رسالة إلى كريم يونس: هذه هي أقسى معادلة
كريم دفع استحقاقات خياره المقاوم كاملة. 40 عاماً. يعطش المرء حين يعدّ حتى 40، وأنت لم تروِ عطشك إلى الحرية حتى تتمها إلى آخر لحظة.
-
رسالةٌ إلى كريم يونس: هذه هي المعادلةُ الأقسى
تبدأ الرسائل عادةً بالطيب من التحايا، ولكني لا أعرف حقاً كيف أحييك ولا بأيّ لقب أخاطبك واسمك اختصر بين حروفه الأربعة كثيراً من الألقاب.
يكفي أن نقول اسمك كريم يونس، فترتسم المعاني على وقع الحروف: المشتبك، الصامد، البطل، المواجه، الندّ.. وهذه فقط بعض ألقابك.
كتابة رسالة لك في يوم تحررك، على أمل أن تقرأها، ليست أمراً يسيراً على ابنة الجيل الثالث من عائلة لاجئين كنت تريد لها أن تعود إلى الوطن المحتل.
سأحاول أن أصوغ بالكلمات معادلة صنعتها أنت بأيام العمر وسنواته.
حين بدأت أخطو أولى خطواتي نحو الحياة التي كانت تفاصيلها تناديني وتدهشني، وما زالت، كان الاحتلال يمعن في سلبك حرية الحركة والخطو والدهشة من تفاصيل بسيطة، كأن يبلل مطر شتوي شعرك.
وفيما كنت أستكشفُ كلّ ما حولي، ضيّقوا عالمك إلى حدود زنزانة ليس فيها من الخصوصية نزر، ولو كان يسيراً، أو أسوأ: إلى زنزانة عزل ليس فيها مجال لتمدد جسدك طولاً أو عرضاً.
حين ولد أخي عام 1985، وبدأت معه حياة جديدة لعائلتنا، أنزلك المحتلّ مع 17 أسيراً آخرين من طائرة ما قيض لها أن تحملك إلى الحرية كمئات الأسرى في صفقة تبادل النورس التاريخية. كانت الحياة تعطيني أخاً وتعطيك خيبةً لا يعرف عمق مرارتها سواك.
مرت حياتي كاملةً: 40 عاماً. درست وتعلمت وسافرت وسمعت أغاني في الحفلات وشاهدت أخبار العالم كما يحلو لي، ونمت متى أردت، وتعلمت استخدام الإنترنت والهاتف الذكيّ وقيادة السيارة وممارسة الرياضة، ولبست كلّ ما يحلو لي من ألوان... وأنت كلّ ما يتغير في تكرار أيامك هو التنقل بين سجن وآخر في جحيم البوسطة والمعبار، وأحياناً ما يسمح به السجن من ثياب جديدة تغير فيها بنّي الشاباص الكريه، أو من مقتنيات يفتشها بدقة حين تأتيك من أسرتك التي حرمت زيارة أفرادها، ما عدا أقارب الدرجة الأولى، فلا تعرف من الوجوه إلا صوراً، ولا تعرف من الأشخاص إلا الأسماء.
حين وضعت طفلي، كنت في الـ52 من عمرك. منحتني بسنوات عمرك التي تراكضت خلف القضبان أمومتي أغلى ما في حياتي.. كنت حينها تقود مع رفاقك معركة إضراب عن الطعام، لم تكن الأولى ولا الأخيرة في سجل نضالك المشرف في الحركة الأسيرة.
هذه هي أقسى معادلة لي يا كريم يونس، أن أعيش أنا حياةً كاملة التفاصيل، فيما أنت تعدّ أياماً مكررةً حدّ التطابق خلف القضبان... 40 عاماً خسرت فيها الأب والأمّ في توقيت قاهر، وبقيت أنت: كريم يونس .
كريم الذي دفع استحقاقات خياره المقاوم كاملةً. 40 عاماً. يعطش المرء حين يعدّ حتى 40 وأنت لم تروِ عطشك إلى الحرية حتى تتمّها إلى آخر لحظة. هي 40 عاماً بتمامها وكمالها. لقد أعطيتني هذا العمر. هذا كلّ عمري يا كريم يونس. أنا عشت مقابل توقفك أنت عن العيش في زمننا وانتقالك إلى الزمن الموازي الذي كتب عنه رفيق الأسر والزنازين والنضال والوطن وليد دقة.
اليوم، تخرج من زمنك الموازي يا كريم يونس، تخرج وقد توقف الزمن عندك على لحظات فارقة قليلة خلال 40 عاماً من الأسر، فيما عشت حياتي كاملةً بكلّ لحظاتها الفارقة، وما أكثرها!
كريم يونس: كلّ يوم في أسرك كان يقابله يوم في حياتي، في حياة شعبك.
أعطيتنا عمراً طويلاً من عمرك أنت، كما أعطانا أعمارهم كلّ الأسرى من رفاقك وممن سيسجنون حتماً بعد، فما دام الاحتلال موجوداً، مقاومته موجودة.
وشعبنا خلاق في مقاومته، ولم يمرّ يوم منذ اجتاح الصهاينة أراضينا من دون فعل مقاوم، وأنت الأدرى بغلاوة الأرض وحلاوة الحرية.. سيسجن بعدك كثر لن يعرفوك إلا أسطورةً على لسان من عرفك وزاملك وجاورك في 23 سجناً على امتداد الوطن المحتل، هو الوطن الذي تدفعون ثمن حريته من حريتكم، وتهبون أبناءه العمر من أيامكم.
كريم يونس آن أن تستعيد عمرك. ليت بالإمكان مقايضة الوقت، كنت سأقول لك: خذ عمري الذي سلّفتني إياه قبل أن أولد حتى. تستحقّ أنت الحياة. تستحقّ أنت أن نقفل تكرار هذه المعادلة الصعبة: عمرك في السجن في مقابل عمري في الحرية.
هذا دين سداده واجب. للأسف، لن تسمع أمّك تدعو لك الدعاء الفلسطينيّ الذي يذيب القلب: "ياخد من عمري ويعطيك". أقولها لك أنا التي كنت لأكون في عمر ابنتك في حياة أخرى: أتقبل أن تأخذ عمري لأعطيك إياه؟