الصين والهند: سفينة الصراع تحط فوق "رغوة" الساحل السريلانكي
صراع جديد بين الصين والهند يتجدد في المحيط الهندي، آخره النفوذ داخل الساحة السريلانكية. وبعد تعزيز مكانتها في المحيط الهادئ، تركز بكين جهودها لمواجهة الاستراتيجية الغربية بين المحيطين.
-
فشل اتفاق مودي وبينغ لحلّ القضايا الأساسية بين الدولتين
بعد تعزيز مكانتها في المحيط الهادئ، تركز الصين الآن على المحيط الهندي في جهودها لمواجهة استراتيجية غربية مشتركة بين المحيطين الهندي والهادئ.
ومنذ الشهر الماضي، كانت السفينة "يوان وانغ 5"، وهي سفينة صينية، لتتبع الأقمار الصناعية، تبحر ببطء من المياه الصينية إلى ميناء هامبانتوتا على الطرف الجنوبي من سريلانكا.
لم يكن ليحظى السماح للسفينة البحرية الصينية بدخول الميناء السريلانكي بالكثير من الاهتمام، لولا تزايد التوترات الجيوسياسية بين الهند والصين، ومعاناة الدولة الجزرية الصغيرة من أسوأ أزمة اقتصادية لها على الإطلاق.
أثارت القضية القلق في المنطقة، حيث ضغطت الحكومتان الأميركية والهندية بقوة على كولومبو لإلغاء وصول الصين إلى الميناء. كما أبدت الهند قلقها من أن السفينة لديها القدرة على التجسس على المؤسسات العسكرية الهندية في المنطقة، وهو الأمر الذي أثار غضب الصينيين.
بدايةً، رضخت وزارة الخارجية السريلانكية لهذا الضغط في تصاريحها السياسية، لكن سرعان ما عكست كولومبو مسارها، وسمحت للسفينة الصينية بالرسو لأغراض "التجديد" بدءاً من 16 آب/أغسطس، وهو ما أعاد إحياء المخاوف بشأن النفوذ الصيني في سريلانكا.
لم يكن رسو السفينة "يوان وانغ 5" أول استفزاز يغضب الهند من الناحية السريلانكية. ففي عام 2014، رست سفينتان تجاريتان صينيتان وغواصة وسفينة حربية في ميناء حاويات صيني الصنع في كولومبو.
لكن التراجع الحاصل لدى سريلانكا حالياً يمثل ضربةً للهند، ويثير مخاوف أمنية وتساؤلات جديدة بشأن الثقة في العلاقات الثنائية بين الهند وسريلانكا. ماهيندا راجاباكسا، الذي وصل إلى السلطة لأول مرة في عام 2004، وأنهى حرباً أهلية طويلة بهزيمة نمور تحرير التاميل، بدأ أولاً في مغازلة بكين كوسيلة لتوليد الشرعية المحلية. لكن قبل ذلك بقليل، بدأت العلاقة العسكرية بينهما، إذ لعبت الأسلحة الصينية دوراً في هزيمة الجبهة المقابلة. وبعدها، زادت المساعدات الاقتصادية الصينية لسريلانكا التي تُرجمت معظمها من خلال القروض التي توسطت فيها بشكل كبير، البنوك الصينية. وبين عامي 2005 و2012 ، قدمت الصين أكثر من 4.7 مليارات دولار من المساعدات الاقتصادية لسريلانكا ، مع 98% من ذلك في شكل قروض.
في المقابل، خططت الهند أوائل هذا العام، لتقديم مساعدات مالية لسريلانكا بقيمة 3.8 مليارات دولار. ثم وقَّع البلدان، اتفاقية لتوريد 500 مليون دولار من المنتجات البترولية من شركة النفط الهندية من خلال خط ائتمان، وتم توسيعه بمقدار 200 مليون دولار أميركي آخر نيسان/أبريل.
كذلك، اتخذت الحكومة السريلانكية ترتيبات لتعبئة التمويل الأجنبي بقيمة 1.550.5 مليون دولار أميركي من خلال الدخول في 4 اتفاقيات مع شركاء التنمية الأجانب ووكالات الإقراض في الفترة الممتدة من أوائل هذا العام، وصولاً إلى شهر نيسان/أبريل. أحد الاتفاقات قدمها بنك "EXIM" وبنك الدولة الهنديان لاستيراد السلع الأساسية.
لكن، هذه المرة كان لرسو السفينة الصينية في ميناء سريلانكي سياقان مختلفان، خصوصاً، أن سريلانكا، من بين جميع البلدان ضمن المنطقة نفسها، تدرك جيداً العلاقات الهشة بين نيودلهي وبكين. أولاً، حدث ذلك على خلفية صراع يحتد بين الدولتين. وثانياً، كان من المتوقع، وبناءً على قرار الهند بالوقوف بحزم إلى جانب سريلانكا، في أثناء أزمتها المالية المستمرة، أن يدفع سريلانكا إلى الاعتراف بالمخاوف الاستراتيجية للهند من التحركات الصينية واحترامها.
ومع ذلك، فمن وجهة نظر سريلانكا، من المنطقي أن تضطر دولة تترنح تحت ضغوط مالية غير مسبوقة إلى الامتثال للضغوط الصينية. والواقع أن ميناء هامبانتوتا يخضع بالفعل للسيطرة الوظيفية الصينية، وهو ما يفسر عجز كولومبو عن منع الصين من لي الذراع الاستراتيجية، حيث يسيطر الصينيون على الميناء الحيوي بعد أن حصلوا عليه بعقد إيجار لمدة 99 عاماً.
كما أن الصين لا تزال تحتفظ بنفوذ كبير من حيث القدرة على إعادة هيكلة بعض ديون سريلانكا أو الإعفاء منها. ويُعد تخفيف عبء الديون هدفاً أساسياً، لحكومة الرئيس رانيل ويكريميسينغي الجديدة، التي تسعى إلى الحصول على خطة إنقاذ من صندوق النقد الدولي.
ومع تجدد الانخراط العسكري الصيني في سريلانكا، فإن مخاوف الهند هي من أن الرسو في الميناء يمكن أن يتطور إلى ما هو أبعد من مجرد التجديد، وهو ما نفاه ويكريميسينغي ، الذي كان أيضاً رئيساً للوزراء عام 2018.
ورغم ذلك، تحركت الهند فوراً، بدلاً من مجرد ممارسة الضغط لمنعها من الرسو. بدايةً، وضعت درعاً بالأقمار الصناعية ضد السفينة الصينية قبل أن ترسو في ميناء سريلانكا. كما نشرت أربعة أقمار صناعية وسفينة حربية لمواجهة التهديدات الأمنية من "يوان وانغ 5" بشكل استباقي. ولإحباط التهديدات المحتملة، نشرت أيضاً قمرين صناعيين من طراز "Rukmini"، اللذين يعدان من أعلى قدرات الرصد للبحرية الهندية في المحيط الهندي، وقمراً صناعياً للاستطلاع الهندي للتصوير الراداري، لتوفير المراقبة في جميع الأحوال الجوية، وقمر استطلاع "Emisat" طورته منظمة البحث والتطوير الدفاعية الهندية "DRDO"، فضلاً عن سفينة حربية للاتصالات في بحر العرب.
لم يكن هذا الخلاف، جديداً، بين الهند والصين، لا على أرض محاذية لهما، ولا على حدودهما المباشرة. وكلما صعد الخلاف بينهما إلى حد المواجهة المباشرة، تتراجع الأمور حرصاً على التطور إلى حرب تضر بالإثنتين معاً.
عام 2017، حدثت خلافات حدودية في منطقة دوكلام كادت أن تصل الى مواجهة عسكرية، إلا أنها انتهت بالتوصل إلى اتفاقات على مستوى القادة العسكريين البريين بشأن الانسحاب إلى مواقع النشر السابقة. وفي وقت لاحق، عقد رئيس الوزراء ناريندرا مودي والرئيس شي جين بينغ اجتماعات في عام 2018، اتفقا خلالها على عملية تشاورية لحل القضايا.
مع ذلك، كان صعباً إيجاد حل وسط بينهما. ففي الحسابات الاستراتيجية للصين، من المؤكد أن موقف الهند هو موقف القوة الصاعدة في المنطقة، وبالنظر إلى أن الصين منخرطة في صراع عميق من أجل التكافؤ الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، فإنها كانت تأمل في علاقات مستقرة مع الهند، استناداً إلى تفاهمات مودي - شي في عام 2018.
لكن هذه التفاهمات تراجعت مفاعيلها حين أضرت الهند، حسب بكين، بالعلاقة من خلال إعلان إقليم لاداخ المتنازع عليه كإقليم اتحادي للهند في آب/أغسطس 2019، وقيامها بأنشطتها لبناء الطرق في عام 2020.
هذا "الضرر" جاء بالتوازي، مع انطلاق الاجتماع الرابع لتحالف "الحوار الأمني الرباعي" "كواد" (Quad) بين وزراء خارجية الولايات المتحدة وأستراليا واليابان والهند. وقتها جاء ملف المواجهة مع الصين على رأس جدول الأعمال. وفي المؤتمر نفسه، أعلنت الـ "كواد" أيضاً، استعدادها للتدخل لمنع الانهيار الاقتصادي في سريلانكا، والذي سيؤدي بدوره الى أزمة إنسانية ذات "تأثير إقليمي"، بحسب المؤتمر.
بالنسبة إلى الصين، فإن التزام المجموعة الرباعية تجاه كولومبو سوف ينتهي مع الوقت، ورغم أن بكين منزعجة - بشكل عام- من الرباعية، التي يعدّها شي جين بينغ جنين "الناتو الآسيوي"، إلا أن نشاط هذه المجموعة فيما يتعلق بسريلانكا، "مثل الرغوة في المحيط الهادئ أو المحيط الهندي، والتي قد تجذب الانتباه، لكنها سرعان ما تتبدد"، بحسب تصريح وزير الخارجية الصيني وانغ يي.
من وجهة نظر هندية، فإن النمو السريع للصين في العقود الأخيرة وقدراتها العسكرية المتفوقة يخلقان علاقة غير متكافئة بطبيعتها. مبادرة الحزام والطريق دقت إسفيناً عميقاً بين البلدين، إذ وضعت المبادرة أكبر رهاناتها في جنوب آسيا، من باكستان وسريلانكا، إلى نيبال وبنغلاديش وجزر المالديف. ومن المرجح أيضاً أن تتلقى أفغانستان استثمارات كبيرة من ضمن المبادرة نفسها.
قلقت الهند من هذا التطور الحاصل في منطقة نفوذها التقليدية وسبب لها "صداعاً استراتيجياً"، خصوصاً أن العمل في الأراضي الباكستانية، والموانئ في سريلانكا، قد يُدعِّم احتياجات الصين الدفاعية. ولا تزال الخلافات الاستراتيجية محفوفة بخطر التصعيد، ومع ذلك، وبوصفهما القوتين الصاعدتين الرئيسيتين في القرن الحادي والعشرين، يبدو أن العلاقات بينهما وصلت إلى أدنى مستوياتها منذ عقود.
في عام 2020، واجه الجنود الصينيون والهنود بعضهم البعض في المنطقة المتنازع عليها عند حدودهم الغربية المعروفة باسم وادي نهر غالوان. وعلى الرغم من تسع جولات من المحادثات على المستوى العسكري في الموقع المتنازع عليه، لم يحرز أي تقدم منذ ذلك الحين. بعدها، فرضت الهند عقوبات اقتصادية على الصين، ما أدى إلى خسارة عقود بقيمة عدة مليارات من الدولارات.
من المستبعد أن تصل الأمور الى مواجهة شاملة، لكن ما حصل سلَّط الضوء على حقيقتين جيوسياسيتين مهمتين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. أولاً، وعلى الرغم من ترددها في حسم خياراتها، سوف تنجر الدول الصغيرة إلى سياسات القوى العظمى، وغالباً ما يكون ذلك في الاعتماد على الصين، أو الانجذاب إليها كأمةٍ تبشر بمستقبل باهر على الصعيد الاقتصادي والرفاه الاجتماعي. ثانياً، أصبح بحر الهند مسرحاً مركزياً في المحيطين الهندي والهادئ. وفي هذا المجال، سوف يتم اختبار قدرات نيودلهي وعملية صنع القرار فيها، على الرغم من تبنيها المعلن لسياسةٍ تتماشى مع الاستراتيجية الغربية، المتجهة انحداراً على مستوى العالم.
الآن، وفي الوقت الذي تمارس الولايات المتحدة جهوداً لدفع الصين نحو صراع مباشر مع تايوان وترسيخ انقسامات أعمق بين الدول، تقوم بكين، بعد تعزيز مكانتها في مسرح المحيط الهادئ، بتركيز جهودها لمواجهة الاستراتيجية الغربية بين المحيطين. الدول الواقعة بينهما، مثل سريلانكا، ستحدد مستقبلها بناءً على خيارها لأي جهة تميل،خصوصاً مع الخلافات الحاصلة ضمناً ضد عائلة راجاباكسا .