لماذا أعَدتني صغيراً يا أمي؟

تلتفت أمي إليّ. لو أني أستطيع الهروب الآن. أن أهرب من تينك العينين المشبعتين بالقلق والخوف والحزن. أمي تختطف يدي وتلثمها. فعلت هذا ببرهة. بمزيج مكثّف من الحنو والخوف الرهيبين. عدت طفلاً. بكيت.

  • لماذا أعَدتني صغيراً يا أمي؟
    لماذا أعَدتني صغيراً يا أمي؟

القصف يشتدّ. الليل والنهار كانا أشبه بمجموعة من المجانين، لا يتوانون عن الصُراخ. يرفعون أصواتهم في مسامع كل من قرّر أن يلجأ إلى الطابق الأول من المبنى. الأذرع التي أمامي مضمومة إلى بعضها البعض. أحياناً يحرّر بعضهم أذرعهم من اشتمالها لأنهم شعروا بتعب. أما البعض الآخر، فقد أبقوا على انضمامها إلى بطونهم وهم يهزّون رؤوسهم.

نهضت عن السلالم. الكل قرّر أن يَلِجَ تلك الغرفة الصغيرة لينام. لم أستطع أن أبقى مستنداً برأسي إلى الجدار، مستدعياً النوم. النوم كان جسماً بعيداً مُشتهى. لم أنم. كنت حارس تلك الغمامة من الراحة التي أراها تحوط جميع هؤلاء الراقدون أمامي. قلت في نفسي، إني ربما، في لحظة ما، سيكلّفني الله بما لا طاقة لي به. أني سأرى هؤلاء جميعاً كيف يموتون. شارف دمعي على السيلان.

جلست على واحد من ثلاثة كراسي بلاستيك رُصفت إلى جانب بعضها البعض بجوار الحائط. أرخيت خدي إلى الجدار الذي تحسّست نتوءاته في وجهي. أصوات الأنفاس والشخير المُتتابعة في مسمعي. ابتسمت في سرّي. كدت أقول: ناموا. عليكم أـن ترتاحوا. ناموا. فالنوم معبركم الوحيد من القلق. حتى موتكم لو جاء فجأة، فلن ترونه. سيأخذكم إليه وأنتم نيام. ربما سيتسبّب لكم الموت في أنكم لن تستكملوا ما أنتم تحلمون به. لا بأس بهذا أمام رؤية وجه الموت القبيح.

لكنهم لم يكونوا كلهم نياماً. جوزيف كان أمامي. أغمض عينيّ ثم أجدني على جانب كبير من الفضول لألقي نظرة عليه. هل المجانين يخافون؟ سألت نفسي، ثم فتحت جفوني وتطلّعت إليه. يلتحف جوزيف بطانيّة من الصوف في عزّ الحرّ. مطروح بجسده على الأريكة أمامي. يرفع البطانيّة إلى رأسه الذي لم يظهر منه إلا فروته. يقلب جسده يُمنة ويُسرة. يُسدل الغطاء ثم يرفعه. يتطلّع إليّ بعينين غائرتين وسحنة ضاربة في السُمرة التي تُلامس السواد، ثم يتكلّم بصوت مسموع يقارب الهذيان، "أني خيفين". لم أدرِ حينها إن كان جوزيف يكلّمني أم يشكو خوفه إلى نفسه. أظن أن جوزيف لم يسبق له أن تملّكه الرعب بهذا القدر. أي منذ وقع تحت أيدي عناصر من إحدى الميلشيات اللبنانية إبّان الحرب الأهلية، وأجبروه تحت التعذيب أن يحفظ أن اسمه جوزيف. جوزيف يرتجف ويرتفع صوته.

أعتقد أني سهوت. أطلّ الصبح. ديك على مقربة من البناء قرّر أن يُعلن انبلاج الصباح. الصباح لا يزال طوعه. صاح الديك. صاح كثيراً. هكذا في ما تهيّأ لي أنه يفتعل أن يطغى صياحه على ما عداه من أصوات الطائرات. أمي تجلس إلى جانبي. الغارات قريبة. "هذه الغارات عند مثلث دير قانون. قتلت عائلة (كذا) ولا تزال تحت الأنقاض"، لم تكفّ تلك المرأة الثرثارة عن أن تلقي على مسامعنا تلك الأخبار، وهي لم تكن تتخطّى باب البناء. ثرثارة أتذكّر أن ثرثرتها انقلبت عليها خوفاً مُستحكماً في نهاية المطاف، جعلها تنكمش على بعضها البعض وهي طريحة الفراش. كما أن أمي لم تستطع أن تفلح في ردّ أختي الكبرى عن تلك الثرثارة، عندما كادت تهمّ بالقبض على رقبتها لشدّة غضبها منها. أنظر إلى أمي ثم أشيح بوجهي عنها، إلى كل هؤلاء الذين تغصّ بهم تلك المساحة الصغيرة.

"المقاومة قصفت زورقاً إسرائيلياً"، خرج الصوت ولم أعرف مصدره.

"الحمد لله. الله أكبر. إييييه. فليذوّقوا ما نذوقه الآن"، ردّ الرجل الذي وقف مُحتضناً ابنته الصغيرة. كانت قسمات وجهه تفصح عن حاجة إلى التشفّي. عن إصرار على الردّ. كاد يكرّر ما قاله صراخاً، لكن ابنته استرعت انتباهه لسبب ما، فراح يهدهدها وسكت.

لم يمض الوقت الكثير. "مجرزة في مروحين. مجرزة في مروحين"، قالت إحداهن وهي تبكي. "الجثث في البيك أب. قالوا لهم اخرجوا ثم قتلوهم". تابعت الفتاة ثم اختفت بين العيون التي بقيت تلاحقها، ثم تنظر إلى بعضها بعضاً.

تلتفت أمي إليّ. لو أني أستطيع الهروب الآن. أن أهرب من تينك العينين المشبعتان بالقلق والخوف والحزن

إستحضرت حسناً. طيف أم حسن انتصب أمامي. وقفت أمام حشد من أهالي القرية في دير قانون النهر. سرت بينهم وأنا أتذكّر أني رأيت حسن قبل ساعات من زئير ذلك الصاروخ الذي قتله. ذلك الصاورخ الذي رأيت ومضته فجراً. كان حسن يبتسم بحياء ويضحك بخَفَر. أمه كانت أمامي تبكيه بصمت. إمرأة جميلة رغم كبر سنها. بكاؤها جعلها أكثر جمالاً. التراب يُهال على حسن. بعضهم يخطف نظرة إلى أعلى حيث المروحيات ثم يلقي بأخرى إلى القبر.

أمي تختطف يدي وتلثمها. فعلت هذا ببرهة. بمزيج مكثّف من الحنو والخوف الرهيبين. عدت طفلاً. بكيت.

اخترنا لك