لغز إخلاء واشنطن مقعدها لباريس في مجلس الأمن الدولي

ما أن طرحت فرنسا وأسبانيا مشروع قرار أمام المجلس بالحبر الأزرق حتى سارعت روسيا إلى تقديم مشروعها المقابل. إنها حرب الوثائق والقرارات بالتوازي مع المعارك العسكرية المباشرة وبالوكالة على التراب السوري. ولماذا غابت واشنطن عن التمثيل الرفيع في جلسة تحدي لروسيا في مجلس الأمن الدولي يرأسها وزير خارجية فرنسا؟

هل ينتقل الكباش السياسي من نيويورك ليتحول في سوريا وجوارها إلى مجابهة عسكرية؟
ضمن أجواء دان كيشوتية تسود أروقة مجلس الأمن الدولي وعبارات تحدي تستحضر مشاهد من الأزمة الليبية، يعقد مجلس الأمن الدولي الليلة جلسة للتصويت على مشروعي قرار غربي وآخر روسي. فرنسا والدول الغربية من حولها تتهم روسيا وسوريا باستباحة أرواح المدنيين في شرقي حلب وتطلب منهما العودة إلى إتفاق الهدنة الذي تم التوافق عليه بين وزيري خارجية روسيا والولايات المتحدة، سيرغي لافروف وجون كيري، في التاسع من يوليو سبتمبر الماضي.

وقبيل طرح القرار الفرنسي بالحبر الأزرق (التي تعني تقنيا أنه سيصبح صالحا للتصويت بعد ٢٤ ساعة) كان جون كيري يؤكد أن جرائم حرب ترتكب في حلب من قبل الحكومة وروسيا. وبالمثل كرر المفوض السامي لحقوق الإنسان زيد بن رعد الحسين هذا الإتهام من جنيف واعتبر ما يحصل"جرائم ضد البشرية" وليحذر من أن " 100 ألف طفل عالقين في شرقي حلب ومهددين والعالم في سباق لحمايتهم وإنقاذهم".ولم يخرج ستافان دي ميستورا، المبعوث الدولي الخاص إلى سوريا عن الإطار نفسه داعيا إلى التعجيل بالحل في المدينة المطوقة والتي "يمكن أن تدمر قبل نهاية السنة إذا إستمر الهجوم".

هذه اللغة تذكر بالتهويل الذي حصل في أروقة مجلس الأمن الدولي في أوائل الأزمة الليبية عندما علا الصراخ بأن سكان بنغازي مهددون بالإبادة وجيش القذافي بطائراته ودباباته وأسلحته المحرمة دوليا بدأ يزحف على المدينة. وأستحضرت مجازر سربرينيتسا ورواندا وتقاعس المجتمع الدولي عن الإستجابة لقرع طبول التدخل العسكري حتى رضخت روسيا مدفيديف وقبلت تحت دموع مندوب ليبيا عبدالرحمن شلقم بإصدار قرار تحت الفصل السابع يسمح بالتدخل في ليبيا. وقبل صدور القرار بساعة كانت الطائرات الفرنسية تقصف داخل ليبيا وتغير مع الطائرات الأميركية النظام. لم يحقق أحد يومها بعدد القتلى المدنيين في الغارات. في هذه المرة ليس هناك إجماع بين الغرب والشرق في الشأن السوري. أربع فيتوهات مزدوجة إستخدمت على مدى خمسة أعوام والفيتو الخامس جرى التلويح به أمس في موسكو وفي نيويورك. والأوضاع لم تعد تشبه عام 2011.

فالحوار الأميركي الروسي مقطوع بشأن سوريا. والحشود العسكرية والتهديدات المبطنة وغير المبطنة حلت محله. بل إنتقل الكباش إلى عرض العضلات من بوارج وصواريخ مجنحة إلى شبكات مضادة للصواريخ والطائرات قادرة على تغطية البحار الخمسة. فهل ينتقل الكباش السياسي من نيويورك ليتحول في سوريا وجوارها إلى مجابهة عسكرية؟


سؤال يطرح يوميا ولا يلقى إجابة قاطعة. والسبب أن فلاديمير بوتين وباراك أوباما كلاهما لم يقررا بعد، وربما يتجنبان القرار. وليس كل ما يقال علنا هو نفس ما يقال خلف الأبواب المغلقة أو يدور في الخلد. والسياسة هي فن الخداع والمراوغة. وما يكسب بالسياسة أدسم بكثير مما يكسب بالبندقية وأرخص. هل يتذكر العالم أزمة الصواريخ الكوبية؟ تلك الأزمة الي سقط بنتيجتها نيكيتا خروشتشوف رئيس وزراء الإتحاد السوفياتي لسحب الصواريخ من كوبا. وخرج منها جون كندي الرئيس الأميركي منتصرا ونجما سياسيا بارزا. لم يعرف العالم أن خروشتشوف إنتزع حينها سحب الصواريخ النووية الأميركية مينيتمان من تركيا بصمت وسرية. قبل يومين توافقت الدولتان بمعجزة على الأمين العام الجديد للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش. وربما كان الخلاف حول سوريا وجوارها جزء من صفقات أخرى تخرج للعلن من رحم "إشتدي أزمة تنفرجي".

فيتالي تشوركين مندوب روسيا سخر من مشروع القرار الغربي الذي يطلب منه التصويت عليه لكي يلجم قواته الجوية وقوات الحكومة السورية الجوية ويفرض منطقة حظر جوي فوق سوريا تمنع عودة سوريا موحدة. قال إنها سابقة في تاريخ مجلس الأمن الدولي أن يُطلب من مندوب في مجلس الأمن التصويت ضد قوات بلاده.


القرار الغربي

القرار الفرنسي بات يتضمن فقرات تدعو المجموعة الدولية لدعم سوريا "للنأي بالنفس عن المجموعات الإرهابية"
يشير القرار الفرنسي الإسباني إلى المادة 25 من ميثاق الأمم المتحدة. تلك المادة التي تقول أن على الدول الأعضاء قبول تنفيذ قرارات المجلس. والقرار يدعو كافة الأطراف إلى الوقف الفوري للغارات والطلعات الجوية فوق حلب. ويطلب من الأمين العام عرض فكرة مراقبة لوقف القتال.

مندوب روسيا قال إن هذا يبطل عمل فريق المراقبة الدولية في جنيف الذي إجتمع أول من أمس ولا يزال دوره مطلوبا.
ويشدد القرار على أن إيصال المساعدات الإنسانية يجب أن يتم لكل المحتاجين في المدينة كما تحدده الأمم المتحدة.
ويحث القرار الجميع على التعاون مع لجنة التحقيق التي عينها الأمين العام للنظر في الهجوم الذي تعرضت له قافلة الهلال الأحمر السوري في19  أيلول.

وفي جلسة الجمعة الطارئة التي عقدها مجلس الأمن الدولي بناء على رغبة  روسيا طلب المبعوث ستافان دي ميستورا وقف الهجوم على حلب. وكرر عرضه بمرافقة نحو 900 من مقاتلي جبهة النصرة للخروج من المدينة من أجل تأمين وقف الغارات. العدد يبدو ضئيلا. وإذا كانت هذه هي القوة الحقيقية للنصرة التي تسيطر على شرقي حلب، فلا بد أنها تتخذ من أكثر من ربع مليون نسمة رهائن.

ربما كان المقصود بالعدد الصغير العمل من أجل إتهام روسيا والنظام بشن حرب إبادة للسكان من أجل القضاء على 900 مقاتل من الإرهابيين فقط لا غير. والقانون الإنساني الدولي لا يسمح للمهاجم بالتدمير العشوائي وقتل المدنيين الأبرياء من أجل التخلص من مسلحين بينهم. إذا هو قول حمّال أوجه، ويصب في طاحونة واشنطن وباريس ولندن والرياض التي تدور لتجريم الحكم السوري والدعم الروسي الإيراني اللبناني له.

على أن فيتالي تشوركين الذي يعرف هذه الأفخاخ الدبلوماسية خير معرفة رحب باقتراح دي ميستورا. وقال إنه يرفض القرار لكنه مستعد لتطبيق وقف الغارات بتنفيذ خطة المبعوث الدولي. موقف فيه من الحنكة الدبلوماسية الكثير.

في المشاورات التي جرت على مستوى الخبراء الأسبوع الماضي لم تلغ عبارة "كافة أطراف النزاع" التي تحفظت عليها موسكو. لكن الإشارة إلى إستخدام الحكومة السورية الأسلحة الكيميائية حذفت ومثل ذلك إنتصارا للبراعة الدبلوماسية الروسية. فيتالي تشوركين سخر من خبراء ألية التحقيق الدولية المشتركة التي ورد في تقريرها أن برميلا يحمل غاز الكلور ألقي على مبنى من طائرة هليكوبتر فدخل مدخنة وانفجر في الداخل ليصيب السكان بداخله. وسألهم، "لماذا يستخدم برميل بغاز الكلور طالما أن برميل متفجرات يوفي بالغرض أكثر ويصيب بشكل أدق وأشمل؟" وأعتبر القصة نسج من الخيال مرجحا أن يكون الذين أصيبوا داخل المبنى هم الذين كانوا يحضرون قنابل غاز وإنفجرت إحداها بالخطأ فألصقوها بالجيش السوري.

الأميركيون الذين إستنفدوا كل لغة الحوار والدبلوماسية مع موسكو لنيل تنازلات ميدانية كما حصل بعد الهدنة الأولى في شباط إبتعدوا عن الواجهة وتركوا الأمور لشركائهم الأوروبيين ضمن هامش تحرك مرسوم من باب رفع العتب. حتى أن المندوبة الأميركية سمانثا باور لم تحضر جلسة مجلس الأمن الدولي الجمعة وسافرت إلى كوريا الجنوبية من أجل تطمين سول بأنها محمية من الولايات المتحدة ضد التهديد النووي من بيونغ يانغ. وفي المقابل إنتقل جان مارك  أيرو وزير خارجية فرنسا ليرأس جلسة التصويت الطارئة قادما من موسكو وواشنطن إلى مقر الأمم المتحدة. الجلسة الفاشلة لا تليق أن يرأسها جون كيري أو حتى المندوبة الأميركية. وفي هذا مؤشرات كثيرة. واشنطن تبيع حلفائها مواقف وتلصق الفشل بآخرين. هل هي لعبة دبلوماسية تساعد في بيع المزيد من الأسلحة لبلدان المنطقة مقابل مواقف سياسية مفرغة من مضمونها في نيويورك؟


أما الجانب الروسي فتمسك برفضه التام لأي تقييد لعملياته العسكرية. حلب ليست مدينة عادية. إنها أم المدن السورية بعد دمشق. وهي الساحة الحقيقية لترجيح كفة الصراع في سوريا. ومن يسيطر على حلب لا يبقي للخصوم ما يصلح للقتال من أجله. لكن موسكو حرصت على تشديد قوة الفقرات المتعلقة بمحاربة الإرهاب. وقال مندوب روسيا من على منبر مجلس الأمن إن هدف روسيا في سوريا والعراق هو القضاء على الإرهاب. موقف لاقى إستحسان الجانب المصري في مشاورات المجلس بشأن القرار.
 القرار الفرنسي بات يتضمن فقرات تدعو المجموعة الدولية لدعم سوريا "للنأي بالنفس عن المجموعات الإرهابية". تلك المجموعات نفسها التي نأت بنفسها عن واشنطن والتحقت بالزحف التركي على جرابلس وطردت القوات الأميركية من بلدة الراعي.

ورغم كل هذه التعديلات فشلت المباحثات بين سيرغي لافروف وجان مارك أيرو في موسكو في تليين الموقف الروسي حياله. الجوهر يبقى واحدا بالنسبة لموسكو. هم يريدون تحييد الطيران لإعادة التوازن إلى المسلحين بعد تغيير بيارقهم والتخفيف من عددهم. الخطة باء لم تبرح عقولهم يوما.

قرار روسي مضاد

ربما لا تحتاج الدول الغربية لأن تستخدم الفيتو في وجه مشروع القرار الروسي
لم تتأخر روسيا عن وضع مشروع قرارها بالحبر الأزرق بعيد وضع القرار الفرنسي ـ الإسباني. القرار الروسي مماثل للقرار الغربي لكنه لا يتضمن دعم لجنة التحقيق التي شكلها الأمين العام للتحقيق في قافلة الهلال الأحمر. ويضيف إشارة إلى إتفاق ٩ أيلول ووقف القتال وملاحق الإتفاق الروسي الأميركي إلى مسودة مشروع القرار. وهو يشدد بنوع خاص على فرز المعارضة وعزل مسلحي التنظيمات الإرهابية. ويرحب كذلك بمبادرة حلب التي أطلقها ستافان دي ميستورا ويطلب من الأمين العام للأمم المتحدة تقديم المزيد من الخيارات الرامية إلى "إعادة الوضع في حلب إلى طبيعته".

ربما لا تحتاج الدول الغربية لأن تستخدم الفيتو في وجه مشروع القرار الروسي الذي لن ينال الأصوات التسعة اللازمة لتمريره. لكن مشروع القرار الغربي مهدد بفيتو أو إثنين وربما تصوت دول أخرى مثل فنزويلا ضده. بذلك يبقى الوضع في حلب على حاله إلا إذا تقدمت دول أخر مثل نيوزلندة بمشروع جديد ينحصر في إدخال المساعدات الإنسانية، وتعليق الغارات لفترات محدودة.  هذا في السياسة. أما في الميدان فالأيام حبلى بالكثير من التطورات والمفجآت.

اخترنا لك