في ذكرى مجزرتها: الصفصاف الفلسطينية رمز المقاومة والوحدة
ابن بلدة "الصفصاف" في قضاء صفد في الجليل الأعلى في فلسطين، حسن حمد، يروي لنا، قبل رحيله، حكاية بلدته.
-
الراحل حسن حمد
في آب/أغسطس 2021، رحل حسن حمد في مخيم البداوي شمالي لبنان، وهو ابن بلدة "الصفصاف" في قضاء صفد في الجليل الأعلى في فلسطين. وُلِد فيها عام 1930، ورحل والغصة في قلبه، لأنه لم يستطع العودة إلى حيث تمنّى الرحيل.
قالها، والدموع تترقرق في عينيه يوم التقيناه في منزله في مخيم البداوي شمالي لبنان، في 11 تشرين الأول/أكتوبر 2016 "صار عمري 76 سنة.. حلو إنو الانسان يموت في بلده". قالها وتوقّف منهياً حديثه، بحيث لم يعد يطيق المزيد.
بدأت الذكريات تكرّ من مخيِّلته. تحدث طويلاً عن "الصفصاف"، وتفاصيلها الدقيقة، وحاراتها، وساحتها، والمدرسة، والحقول، والعمل، ثم التهجير، وما رافقه من مجابهات مع المحتلين أرضه، والمجزرة التي وقعت فيها، وذهب ضحيتها ما يزيد على 80 شاباً ورجلاً، عدا إحراق البيوت، وتدميرها، والاعتداءات اللاأخلاقية والتي مورست بحقّ أبنائها في ليلة واحدة.
كان حمد في الـ18 من عمره ليلة وقوع المجزرة، وتهجيرها. ونقل في هجرته ذكرياته، الحلو منها والمرير، وهي كانت ما زالت حية فيه، يعيش تفاصيلها لحظة بلحظة، يعيش فيها ومعها، منتظرا العودة إليها، ومتصارعاً نفسه بسبب خوفه من ألاّ يتحقق حلمه.
-
بلدة الصفصاف قبل عام 1948
يصف بلدته الوادعة بأنها تتوسطها ساحة فسيحة، وحولها حارتان شرقية وغربية. وفي الساحة كان ملتقى الأهالي يومياً، وفي المناسبات الاجتماعية، وخصوصاً الأعراس، بحيث كانت تقام الدبكة، وتُنشَد الأغاني التراثية.
أغلبية بيوت البلدة من طبقة واحدة، كما يتذكر، ومن حجارة وطين. لكن، مع تقدُّم الزمن، بدأت تبنى فيها طبقة ثانية من حجارة أكثر حداثة. عدد سكانها ألف نسمة، يقول حمد، وتشرد من تبقى منهم ليلة التهجير، في عملية احتلالها من جانب المستوطنين الإسرائيليين.
وصف حمد سكان بلدته بالفقراء والبسطاء، الذين كانوا يعملون في زراعة الحبوب من قمح وشعير وحمص وفول وما شابه، وبعض الفاكهة، كالعنب والتين والزيتون، بالإضافة إلى التبغ. وكانت مدينة صفد، مركز القضاء، وجهة الأهالي من أجل بيع منتوجاتهم.
يقول حمد "كانت حياتنا هانئة، وجميلة على بساطتها، وكنا سعداء فيها. يعيش فيها المسلم والمسيحي، على حد سواء، ولم نسمع مرة أن أحداً اختلف مع أحد بسبب مفارقة الانتماء".
تلقّى حمد دراسته الأولى في مدرسة البلدة الواقعة في ناحيتها الغربية. والتدريس فيها اقتصر على الصف الرابع الابتدائي. والمقتدر ينتقل إلى صفد لمتابعة الصفوف الأعلى، وغير المقتدر يتوقف عن الدراسة.
يتذكّر حمد أن والده استأجر له غرفة عند سيدة في صفد، كانت تهتم به، وبحاجاته من مأكل ومشرب وتنظيف. ويوم توجَّه إلى التسجيل في مدرستها، طُلِبَ منه إعادة الصف الرابع "لأنني لم أتعلم الإنكليزية"، بينما كانت صفد مدينة، وفيها مركز المندوب السامي البريطاني.
بعض التلامذة تلقّى علومه في صفد حتى الصف السادس. وكان التلامذة ينتقلون إليها سيراً على الأقدام مسافةً تناهز مسير ساعة ونصف ساعة. ويفيد حمد بأن عائلة حمد في الصفصاف كانت العائلة الوحيدة التي أرسلت أبناءها للتعلم في صفد، لأنها كانت مقتدرة أكثر من سواها.
تذكَّر حمد عندما ذهب إلى صفد. قال "درسنا اللغة العربية، والحساب، والتاريخ، والجغرافيا، وأنهيتُ المرحلة الابتدائية حتى الصف السادس، وسكنت عند عائلة يسكن معها 12 ولداً، منهم ولد من القنيطرة من بيت شناعة، ومن ميرون من بيت كعوش، ومن السموعي من بيت الأشقر. والمدرسة اسمها مدرسة الزاوية، ومديرها محمود عابد، الذي كان مُلِمّاً بتاريخ العرب".
إلى الغرب من البلدة كانت البيادر، التي كان يتجمّع الناس فيها متعاونين على دراسة الحبوب. وكان فيها نبع ماء غزير يساعدنا على إنتاج جيد، وله سلم من 20 درجة نزولاً، والنساء ينزلن إليه لتعبئة الجِرار. وقبل خروجنا بأقل من سنة ونصف سنة، قامت سلطات الانتداب البريطاني بسحب المياه إلى القسم الجنوبي، حيث بنت خزاناً من الإسمنت المسلَّح، ركَبت عليه عشرة صنابير مياه، وصار الناس يتزودون بالمياه من هذه الصنابير. ولم يكن هذا العمل لخدمة البلدة، وإنما لمصلحة "إسرائيل"، والمندوب السامي البريطاني الذي كان مركزه في صفد.
روى حمد أن العلاقات باليهود الوطنيين كانت طبيعية، غير أن "الهجرة الاستيطانية بدأت قبلاً، وبدأت تظهر بوضوح ابتداءً من عام 1914، بدعم بريطاني، وبانحياز ضد العرب. لذلك، كانت حساسية الموقف من البريطانيين أساساً، بينما كان العرب يهزأون من اليهود، ويسمونهم أولاد "الميتة"، نظرا إلى ضعفهم”.
نقل حمد عن اهله، أنه بدأت، في عام 1936، تتشكل مجموعات مقاومة سموها "عصابات"، لم تكن تملك أي سلاح، وكان هدفها إعاقة حركة الانتداب البريطاني، وجرت صِدامات ومناوشات معهم، بصورة متقطعة. وكان الشبّان العرب المندفعون يحفرون الطرق ليلاً لمنع مرور الآليات البريطانية، بحيث لمسنا الانحياز الكبير منهم ضدنا. وحتى عام 1947، كانت المشاكل قليلة مع اليهود، لكنها عندما كانت تقع، كانوا يهددوننا بعبارة: “بيجيكم يوم"".
صِدام وتهجير
يروي حمد ما يتذكره عن الصدامات التي وقعت مع البريطانيين، واليهود، ثم تهجير بلدته. فقبل حلول 15 أيار/مايو 1948، موعد الانسحاب البريطاني من فلسطين، بدأ الانتداب البريطاني تسليم معداته إلى اليهود تنفيذاً لما خطّط له، وفق "وعد بلفور"، ثم أخلى البريطاني معسكراته بالتدريج. ومن الدلائل على نياته هو، سقوط حيفا، أكبر المدن الفلسطينية في أيدي اليهود بعد انسحابه منها في شباط/فبراير، قبل شهور من موعد الانسحاب. ومع حلول موعد انسحابه، كانت أغلبية المدن الرئيسة أصبحت في أيدي اليهود، بعد أن سلمها الانتداب إليهم.
ويذكر حمد أنه "في آذار/مارس 1948، بدأ جيش الإنقاذ العربي يأتي من سوريا بقيادة فوزي القاوقجي، وباتت المنطقة تحت سلطته. وكانت تتوارد أنباء عن سقوط المدن الكبرى، كحيفا ويافا وعكا. فبدأ مع الأهالي بناءَ المتاريس، وحَفْرَ الخنادق، وبناءَ الأبراج، استعداداً للمقاومة".
وفي 10\5\1948، قبل انتهاء الانتداب بخمسة أيام، سقطت صفد، مركز القضاء الذي كانت تتبع له 73 بلدة، ووقعت معركة حولها.
أخلى الأطفال والنساء والعجزة البلدة نحو الشمال، تحسباً لهجوم، ولما لم ينفّذ الإسرائيليون هجومهم، عادوا، وجاء الصيف، فـ"حصدنا القمح، وقطفنا الزيتون، والتبغ، وظننا أنهم لن يأتوا"، بحسب حمد.
في ليلة 28\10\1948، أتت طائرات وقصفت، ويقول حمد "أول مرة نرى فيها قصف الطيران، فدبّ الخوف، وبدأت الاستعدادات للمعركة، فأُخرجت النساء والأطفال إلى منطقة الوعر قرب البلدة، وبقي قسم كبير من الرجال. وعند التاسعة ليلاً، بدأ القصف المدفعي على القرى الثلاث، ميرون جنوباً، والصفصاف في الوسط، والجش شمالاً".
عند عصر ذلك اليوم، يروي حمد أن "ضابطاً من جيش الإنقاذ، وهو علوي، اسمه محمد إسماعيل، شهد حركة مريبة عند أطراف البلدة بواسطة منظار. وفي تلك اللحظة، كان الشيخ علي يؤذّن وهو فوق شجرة، فتهيّأ جيش الإنقاذ مع رجال البلدة. وبعد العشاء، بدأت المعركة، فتقدم مشاة جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى ميرون، ودخلوها، وتابعوا نحو الصفصاف"، حيث دارت معركة حامية.
وتابع "بدأ دخول الصفصاف بعد أن تمكّنت آليات الاحتلال الإسرائيلي الثقيلة من شق الطريق، وإزالة الألغام التي زرعها رجالنا. ومع تقدمها، خرج الأهالي ممسكين بأيدي بعضهم البعض، حيث كان تجمّع ما يناهز مئة شخص في منزلنا، وخرجنا إلى منطقة ثانية، ولم يتعرّض جيش الاحتلال الإسرائيلي لنا لأنه كان يريدنا أن نغادر منازلنا".
وبختام الرواية المأسَوية، يفيد حمد "بأننا خرجنا إلى الغرب من الصفصاف، وانتشرنا بين الأشجار. واتَّجه كثيرون نحو جنوبي لبنان. ومع شروق الشمس، أي صبيحة 29\10\1948، شاهد المستوطنون الإسرائيليون قتلاهم، فجُنّ جنونهم، وسدوا المنافذ، ودخلوا البيوت، وجمعوا مَن تبقّى، وقتلوا 80 شاباً".
دُمِّرتِ الصفصاف، وبقي المحتل مقيماً بمدرستها، مع بقاء بيتين صغيرين فيها. أمّا سائر بيوتها فسُوِّيَت أرضاً، تكريساً لنهج وحشي لم يتوقَّف حتى اليوم.