حشد التاريخ وأبطاله سلاح جديد في حملات المرشحين للرئاسة الفرنسية
العودة إلى "الرواية الوطنية" في مقاربة مرشحي الرئاسة الفرنسية أسلوب قديم شاهدناه في الجمهورية الثالثة، ويستخدمه المرشحون للظهور في مظهر "عظماء التاريخ".
-
المرشح اليميني المتطرف أريك زيمور
منذ انطلاق السباق نحو الانتخابات الرئاسية في فرنسا، دفع استدعاء المرشح اليميني المتطرف، أريك زيمور، لشخصيات أدبية وتاريخية مؤثرة في مسار البشرية، إلى لجوء العديد من المرشحين إلى نبش التاريخ الفرنسي استدعاءً لشخصيات تاريخية لتأسيس رؤيتهم حول فرنسا.
وفي خطاب ترشيحه لم يجد المرشح المدان بالتحريض على الكراهية والعنف من حرج في إطلاق المزيد من الشعارات المخادعة بأسلوبه للفت النظر وتعظيم أناه المتضخمة أصلاً.
زيمور قدّم نفسه على أساس أنّ لديه رؤية لفرنسا تستند إلى "تراثها الفكري والسياسي المجيد"، وأنّه يريد "العودة إلى الأمجاد" بادعاء أنّ فرنسا في حالة تدهو و"لكن مع الماضي، الذي يسكنه أبطال أمته القتالية الخالدة لديها الإمكانية لتنهض".
العودة إلى "الرواية الوطنية" في مقاربة مرشحي الرئاسة أسلوب قديم شاهدناه في الجمهورية الثالثة، ويستخدمه المرشحون للظهور في مظهر عظماء التاريخ والأفعال الكبرى لتوحيد الأمة الفرنسية وتمجيد وطنيتها. هذه "الرواية الوطنية" يطلق عليها أحياناً "السرد القومي" عندما تفتخر بحقيقة تاريخية أكبر.
"إن حشد التاريخ وأبطاله لإضفاء الشرعية على الشخصية السياسية ليس جديداً في السياسة" هذا ما يؤكده المؤرخ والمؤسس المشارك للجنة "اليقظة" نيكولا أوفنشتات لمجلة "فرانس إنفو" في مواجهة الاستخدامات العامة للتاريخ و "السرد المثالي للنضالات العمالية" الذي وضعه الاتحاد السوفيتي في ذلك الوقت.
ومع ذلك، فإنّ جيل السياسيين الذين صنعوا التاريخ "بطريقة تفكيرهم" قد أفسح المجال، في القرن الحادي والعشرين، لطبقة سياسية تعيد تفسيرها على أنها "أساطير" أو تقوم بتدويرها باستخدام "الشخص الأشهر" كما يشير المؤرخ كريستوف بروكاسون مؤلف كتاب "بماذا يدينون للتاريخ؟".
ساركوزي نموذجاً
كان الرئيس الأسبق لفرنسا نيكولاس ساركوزي، أول من جعل "الرواية الوطنية" حجّة مركزية في حملته الرئاسية، كما نصحه هنري غوينو وباتريك بويسون. ويؤكد نيكولاس أوفنشتات في قصة "بلينغ بلينغ" أن نيكولا ساركوزي استحضر "أسلافنا الغال" ليستند إلى تاريخ فرنسي فعِّال. وهو أيضاً وراء إنشاء وزارة، حيث يظهر مفهوم الهوية الوطنية (وزارة الهجرة والاندماج والهوية الوطنية والتنمية المشتركة) ومشروع متحف تاريخ فرنسا (بيت تاريخ فرنسا)، التي تخلى عنها اليسار عام 2012.
على خطى ساركوزي سار فرانسوا فيلون وبرونو لو مير، ولا سيما خلال الانتخابات التمهيدية لليمين لعام 2016 ، ولجأ روبرت مينارد والآن إريك زيمور أيضاً إلى "الرواية الوطنية"، معتقدين في بعض الأحيان أنه يجب تدريسها في المدرسة.
كزافييه برتراند، المرشح عن اليمين لعام 2022، قدر في صحيفة "لوموند" في حزيران/يونيو الماضي، أنّ إيمانويل ماكرون يشارك في "تفكيك التاريخ" ويتعارض مع "التماسك الوطني" من خلال سياسته المتمثلة في الاعتراف بخطايا فرنسا في الاستعمار والرق.
كيف نفسر هذه العودة إلى الرواية الوطنية؟
منذ الثمانينيات لاحظنا "إعادة استثمار مكثفة على الصعيد الوطني"، كما تقول المؤرخة آن ماري ثيس في كتاب "تاريخ فرنسا في المتحف"، الذي نُشر في عام 2010.
تقول ثيس إن "التغيرات الاقتصادية والمالية والاجتماعية للعولمة (...) زادت من المخاوف بشأن المستقبل، خاصةً وأنّ انهيار الأيديولوجيات الثورية والإصلاحية لم يعد يسمح لنا بالتفكير في الأمر على أنه حل لشرور الحاضر"، مضيفةً أنّ "الدولة القومية، التي تتدهور سلطتها بشكل حاد نتيجة هذه التغييرات، تبدو كملاذ وحماية ومعقل مقاومة للقوى المعادية".
إعادة النظر في الفترات المظلمة في تاريخ فرنسا، العبودية والاستعمار، الحرب الجزائرية، باعتماد ما يسمى بقوانين "الذكرى"، يساهم أيضاً في عودة السلطة إلى اليمين وإلى أقصى حد.
موقف اليسار
إذا كان اللجوء إلى "الرواية الوطنية" أكثر تقليدية في اليمين واليمين المتطرف، فذلك لأن "تمجيد الوطن والأمة"، على حساب الصراعات الاجتماعية، وتوترات الجسم الاجتماعي وروايات الأقلية، يتدفق بسهولة أكبر إلى اليمين المحافظ "، بحسب ما يؤكد نيكولا أوفنشتات.
ومع ذلك، فهو بعيد كل البعد عن كونه الشخص الوحيد الذي يستخدمه. على اليسار، يرفض يانيك جادو المرشح البيئي للرئاسة، الاستلهام منها، معتقداً أنّ "فرنسا ليست متحفاً"، حسب صحيفة ليكسبريس. لكن جان لوك ميلينشون حشد في خطاباته بانتظام الثورة الفرنسية وفيكتور هوغو وجان جوريس.
"تحقيق رؤية للمستقبل"
إذا كانت "الرواية الوطنية" تحظى بشعبية كبيرة بين السياسيين، فهي أولاً وقبل كل شيء لأنها مفيدة للغاية لوصف رؤيتهم للعالم.
"البرنامج عبارة عن اقتراح سياسي، واستجابة لمشاكل العصر"، كما يقول أليكسيس كوربيير، المتحدث باسم جان لوك ميلينشون والأستاذ السابق للتاريخ والجغرافيا. وبرأيه فإنّ "الحملة الرئاسية (...) تمر بالأفكار، ولكن أيضاً (...) من خلال لحظات من الجدل الكبير والتفسير حول المستقبل الذي تم تسجيلنا فيه، وبالتالي يستند بالضرورة إلى التاريخ".
الملاحظة نفسها في المعسكر المقابل، حيث أكد ماثيو لوفيس وهو أحد المتحدثين باسم جمعية أصدقاء إريك زيمور أنه "بالطبع ستكون في الحملة إجراءات ملموسة بشأن قوة الشراء أو البيئة. لكن إريك زمور يريد قبل كل شيء تقديم رؤية للمستقبل والمجتمع والعالم، فهو لا يريد أن يكون مديراً مرشحاً".
في هذه الحالة، فإنّ استخدام "الرواية الوطنية" يؤدي وظيفة "الطمأنينة"، كما يحلل سيباستيان ليدوكس الباحث في التاريخ المعاصر بجامعة باريس الأولى والمتخصص في قضايا الذاكرة. يقول: "إنه خطاب يريح الناخب الذي سيكون حساساً لهذا التخيِّل للتاريخ الفرنسي الإيجابي، ويجعل من الممكن إنشاء جدار تاريخي حول نفسه يحدد "نحن" و "هم" الذين يهددوننا "والذين يجب أن نتصرف ضدهم. يسمح هذا الخطاب أيضاً لإريك زيمور "أن يميِّز نفسه عن خطاب مارين لوبان، من خلال جعل الأخيرة مبتذلة"، حيث إنّ مرشحة التجمع الوطني للانتخابات الرئاسية بالكاد توظف - باستثناء شخصية جان دارك - الإشارات إلى التاريخ، كما تعتقد عالمة الاجتماع الإعلامي إيزابيل فيرات ماسون.
وعلى العكس من ذلك، فإن "الرواية القومية" لجان لوك ميلينشون والتي هي أكثر تقدمية وشمولية من تلك الخاصة باليمين أو أقصى اليمين، تجعل من الممكن تقديم "بديل" عن رواية إريك زيمور ، من خلال الإصرار على ظاهرة تمازج الأجناس "كعملية تاريخية جعلت من الممكن خلق الثقافة الفرنسية الحالية، من خلال استعارة المفهوم من الشاعر المارتينيكي إدوارد غليسان، والذي يدور حول "المراجع التاريخية التي تطرح شخصيات شعبية، حيث يكون الناس في حالة حركة، مثل الثورة الفرنسية أو الكومونة". هذا التاريخ يضفي الشرعية على الدور الشخصي الذي يتمنى جان لوك ميلينشون أن يكون عليه ، وهو دور المتحدث باسم الشعب.
بالإضافة إلى الكشف عن رؤيتهم للعالم، فإن الشخصيات التي يستشهد بها القادة السياسيون تسمح لهم بالاستفادة من شعبية هذه الشخصيات التاريخية، كما يؤكد نيكولا أوفنشتات. بما في ذلك عندما لا تكون مواقفهم متوافقة بشكل مسبق. وهكذا يستدعي نيكولا ساركوزي في موكيه دون أن يستحضر شيوعيته، ويحيي روبرت مينارد، جان جوريس، من خلال نسيان اشتراكيته، وتستحضر الطبقة السياسية في اليمين المتطرف شعارات ديغول.
أيضاً إيمانويل ماكرن
إلى جانب جان لوك ميلينشون وإريك زيمور، يستخدم إيمانويل ماكرون أيضاً "الرواية الوطنية"، من أجل "التوفيق بين الذكريات"، وفقاً للطموح الذي رسمه هو لنفسه. يؤكد نيكولا أوفنشتات التزام ماكرون "باللعب الجماعي" المرتبط بوظيفته الرئاسية، الأمر الذي يلزمه بـ"تجسيد الاستمرارية الوطنية". لكن هذا يستجيب أيضاً لاستراتيجية سياسية: استراتيجية لا يمين ولا يسار، بل ضد اليمين المتطرف. وهكذا، فإن إيمانويل ماكرون قد خرج بتاريخ فرنسا من الشخصيات الفردية اللامعة، من جان دارك إلى بونابرت، في استراتيجية واضحة جداً لاحتلال الأرض في بيئة اليمين، كما يؤكد سيباستيان ليدو.
وفي الوقت نفسه، قام بعمل حول الذكريات ، ولا سيما تلك المتعلقة بالحرب في الجزائر "، مع الاعتراف بمسؤولية الدولة في وفاة موريس أودين أو في اغتيال علي بومنجل. في الآونة الأخيرة، حذر ماكرون أيضاً من أولئك الذين "يتلاعبون بتاريخنا"، في حملة موجهة ضد إريك زيمور، حسب صحيفة "لو باريزيان".
هل هذا الاستخدام للتاريخ في الخطاب السياسي ينجح مع الناخبين؟
من الصعب الإجاب ، وفقاً للخبراء الذين قابلتهم "فرانس أنفو"، ومع ذلك يشير المؤرخ نيكولا أوفنشتات إلى أنه بربط أي سياسي للقضايا الحالية بقضايا الماضي "كما لو كانت هناك مقاومة حصرية" من "مقاومة الحرب العالمية الثانية إلى مقاومة الإسلام"، "فعالة للغاية" في الوقت الحاضر.
ويضيف سيباستيان ليدو: "يلعب إيريك زيمور على القلق من انعدام الأمن الثقافي". ويقول للناخبين: "وجودكم ذاته على المحك. ومن الواضح أننا لا نتعامل مع مشكلة زيادة الأجور".
ويوضح أن "الرواية الوطنية في السياسة لا تخلو من العواقب بأي حال من الأحوال"، في حين أن "هناك رؤية واضحة لعدد من الأشخاص الذين يقولون أكاذيب تاريخية، يصبح من الصعب على المؤرخين مواجهة الرؤى الرومانسية للتاريخ والنجاح في جعل أصواتهم مسموعة" خاصةً عندما يفترض بعض المرشحين، مثل إريك زيمور، أنه يريد جعل التاريخ "سلاحاً سياسياً".