لغة الحرير تنمّق العمل التجاري الحديث عالمياً
لم يعد خط الحرير سالكاً يوم تراجعت العلاقات الاقتصادية بين الشرق والغرب الساعي للحصول على الحرير، ولم يعد الحرير سلعة مطلوبة من أحد يوم لم يبق في الأرياف الصينية إلا قلة تصنعه، وربما هو على طريق الانقراض، أو إنه انقرض كما في بقية مجتمعات العالم الزراعية التقليدية التي طاولتها قيم وضرورات الحداثة..
-
-
الكاتب: نقولا طعمة
- 13 نيسان 2017
خط الحرير التاريخي ربط بين أوروبا والشرق الأقصى، وتحديداً الصين
سجّل العام 2017 حركة اقتصادية تبادلية يفترض أن تدخل العالم بحركة اقتصادية جديدة. فقد وصل، مطلع العام الجاري، أول قطار محمّل
بالبضائع الصينية إلى لندن، عابراً كازاخستان وبيلاروسيا وبولندا وألمانيا وبلجيكا وفرنسا، ونفق بحر المانش الواصل بين فرنسا والجزيرة
البريطانية، قاطعاً 12 ألف كيلومتر، في غضون 18يوماً تتويجاً لمبادرة "حزام واحد، طريق واحد" التي أطلقتها الصين بهدف
إعادة بناء طريق تجارة الحرير القديم إلى الغرب.
ومطلع الأسبوع الجاري، انطلق أول قطار تصدير،
بخط معاكس للرحلة الأولى، من المملكة المتحدة إلى الصين، يحمل على متنه عدداً
كبيراً من الحاويات المليئة بالسلع البريطانية، من محطة السكك الحديدية المتطوّرة
في ميناء "لندن جيتواي" في منطقة "ساوث إسكس" نحو مدينة
"ييوو" الصينية.
ورغم
أن لـ"خط الحرير" رمزية تاريخية تتعدّى الاقتصاد إلى التبادل السلعي
والثقافي والحضاري، إلا أن القوى الاقتصادية الصينية الكبرى الحديثة تستخدم روحية
المعاني التي يكتنزها الخط، لتتقدم نحو العالم مصدرة نتاج ثاني أكبر اقتصادات
العالم على المستوى التجاري، ومستوردة البضائع العالمية.
وخط
الحرير التاريخي ربط بين أوروبا والشرق الأقصى، وتحديداً الصين، يوم كانت الغاية
الأوروبية الحصول على الحرير الصيني، وفي تلك العملية، نشأت علاقات اقتصادية جرى
من خلالها تبادل السلع بين الشرق والغرب، وتبادل الثقافات.
بين
تلك الآونة واليوم، ثمة فارق كبير لا يقارن. كانت الصين بلداً زراعياً، وكان
الحرير من أهم منتجاته، مع ما للكلمة من رمزية للجمال والرقة والشفافية، وجذب سحره
شغف ملوك الغرب، صنعته أيادي المزارعين الصينيين، وكان الريف الصيني يومذاك يعج
بالناس بمئات الملايين.
وعند
وقوع الثورة الصينية، وانتصار "المسيرة الكبرى"، وتمكّن ماو تسي تونغ
وحزبه من الإمساك بالسلطة، كانت الصين تشهد نهضةً صناعيةً بطيئة وافدة من الغرب الأوروبي.
وفي الفكر الماوي، تحذير كبير من الاتجاه الاقتصادي الرأسمالي للثورة، قبل حدوث
تغيير في الفكر والثقافة الشعبيين- بنظر ماو - الذي أطلق ثورة ثقافية، أواسط
الستينات، لدحض الأفكار التقليدية المتوارثة، وإضعاف النزعة الاقتصادية الرأسمالية
بين قيادات حزبه الشيوعي التي مثلها في ذلك الحين أحد قياديي الحزب دينغ هسياو بنغ
الذي طالته الثورة الثقافية مع تياره، وأبعدته عن مراكز القرار الصينية.
بعد
وفاة ماو، تسلم أربعة من قيادات الحزب السلطة، وبينهم زوجته، لكن بينغ مع تيار في
الحزب، تمكنوا من الانقلاب على القيادة الجديدة، وسيطر بينغ على السلطة، وكان من
الطبيعي أن ينحو بالثورة المنحى الاقتصادي الذي حذر ماو منه. لكنه التاريخ الذي لا
يرحم، فتقدّم بينغ بالصين بنزعة
اقتصادية-صناعية، وأكبر ما انتجه التطور الصناعي هو تفريغ الأرياف من
سكانها، وازدحام المدن بهم، وتطور الصين بالنمط الاقتصادي الرأسمالي الاستهلاكي.
بعض اقتصاديي الصين الذين شاركوا في مؤتمر طريق الحرير
كادت الصين تنفجر بما تنتجه من سلع استهلاكية، وتضخم الاقتصاد الصيني، ولم يكن له بد إلا الخروج إلى أسواق العالم لكي يستمر. لم يعد خط الحرير سالكاً يوم تراجعت العلاقات الاقتصادية بين الشرق والغرب الساعي للحصول على الحرير، ولم يعد الحرير سلعة مطلوبة من أحد يوم لم يبق في الأرياف الصينية إلا قلة تصنعه، وربما هو على طريق الانقراض، أو إنه انقرض كما في بقية مجتمعات العالم الزراعية التقليدية التي طاولتها قيم وضرورات الحداثة، وقضت على الحيز الأكبر من عملها التقليدي. باختصار، أيام عز الحرير الصينية ولت إلى غير رجعة.
لم يبق من خط الحرير التاريخي إلا ذكراه. لكن اقتصاديي الصين اليوم، يستلهمون رمزيته الجمالية في نهوضهم نحو أسواق العالم، وتطلق الصين على مسارها الجديد إسم "خط الحرير"، وتخصه بعنوان تفصيلي هو "حزام واحد طريق واحد"، وبغرفة تحمل عنوان "غرفة طريق الحرير للتجارة الدولية"، عنوان كافٍ لفهم الفارق بين خط حرير ماضٍ، وخطٍ مقبل، وفي أدبيات الغرفة أنها تضم "61 شخصية اقتصادية على مستوى دولة من مختلف دول العالم، يمثلون ملايين الشركات ومبادرات الأعمال بهدف بناء مجتمعات ذات اهتمامات ومسؤوليات تنمية مشتركة”.
وفي إضافة، توضح أدبيات الغرفة أنها "تبني جسوراً وتقيم روابط بين غرف العمل الوطني وحكوماتها، وكمنصة لأعضائها للتبادل في التجارة والاستثمار، وفي ذلك قوة وتحفيز لبنيان "الحزام" و"الطريق".
ويتفرّع عن الغرفة غرف صغيرة في مختلف المجالات الاقتصادية التي تستخدم تعابير اقتصادية حديثة لا تختلف في تعبيراتها، وتوجّهها عن بقية المبادرات التجارية العالمية، إلا في استخدام عنوان "طريق الحرير".
بمعنى آخر، يبني خط الحرير الجديد اقتصاداً جديداً على مستوى عالمي، ركيزته الصين، وأساسه خطوط النقل بين الشرق والغرب، لكن على صعد متعدّدة بتعدّد وسائط النقل والتواصل العالمية الحديثة، وباكورته القطار الذي وصل إلى لندن مطلع العام الجاري.
في تطور نحو استخدام لبنان منصة للخط، شهدت بيروت، مؤتمر طريق الحرير
ونظراً لموقع لبنان الاستراتيجي كنقطة وسط بين قارات العالم، اتخذ "خط الحرير" من لبنان محطة للولوج إلى العالم العربي، ويمكن الإطلال منه على المتوسّط، من دون حصرية، لأن خطوطاً أخرى تبنى بين الشرق والغرب من منطلقات جغرافية متعدّدة.
وفي تطور نحو استخدام لبنان منصة للخط، شهدت بيروت، الأسبوع المنصرم، مؤتمر طريق الحرير تحت عنوان: “استراتيجية حزام واحد وطريق واحد"، نظمته مجموعة "فرنسبنك"، روادها عدنان وعادل قصّار، التي أسست علاقات تجارية مع الصين منذ خمسينات القرن الماضي، وجهدت منذ ذلك التاريخ لتأمين طريق للصين نحو العالم العربي انطلاقاً من لبنان.
قال القصار في كلمته الافتتاحية للمؤتمر: “نحن ممتنون قبولكم دعوتنا لاختياركم لبنان نقطة انطلاق لانفتاحكم على العالم العربي"، داعياً رجال الأعمال الصينيين واللبنانيين "للاستفادة من موقع لبنان الاستراتيجي نظراً لدوره المرتقب من الصين في مساهمتها بإعادة إعمار سوريا والعراق".
أقيم المؤتمر في مبنى عدنان القصار للاقتصاد العربي على طريق المطار، بالتعاون مع "غرفة طريق الحرير للتجارة الدولية”، وتناول المتحدثون الكثر فيه من لبنان والصين ودول أخرى، موضوعات من اهتمام الخط، منها "دور لبنان على حزام واحد وخط واحد"، و"شركات الاستثمار والبنى التحتية"، و"دور المصارف والمال في التعاون لدعم استراتيجية حزام واحد وخط واحد"، و"السياحة، التربية، وشراكة التبادل الثقافي"، و"التبادل التجاري ومبادرات التصدير المشتركة".
وفي عودة إلى خط الحرير التقليدي،فهو يشير إلى طريقين برية وبحرية وصلت بين آسيا والشرق الأوسط وأوروبا لقرون طويلة، وجرى اثناءها تبادل مختلف أصناف السلع كالعطور والبخور والتوابل وغيرها، وكذلك تبادل الثقافات والعلوم، وتسهيل نقل منتجات جنوب وشرق آسيا إلى أوروبا، مثل الشاي، واختراعات البوصلة، والورق، والبارود.
وتجارة الحرير كانت الدافع الأول لإقامة الطرق التجارية عبر آسيا الوسطى، فقد احتكرت الصين صناعة الحرير ثلاثة آلاف سنة، قبل وصولها إلى مجتمعات العالم الأخرى.