت براغ أكثر من 80,000 أوكراني، معظمهم من النساء والأطفال.

وكدليل على أن فترة "تقليدها" قد تنتهي أخيراً، بدأت الجمهورية التشيكية رئاستها لمجلس الاتحاد الأوروبي لمدة ستة أشهر في يوليو/تموز بوضع "القيم الديمقراطية" على قائمة أولوياتها. وهو ما يوضح أن البلاد تريد الاستثمار في أوروبا مرة أخرى. هذا التحول التشيكي هو واحد من عدة تحولات في المنطقة ألمحت إليها صوفي هيلينا، أخيراً، وهي عضو هولندي في البرلمان الأوروبي، حين قالت أن الأماكن التي ترتفع فيها سيادة القانون الأوروبية "غالباً ما تكون في الشرق بشكل ملحوظ".

وفي بروكسل، أصبح هذا الزخم ملموساً، إذ للمرة الأولى، يمكن لامرأة رومانية أن تصبح أمينة عامة للمجلس الأوروبي، وهو منصب مؤثر لم يسبق له أن شغلته دولة من أوروبا الوسطى. وقد تتاح لها الفرصة بعدما ترشحت، أمام منافستها الرئيسية، السفيرة الفرنسية الحالية لدى الاتحاد الأوروبي.

في النهاية، مع بدء الحرب في أوكرانيا، تخلصت دول أوروبا الوسطى من التقليد والتبعية، على إثر لعب دور رئيسي في مساندة كييف اجتماعياً وسياسياً. وهذا ما جعل هذه الدول، تأخذ حيزاً جعلها داخل الاتحاد الأوروبي، كدول من الدرجة الأولى، إلى جانب فرنسا وألمانيا.  

اخترنا لك