سجون داعش في الفلوجة.. أهلا بك في العصر الحجري

هنا داخل المنزل المجاور عند آخر حي نزال القريب من شارع بغداد الرئيسي في الفلوجة، أقفاص صممت لاحتجاز البشر، ليس مهماً طول المحتجز وليس مهماً جنسه، ليس مهماً ما إذا كان ضعيفاً أو سميناً، ليس مهماً صغيراً كان أم كبيراً. في حسابات داعش ليست مهمة كرامة الانسان ولا قيمته البشرية. هنا احتجز وعذب أستاذ جامعي وطلابه، وهنا بائع حلوى فرنجية، وهنا مشكوك بأمر ولائه للتنظيم، بين أعمدة يا لسوء حظ من التفت حوله، مقيدة مصيره بيد سجان لا يفقه من الحياة إلا الموت.

ماذا تخفي سجون داعش؟
كرم أهل الأنبار أشهر من أن يشار له والفخر العشائري أكثر ما يتقنون ومضائف القبائل تمدنت فيه داخل بيوت أشبه بالقصور في حي نزّال الراقي في الفلوجة. آثار المعارك واضحة وجلية، لكن دمار داعش أوضح وأبلغ، فالبيوتات المصادرة تحت شعار "أوقاف الدولة" مصيرها الحرق طالما انكسر التنظيم في الحرب، والحرق يكون آخر أوراق يلعبها على طاولة سياسية إعلامية.

يتهافت مقاتلو الشرطة الاتحادية لإعلام الميادين حول كسب جديد، مكانه حي نزّال في ظهيرة يوم قائظ من عام ٢٠١٦. لكنه كسب يكشف عن طبيعة ممارسة التنظيم التي تفصل بين عامنا هذا وما مضى، قرون في القدم. نصل إلى ثلاثة بيوت تجاورت مداخلها، على جدرانها تتراصف كتابات شتى. أبطال الشرطة الاتحادية، مغاوير عمليات بغداد، الفرقة الذهبية.... إلخ. لكن أقدمها عبارة "أوقاف الدولة". ترتبط المنازل في ما بينها عبر فتحات في جدرانها الاسمنتية ومنافذ سقفها داعش ليمنح منتسبي الحسبة لديه وهم أشبه برجال الأمن، فرصة التنقل بين البيوتات خفية وخيفة من غطاء جوي يراقب.

الڤيلا الأولى تتراصف داخلها مناضد خشب تتسع لعشرة أشخاص، ومنضدة وضعت بشكل عرضي في آخر الصالة الكبرى فيها في مشهد مسرحي. هذه المحكمة يقول مقاتل في الشرطة الاتحادية تجمع التراب مع عرق، يفرضه صيف العراق وجبته الساخنة، بخليط من الإرهاق لا يمت بصلة لقوة إرادة في القتال كما يتضح من لقياه. محكمة داعش؟ نسأله عنها، فيجيب عارضاً محاضر التحقيق والشكوى متقدماً صوب ما يفترض أنه غرفة المطبخ، لكن واقعه غرفة احتجاز أولية غُلّقت أبوابها عبر حواجز فولاذية وبالفولاذ ذاته حجبت شمس الحرية من شبابيك موقع الاحتجاز. هذا ليس موقعاً واحداً فهناك غرف احتجاز في غرف أخرى في منازل وقصور مجاورة، العبور إليها كالعبور إلى خنادق الحرب، جدران مثقوبة برصاص الاشتباكات، أكياس التراب تتجمع دون تنسيق وغرف محترقة لإضفاء المزيد من الرعب على مزيج من معتقلين أبرياء. هنا داخل المنزل المجاور عند آخر حي نزال القريب من شارع بغداد الرئيسي في الفلوجة، أقفاص صممت لاحتجاز البشر، ليس مهماً طول المحتجز وليس مهماً جنسه، ليس مهماً ما إذا كان ضعيفاً أو سميناً، ليس مهماً صغيراً كان أم كبيراً. في حسابات داعش ليست مهمة كرامة الانسان ولا قيمته البشرية. هنا احتجز وعذب أستاذ جامعي وطلابه، وهنا بائع حلوى فرنجية، وهنا مشكوك بأمر ولائه للتنظيم، بين أعمدة يا لسوء حظ من التفت حوله، مقيدة مصيره بيد سجان لا يفقه من الحياة إلا الموت.

طعام المحتجزين تمر جاف وقنينة ماء يوضعان خلف أقفاص تأبى الحيوانات المبيت فيها إلا من جرأة الانسان عليها. لم يسلم من داعش حتى من هم مع داعش. حسابات التنظيم وضعت مكاناً لمسلحيه يوم يتهم أحدهم بإخلال أثناء الحرب. في أحد الأروقة كتب "حجز الاخوة" لكن أخوة السلاح لا يحتجزون كأي مدني من أهالي الفلوجة.
هنا تروى قصص رفض أهل المدينة لداعش وممارساته. هنا معارضة لنظام قام رغماً عن أهل الفلوجة ومدن أخرى. نظام حكم امتهن كرامة الانسان وربط قيمته بولاء طاعة يقدمه للتنظيم، وإلا فالحجر والحجز والاعتقال التعسفي والقتل بكل الطرق.
شهادات معتقلين آثروا العمل مع الأمن العراقي، من هولها تكسر صمت الأقفاص وأقفالها. سحل بالسيارة على الأرض، صعق بالتيار الكهربائي، عرض للمدنيين المعتقلين بالأقفاص عبر سيارات جوالة في داخل أحياء المدينة، كل ذلك خلال فترة السجن المتأتي من قرار محكمة التنظيم لحين الاعتراف بذنب لم يُرتكب أو الانخراط بالعمل العسكري مع داعش. .. انسانية؟؟ يسأل معتقل سألناه عنها. فيجيب والدموع تنهمر سراعاً: لا يغرنك درس قرآن فرضوه ولا لحى. أنا ابن البيئة وأعلم بمن حمل السلاح ومن قاتل ومن استلم منصب الحسبة والقضاء ومناصب تشريعية. الحكم هنا كلعب بلا قواعد. الحكم وفق الأهواء والسجن متعة للسجّان والتعذيب يزيد من سادية الحاكمين. آخر يوم قبل التحرير أشعلوا دولاباً داخل السجن لأنني معوق لا أنفع لرفع السلاح فكانت رحمة من ربي. تركوني اصرخ وسط اشتباكات دون أن أدري من سيصل لي منهم، إلى أن من الله علي بمن أنقذني. جفّت عروقي وأنا أصرخ لقوات الرد السريع أنني معتقل لأدلهم إلى مكاني. لم تكن حينها بطاقة براءتي إلا هذا القفص الصغير الذي أودعت فيه وأنا بحالة لا يقبلها حتى الانسان القديم وإن كان بلا حضارة، لكنه الانسان القديم.. حين يبعث من جديد في الفلوجة.

 

اخترنا لك