بعد 23 عاماً في السجون الأميركية.. محمد حمود يحكي قصته للميادين نت
المعتقل محمد يوسف حمود بعد 23 سنة في السجون الأميركية يقول للميادين نت "ولدت من جديد، ولديّ أشياء كثيرة لأتعلّمها وأتعرّف إليها".
-
محمد يوسف حمود (49 عاماً)
يضحك محمد يوسف حمود (49 عاماً) حين نسأله في الميادين نت عن سمعته كـ "أخطر إرهابي في العالم".
يتذكّر ابن منطقة برج البراجنة في ضاحية بيروت الجنوبية كيف كان النظامان القضائي والأمني الأميركيان يتعاملان معه برهبةٍ شديدة وخوف مما قد يفعله حزب الله اقتصاصاً له، وهو المتهم بأنّه "مسؤول عن جمع الأموال لصالح الحزب اللبناني في القارة الأميركية"، حين كان فقط في السادسة والعشرين من عمره.
الحديث مع محمد حمود، ابن قرية صربين الجنوبية، يمتدّ لأكثر من ساعة بين العربية والإنكليزية. حديثٌ يحاكم فيه محمد النظام القضائي الأميركي الذي يختلف في الواقع والتجربة عما يبدو في الكتب.
وفي حديثه، يبدو محمد متحرّراً من كل ضغينة أو رغبة بالثأر، يميّز بين الأميركي الصالح كمحاميه الذي رافقه في رحلته القضائية الطويلة، وبين قاضي الادعاء الذي صنع نجوميته بسبب قضية محمد. يتحدث عن حبسه في سجون أمنية عالية الحراسة وفيها إجراءات متشددة، وعن سجون دموية وأخرى أقلّ في تصنيفها الأمني.
بعد 23 عاماً في السجون الأميركية، محمد حمود يعود إلى داره في برج البراجنة وهذه قصته#أميركا #لبنان #محمد_حمود #الميادين_Gohttps://t.co/LD49n48n33
— Almayadeen Go الميادين (@almayadeengo) June 15, 2023
تفجيرات 11 أيلول غيّرت حياتي إلى الأبد
في سجنه، عرف بتفجير برجَي التجارة العالميين في نيويورك في أيلول/سبتمبر عام 2000. يقول محمد حمود للميادين نت: عرفت حينها أنني سأُدان وأن حياتي قد تغيرت إلى الأبد!
يقول إنّه تعامل مع السجناء كلهم، سواء الأمنيون أو الجنائيون، على المستوى الإنساني دائماً وأنه حاول مساعدة الجميع من دون تحيّز، ولا سيما أنه أمضى آلاف الساعات يدرس القانون الأميركي إضافة إلى حيازته شهادتين في إدارة الأعمال وعلم النفس خلال فترة سجنه.
تتسلّل ابتسامة محمد إلى الحديث مرة ساخرة ومرة شاكرة، يسخر مثلاً من الإجراءات الأمنية التي لطالما أحاطوه بها خلال نقله إلى المحاكم أو بين السجون، أو داخل السجون نفسها. يقول إنه أحيط بقنّاصة وحراسات دائمة وكان يشعر أنه يتمّ التعامل معه كأنه بن لادن شخصياً.
يأخذنا الحديث مرّة إلى الماضي قبل السجن ومرة إلى الزنازين وما عايشه فيها، وحين نسأله عن الحاضر، يخبرنا أنه يكاد لا يصدّق ما يحدث معه منذ وصل إلى المطار: استقبال الناس الحميم والعفويّ له، رؤية أمه والعائلة التي كبرت في غيابه. يقول: لم أحظَ بعد بالوقت لأفكّر بكل ما يحدث معي ولكنني مندهش مما يحصل، الإعلام والناس والزوّار والعائلة، هذا كثير عليّ.
وحين نسأله لماذا يشعر أن هذا الاحتفاء به كثير، يجيبنا بأنه لم يفعل شيئاً يستحقّ ما يصفه بالتكريم، ولا سيما أنه يقارن نفسه بالشهداء والجرحى ممن قاتلوا في معارك حقيقية.
يعتبر محبة الناس نعمة، ويتذكّر أنه خلال فترة سجنه، قابل الكثيرين ممن شكروه على مساعدته ووجوده، وكثير من الأميركيين الذين عرفهم خلف القضبان اعتذروا له عمّا فعلته به حكومتهم. يقول إن ذلك الشعور جعله يفكّر بأنّ ما يمرّ به له هدف وأن تلك المشاعر الإنسانية التي أحاطته كانت تعويضه من الله عن الظلم الذي تعرّض له.
الهجرة والاعتقال.. كيف بدأت القصة؟
ولكن، لنعد قليلاً إلى حيث بدأت معاناة محمد التي يخطّط لتوثيقها في كتاب، بعدما صادر الإعلام الأميركيّ صوته وحقّه في إعلان الحقيقة من زاويته عبر مئات المقالات والتقارير لشبكات إعلامية عالمية وكتاب أعد عنه بعنوان Lighting Out from Lebanon.
بدأت الحكاية حين التحق محمد، ابن العائلة المؤلفة من 12 أخاً وأختاً، بأخويه في منطقة شارلوت في ولاية كارولاينا الشمالية عام 1992 حين كان في الثامنة عشرة من عمره ليدرس ويعمل، ويبحث عن مستقبل مختلف عن واقع لبنان الذي نهشته الحرب الأهلية آنذاك.
يقول للميادين نت إنّ والدته كانت السبب الرئيسي في خياره السفر إلى بلاد العم سام، الأم أرادت إبعاد ابنها عن أجواء التنظيمات والأحزاب المنخرطة في الحرب الأهلية والتي بدا أنها لن تنتهي آنذاك، وككل أمهات العالم، أرادت لابنها أن يحظى بحياة أفضل.
حين اعتقل محمد حمود في شهر تموز/يوليو عام 1999، وجّهت إليه تهم بتمويل حزب الله بملايين الدولارات بناء على "معلومات لم تثبت أبداً" قدّمها لبناني آخر من برج البراجنة للسلطات الأميركية وبناء عليها أدين محمد بتمويل حزب الله. نسجت حول العريس الذي أنهى السجن زواجه روايات شبيهة بأفلام هوليوود: صديق السيد حسن نصر الله، صديق السيد محمد حسين فضل الله، صديق الشهيد عماد مغنية، الذي استطاع خلال 6 سنوات فحسب إرسال ملايين الدولارات إلى حزب الله من دون أن يستطيع كل النظام القضائي والمالي الأميركي إثبات هذه التهم.
يقول محمد إنه يتمنّى لو أنه فعلاً صديق السيد حسن نصر الله والسيد فضل الله. وحين نسأل لماذا قيل ذلك عنه، يخبرنا أنه اتصل مرة عام 1995 بمكتب السيد فضل الله وتحدث معه، فيما اعتبر المدعي العام أن صورة لمحمد مع صديق من لبنان هي صورة مع السيد حسن نصر الله. ويشدّد على أنه رفض صفقة تقضي باعترافه بما وجّه إليه من تهم مقابل الحكم عليه بين 7 إلى 15 عاماً اعتقاداً منه بعدالة القوانين التي لا تدين شخصاً لم يثبت عليه أي دليل. ولكن محمد حوكم بعد أحداث أيلول/سبتمبر، فكان "أول محمد يحاكم بموجب قانون دعم الإرهاب في العالم".
يستذكر محمد الحالة العامة في الولايات المتحدة آنذاك، يقول إن الشعور الوطني المستشري حينه انعكس تشدّدات في الإدانات في كل المحاكم بنسبة تفوق 90%، إذ يكفي توجيه أي تهمة لأي شخص لإدانته. وهذا ما حدث: حكم على محمد بالسجن 155 عاماً، وتمّ تشديد الحكم بعد استئنافه. لكن مساراً قضائياً طويلاً وحثيثاً أفضى إلى حصول محمد على تخفيض المدة إلى 25 عاماً بعد الاستئناف الثاني قبل عدة أعوام، وقد أفرج عنه بعد 23 عاماً لحسن سلوكه خلال سجنه.
استثمار فترة السجن الطويلة
يخبرنا أنه لم يكن لديه وقت فراغ في السجن، بين ممارسة الرياضة والدراسة والقراءة، وضع برامج يومية لنفسه. فبالنسبة له، سجن الجسد لا يعني بالضرورة سجن العقل وإن كلّ يوم يمرّ من دون تعلّم أمر جديد هو السجن الحقيقي لا الزنازين والقضبان.
استمر محمد في ممارساته الدينية في السجن، إحدى الادعاءات ضده في المحكمة كانت مشاركته في مجموعة دينية في تشارلوت حيث كان يعيش. يخبرنا أن الجانب الروحاني في حياته وإيمانه ساعداه كثيراً في الأوقات الصعبة التي كان يشعر فيها بالوحدة ولا سيما بعد رفض استئنافه الأول وتأكيد سجنه 155 عاماً.
نسأله إذا ما كان يسامح من وشى به؟ يخبرنا أن الواشي طلب السماح منه حين كان في السجن، وأن ردّه كان بأن الله كفيل بمسامحته إذا ما تاب إليه فعلاً. يستطرد بالقول إن الواشي كان ضعيفاً ويواجه تهماً قد يدان فيها ويسجن لنحو ثلاثين سنة، وإنه يتفهّم أن قضيته كانت فرصة لا تعوّض ليتمكّن الواشي من التهرّب من السجن والحصول على حماية برنامج الشهود وأيضاً جلب عائلته إلى الولايات المتحدة ومنحهم إقامة قانونية. يوضح محمد أنه لا يحمل ضغائن تجاه أحد، الظروف والتوقيت تضافرت ضده وأخذت حياته في منحى مختلف عمّا تصوّره حين قرّر الانتقال إلى الولايات المتحدة.
يوافقنا على خلاصة أنه كان حسن النوايا حين ظن أن الولايات المتحدة كانت بلد قانون وحريات كما يروّج لها، وأنه دفع غالياً ثمناً لذلك الظن.
ابن الخمسين عاماً يقول إنه يشعر كأنه ولد من جديد، هناك الكثير ليتعلمه ويتعرف إليه، كالبيوت والعائلة والاتجاهات والناس. يخبرنا مبتسماً أنه نزل إلى الشارع ولكنه خشي الضياع فعاد إلى البيت من فوره. نقول له إن هناك خرائط متوفرة على كل الهواتف الآن، فيجيب أنه لم يعرف بهذا الأمر ويشير إلى الهاتف موضحاً: كل هذا جديد علي، هاتف محمول يعني حلم بالنسبة لي.
23 عاماً، حروب انتهت وبدأت أخرى، تطورات تكنولوجية هائلة تسارعت خلال هذه السنوات. عائلات كبرت وأحبّة رحلوا، تحرّر الجنوب على يد المقاومة عام 2000 والمقاومة هزمت الاحتلال عام 2006. محمد الذي سبق أن اعتقلته قوات لحد العميلة لـ "إسرائيل" سيعود وأخيراً إلى قريته التي حرمه منها الاحتلال الإسرائيلي قبل السجن الأميركي منذ أكثر من 30 عاماً.
يقول للميادين نت إنه يحاول التأقلم مع الواقع وسيحاول التعويض عما فاته مع عائلته ووالدته التي تخبرنا أنها لم تنفرد به حتى الآن بسبب كثرة الأحبة. الأم التي كادت تغيب عن الوعي من انفعالها حين استقبلت ولدها الغائب منذ نحو ربع قرن في المطار، تقول بابتسامة عذبة إنها تريد أن تفرح به عريساً وأن تحضنه كثيراً...
لا شكّ أن اشتياق محمد لهذا الحضن بالذات هو الأكبر، يختم لقاءنا معه بتأكيد أنه احتفظ دائماً بأمل كبير في قلبه بأنه سيعود إلى لبنان ويلتقي أمه طوال الوقت، وها هو الآن في لبنان، في بيروت، في برج البراجنة حيث ولد وكبر ويريد أن يكون دائماً.