الحرب الأوكرانية: قراءة في الواقع الميداني وانعكاساته السياسية
القيادة الأوكرانية أمام خيارين: إمّا تسليم مدينة أرتيوموفسك التي تعد من كُبريات المدن في جنوب غربي دونباس، وإما التهيئ لمرحلةٍ آتية تكون محفوفة بهزائم أخرى.
-
مدينة أرتيوموفسك جنوب غربي دونباس (أرشيف)
وصلت مواجهات ومعارك محاور اتجاه أرتيوموفسك (باخموت) جنوب غربي دونباس إلى ذروتها، وعلى ما يبدو استنفدت القوات الأوكرانية معظم قدراتها الدفاعية والهجومية في هذا الاتجاه.
وتوغلت وحدات قتالية من التشكيلات الخاصة الروسية في عمق المدينة، واخترقت خطّ دفاع القوات الأوكرانية الرئيس. بعد هذا التطور في المعارك، اضطرت قيادة الأركان الأوكرانية إلى إرسال مزيد من التعزيزات الطارئة في محاولةٍ لعرقلة سقوط المدينة في أيدي القوات الروسية.
وعليه، باتت القيادة الأوكرانية أمام خيارين: إمّا تسليم المدينة التي تعد من كُبريات مدن جنوب غربي دونباس، وتقبل الهزيمة، وبذلك تكون المساعدات الغربية التي تلقتها كييف غير مبررة وإما الاستعداد لمرحلةٍ تكون محفوفة بهزائم أخرى، مع مخاطرتها بسحب تعزيزات من جبهات زاباروجيا وسفاتوفا، لتعزيز المجموعة القتالية في أرتيوموفسك. وبهذا الخيار الأخير، تضعف أوكرانيا تموضعها، وتضطر إلى إلغاء هجماتها في تلك الاتجاهات، أو إلقاء كل ما لديها من قوات احتياطية في محاولة يائسة أخيرة لصدّ التقدم الروسي.
كذلك، وردت تقارير عن تحقيق القوات الروسية اختراقاً في اتجاه مرتفعات بيرفامايسكايا في محيط أفدييفكا، شمال غربي مدينة دونيتسك. هذا الهجوم الروسي يأتي من الجنوب في تجاه فودينوي وأبيتنوي، وهو ما أجبر القوات الأوكرانية على التراجع إلى خطّ دفاعها الثالث.
أما الطريق الأسهل لتحقيق اختراق في بيرفامايسكايا فهو الهجوم من الغرب، أيّ إنّ على القوات الروسية المهاجمة السيطرة على الأبنية العالية المشرفة في المدينة، وهذا يعني أن خط الدفاع الأوكراني الثالث قد انهار بدوره. وهو ما يُفسّر شدّة المعارك وضراوتها في هذا المحور.
وبالنسبة إلى شمالي أفدييفكا وكراسناغوروفكا، فيبدو أنّ الوضع ما زال هادئاً. فالقوات الروسية تُمسك بمواقع حاكمة مرتفعة. وبعد تحقيق اختراق بيرفامايسكايا المنتظر قريباً، يُمكن تطوير الهجوم في اتجاهين لمحاصرة أفدييفكا.
وعلى صعيد اتجاه خيرسون، فالأركان الأوكرانية تستمر في مراكمة وزج كل ما لديها من احتياطيات لدعم الجبهة الجنوبية. وهي جبهةٌ تقع على بعد 40 كيلومتراً من المدينة، ومدفعيتها بعيدة المدى تستمر في استهداف المناطق السكنية فيها، وبحسب تقديرات الخبراء المراقبين فإنّ تلك القوات قد حشدت ما يزيد على 60 ألف مقاتل، نصفهم في نيقولايف، يتهيّئون للهجوم على خيرسون.
المعطيات الأمنية تفيد بمعلومات مؤكدة، قوامها أن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن مهتمة خصوصاً بتحقيق اختراق في اتجاه خيرسون واجتياح المقاطعة، التي باتت تعدها موسكو جغرافيا روسية. ويسعى بايدن قبل انتخابات مجلس الشيوخ الأميركي، لاستخدام النصر لمصلحة المرشحين الديموقراطيين.
أما قائد الأركان العامة المسلحة الأوكرانية الفريق فاليري زالوجني فهو يميل إلى التقدم خطوةً خطوة من دون استعجال، ويحذّر المشغل الأميركي والقيادة السياسية في كييف بأنّ الهجوم الشامل على خيرسون سوف يكبد قواته خسارة فادحة. فبحسب رأي زالوجني القوات الروسية حوَّلت خيرسون إلى قلعة حصينة.
أما الدفاع الروسية فأعلنت من جهتها اليوم أن صواريخها عالية الدقة انطلقت من القطع البحرية يوم الجمعة 14-10-2022، وأصابت أهدافها بدقة في منطقة برودي في ضواحي لفوف. ودمّرت مخازن أسلحة غربية وتقنيات عسكرية وذخائر بكميات كبيرة (مدينة لفوف المعبر الأساسي لوصول السلاح الغربي إلى أوكرانيا). واستمرت القوات الصاروخية الروسية في ستهداف أنظمة التحكم بتغذية الطاقة والتيار الكهربائي في مدن كييف وخاركوف وأخرجتها من الخدمة.
أمّا في اتجاه محيط كوبيانسك شرق ضواحي خاركوف، فقد أقدمت القوات الأوكرانية على 3 محاولات هجومية، استهدفت فيها المواقع الدفاعية الروسية، إلا أنّ سلاح المدفعية الروسية بعيدة المدى، أمكنه إصابة تشكيلات القوات المهاجمة، وألحق بها خسارة فادحة أدّت إلى تشتتها. في هذا المحور، أعلنت الدفاع الروسية القضاء على عشرات المقاتلين الأوكرانيين، وعدد من سيارات البيك أب و الآليات المدرعة.
على محاور في اتجاه كراسني ليمان، وفي يوم الجمعة 14-10-2022، نفّذت القوات الأوكرانية، بالنار، عمليات عديدة لاستطلاع الدفاعات الروسية على طول امتداد خط المواجهة والتما. ونفذ سلاحا المدفعية والمدفعية الصاروخية الروسية تعاملاً مع التقدّم الأوكراني، وأعادا القوّات المهاجمة إلى نقاط تموضعها الأساسية. وتكبدت تلك القوات أكثر من 120 قتيلاً، وخسرت 5 مدرعات قتالية، و4 سيارات بيك أب، و4 آليات خاصة.
وبالانتقال إلى محاور جنوب غربي دونيتسك في منطقة فريميوفكا، قُضي على أكثر من 90 مقاتلاً أوكرانياً، ودمّرت دبابتان، و6 مدرعات مقاتلة، و3 سيارات بيك آب.
أمّا على محاور في اتجاه نيقولايف كريفوي روغ، فقد صرّح المتحدث باسم الدفاع الروسية أنّ القوات الأوكرانية أخفقت مراراً في التقدم في اتجاه مناطق دوتشاني، وبيتي خادكي وإيشركا السكنية، بمقاطعة خيرسون. وبحسب المتحدث جرى صدّ جميع الهجمات.
وأسفرت نتيجة المواجهة عن خسارة القوات الأوكرانية ما يزيد على 130 مقاتلاً، و3 دبابات، و11 آلية مدرعة مقاتلة، و 7 سيارات. وأصابت القوات الصاروخية الروسية بصليات عالية الدقة مقار تجمّع الفرقة الـ59 مشاة المؤللة الأوكرانية، إضافةً إلى مراكز لواء المرتزقة الأجانب، في محيط مدينة نيقولاي. الضربات الروسية أسفرت عن مقتل 170 أوكرانياً ومرتزقاً، وتدمير 4 مدرعات آلية مقاتلة، و3 سيارات بيك أب، و6 آليات متنوعة.
وفي اليوم الفائت دمرت القوات الصاروخية التكتيكية (صواريخ إسكندر اثنان) من مقار القيادة والتحكم والسيطرة 63 مجموعة مرابض مدفعية، إضافةً إلى مجموعات مقاتلة متفرقة في 156 منطقة ونقطة تموضع. ودمرت 6 مخازن صواريخ وذخائر مدفعية أوكرانية، في منطقة كوبيانسك السكنية في ضواحي خاركوف، كراسنوي، نوفوسيولوفكا وبيرفايا في جمهورية دونيتسك الشعبية وفي غولي بولي في زاباروجيا، كالينوفكا ونوفايا الكسندروفكا في ضواحي مقاطعة نيقولايف.
سلاح الجو التكتيكي الروسي، أسقط مقاتلة "سو 24" أوكرانية في أجواء بريزنيغوفاتويه في مقاطعة نيقولايف، وفي اليوم الفائت أسقطت 15 مسيّرة أوكرانية، إضافة إلى إسقاط 14 صاروخاً من طراز "هيمارس" و"ألخا"، في مناطق مختلفة، كاد معظمها يسقط على مناطق مقاطعة خيرسون. (تركيز أوكراني مكثف على خيرسون).
مساعٍ دبلوماسية
وفي عملية ربط بين التطورات الميدانية الأخيرة والتفاعلات السياسية الاقتصادية يمكن القول إنّ الضربات الصاروخية المكثفة الأخيرة التي أصابت البنية التحتية في قطاع الطاقة، والاتصالات، ومراكز صناعة قرار، وأهدافاً استراتيجية في أوكرانيا على مدى يومين، فتحت المجال أمام مساعٍ دبلوماسية تمثّلت في مبادرات منها: خليجية قام بها رئيس دولة الإمارات محمد بن زايد، وأمير قطر تميم بن حمد آل ثاني، إضافةً إلى مبادرة تركية في الإعداد لاجتماعات بين الجانب الروسي وأطراف أوروبية في تركيا.
وأثبتت روسيا أموراً عدّة من خلال مشاركتها الفعالة في القمم الثلاث في نور سلطان (أستانة سابقاً) :
1- قمة "سيكا" للتفاعل والتعاون وإجراءات بناء الثقة بين الدول الآسوية، المؤتمر الذي تحوّل إلى منظمة دولية ويضمّ: الكويت، والعراق، ومصر، والصين، والهند، وغيرها من دول إقليمية لها نفوذ وتأثير.
2- قمة روسيا ودول وسط آسيا الست.
3- قمة رابطة الدول المستقلة. الأمر الأول أن روسيا اللاعب الأبرز والشريك المحوري الجامع لكل هذه المجموعات والهيكليات. ثانياً، على الرغم من وجود عناصر تميل إلى التوجهات الغربية في دول الفضاء الروسي أو السوفياتي سابقاً ذات النفس "الروسافوبي" الطابع، على سبيل المثال في كازخستان، التي نجت في مطلع العام الحالي بمساعدة روسية من محاولة إنقلاب، سارعت هذه الأطراف إلى ممارسة نوع من الضغوط على قرار الحكومة الكازاخستانية الطلب إلى مجموعة قوات الأمن الجماعي التي تقودها القوات الروسية الانسحاب بعد أدائها مهامّها والمساهمة في إحباط الإنقلاب. على الرغم من وجود تلك المكوّنات استفادت روسيا من فعاليات القمم الثلاث إلى أقصى الحدود.
ثالثاً، أدّت الصين دوراً كبيراً وازناً في هذا الحشد الدولي، وعملت لإبراز نفوذها من خلال مشاركتها في قمة "سيكا". هذا الدور يجمع ما بين التكامل الإجباري الضروري الطبيعي لإنشاء عالم متعدد القطب، ولا يخلو من عناصر المنافسة مع المساعي الروسية لأداء دور ريادي في هذا المجال.
رابعاً، في الحصيلة، أثبتت روسيا عدم نجاح قوى الهيمنة الغربية في فرض عزلة عليها، وتركت من ناحية ثانية الباب موراباً، من خلال طرح إنشاء عقدة توزيع غاز (هاب تركي) تكون تركيا مركزاً لها. وهو ما اقترحه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وأيّده الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي وافق على إنشاء مركز لتوزيع الغاز في القسم الغربي من تركيا. المقصود والمستفيد هو الدول الأوروبية. والكرة الآن في الملعب الأوروبي.