معايير التحالفات الدولية ما بعد ترامب وكورونا
يحتاج العالم إلى أشهرٍ قليلةٍ إضافية قبل أن تبدأ تحالفاتٌ دوليةٌ قائمةٌ على معايير مختلفةٍ بالتبلور، لكنّ عاملاً هاماً سيؤثر على خيارات الدول ومصالحها: اقتصاد البيانات.
مرّ عام 2020 ثقيلاً على صنّاع السياسات في العالم.
لم تقدر أنجيلا ميركل أن تحبس دموعها في خطاباتها الأخيرة الوداعية قبل أن تغادر منصبها مع اقتراب الانتخابات. يختصر سلوك المستشارة الألمانية الكثير مما يجري على مستوى السلطات الحاكمة في دول العالم.
يعرض علماء النفس مئات الأفكار بشأن ما سيتغير على مستوى التواصل البشري بعد "كوفيد 19"، لكنّ النتائج الملموسة ستتبلور أوّلاً على المستوى السياسي لترسم تحالفاتٍ جديدةً وتُسقط معايير كانت الولايات المتحدة الأميركية تحكم العالم بواسطتها.
لنبدأ من كندا، البلد الذي لا يكاد يُذكر في وسائل الإعلام الدولية إلاّ في معرض الحديث عن مسألةٍ تخصّ جارته الكبرى حاكمة العالم: الولايات المتحدة الأميركية.
تضرّر الاقتصاد الكندي بشكلٍ كبيرٍ منذ بداية الوباء، لا لأسباب داخلية بل لاعتماد الإقتصاد الكندي على الولايات المتحدة في حركة التبادل التجاري وفي حجم الاستيراد والتصدير.
وبعد أسابيع قليلةٍ من بروز الخطاب العدواني للرئيس دونالد ترامب ضد العالم بأسره، بدأت الأصوات تتعالى في كندا داعيةً إلى إعادة دراسة تحالفاتها الدولية ومدّ جسور تعاونٍ مع دولٍ كانت من المحرّمات أميركياً.
ولئن كان مصير كندا مرتبطاً – شاءت أم أبت- بما يجري في الولايات المتحدة، فإن الحلفاء الأوروبيين عالقون في مأزقٍ لا يقلّ تعقيداً عن الدولة الكندية. فالاتحاد الأوروبي مفكّكٌ معنوياً، بعد أن قرّرت الدول الغنية في أوروبا ترك إيطاليا واليونان وإسبانيا تواجه مصيرها في مرحلة بداية انتشار الوباء. وجّه الإيطاليون انتقاداتٍ لاذعةً إلى الاتحاد الأوروبي، متوعّدين بالحساب بعد انتهاء الجائحة، بعد أن تبيّن أنّ الدول الأغنى تتعامل بطبقيّةٍ معهم، إلى حدّ منع شحنات الكمامات والمساعدات الطبية من الوصول إلى شمال إيطاليا.
في المقلب الآخر، وحدهما الصين وروسيا سارعتا إلى إرسال خبراء بأعداد كبيرة إلى إيطاليا لمساعدتها.
في الوقت الراهن، هناك تيارٌ شعبيٌّ واسعٌ في إيطاليا، يعتبر أنّ تجربة كوفيد-19 ستدفع سريعاً الحكومة، مهما كان توجهّها الحزبي، إلى الحضن الصيني، علماً أنّ نظرية المؤامرة في إيطاليا تقوم على شكوكٍ مفادها أنّ هذه البلاد كانت مستهدفةً منذ البداية، بعد أن اتّفقت مع الصين على أن تكون شريكةً أوروبيةً في مبادرة "الحزام والطريق". وتكرّر الحال نفسه في إسبانيا التي تُركت لمصيرها.
من جهة أخرى، ساهم سلوك ترامب الذي أرهق حلفاء أميركا التقليديين عبر الأطلسي، في ارتفاع الأصوات المناشدة بعدم الركون إلى الولايات المتحدة وحدها.
في الشرق الأوسط أيضاً، اضطرت دولة الإمارات، المعروفة بتوجّهها الأمني الموالي للولايات المتحدة و"إسرائيل"، إلى اعتماد اللقاح الصيني وشرائه، في خطوةٍ بارزةٍ بالنسبة لدولةٍ تخشى أن تتحوّل إلى ساحة حربٍ بالدم والنار في الشرق الأوسط.
يحتاج العالم إلى أشهرٍ قليلةٍ إضافية قبل أن تبدأ تحالفاتٌ دوليةٌ قائمةٌ على معايير مختلفةٍ بالتبلور، لكنّ عاملاً هاماً سيؤثر على خيارات الدول ومصالحها: اقتصاد البيانات.
لقد أثبتت تجربة كوريا الجنوبية على سبيل المثال أنها من الدول المتقدّمة جداً عالمياً، بعد نجاحها في استخدام البيانات لاحتواء الفيروس المستجد، متفوقةً على دولةٍ كهولندا والسويد اللّتين تُعدّان من دول العالم الأكثر تقدّماً تكنولوجياً.
ومع أنّ الحكومة الإسرائيلية قد تعرّضت لانتقاداتٍ شعبيةٍ واسعة بسبب فشلها في احتواء الوباء، إلاّ أن شركات الـ"هاي تك" الإسرائيلية، تحضر في مشاريع رائدةٍ حول العالم لمكافحة "كوفيد 19".
وبالعودة إلى اقتصاد البيانات، يمكن الجزم أنّ التشارك في العوامل القومية أو الجغرافية، لم يعد أساسياً في عقد التحالفات المقبلة، بل تكمن المصلحة الأساسية في توزيع تحالفات الدول على محاور مختلفة، من دون استثناء الصين التي يمكن اعتبارها الرابح الأوّل والوحيد ممّا أفرزه الفيروس حتى الساعة.