صناعة القدرة في الخليل .. أكلة شعبية موروثة عن الأجداد
سعادة الرجل تبدأ من معدته، مثل قديم عكس مفهوماً تراثياً لأبرز ملامح التراث الشعبي الفلسطيني الخاص بالأطعمة والمأكولات، فكانت الجدات والأمهات يتبارين في عمل الأكلات الشعبية تحت مبدأ "من دبرت ما جاعت"، ودرج المثل وأصبح واقعاً معاشاً.
- صناعة القدرة في الخليل .. أكلة شعبية موروثة عن الأجداد
شكلّت الأكلات الشعبية الفلسطينية جزءاً هاماً من تراثه الوطني، وتوارثت أجياله طرق الطهي والتقديم لكافة الأشكال والأصناف منها، كما تناقلت أغانيه وأهازيجه ولبسه وطرق المعيشة والأمثال وغيرها من فنونه الشعبية، وأبقت معاولها مرفوعة في وجه الاحتلال الإسرائيلي الذي عمل ويعمل على سرقة تراثه وتاريخه الوطني.
إقرأ أيضاً: في 5 دقائق فقط.. أكلات سريعة التحضير للغداء والعشاء
ولعل القدرة الخليلية واحدة من أهم هذه المأكولات، وأكثرها صيتاً وانتشاراً في صفوف مواطنيه، حيث ارتبطت بتاريخ المدينة وعراقتها بصورة خاصة، فيما ينتاب صناعتها مشقة كبيرة، وتتطلب من طهاتها التركيز والانتباه لخطوات طهيها حتى تخرج بصورة تليق بها، والتعامل مع إعدادها بروح الحذر والدقة.
فداخل قدر نحاسي سميك تحيطه ألسنة اللهب الحمراء، تستمع لأصوات هجيج النار كأنها معركة أو أهزوجة شعبية، تتعارك أو تغني لما يطبخ فيه من لحم الضأن أو الدجاج والأرز بنكهة السمن البلدي، مكونات تمتزج معاً لتشكل بعد ثلاث ساعات من الطهي المتواصل داخل فرن النار وجبة القدرة الخليلية المنشأ.
ويؤكد صاحب محل لإعداد القدرة الشاب الثلاثيني محمد أبو سنينة ل "الميادين نت" أن عمر القدرة الخليلة يزيد عن 120 عاماً، وتعلمها من والده الذي تعلمها من جده، وهو أحد أبناء الجيل الثالث الذي يقوم على صناعة القدرة الخليلية، وله من الخبرة فيها 15 عاماً.
ويواظب أبو سنينة على فتح أبواب محله مع ساعات الصباح الأولى من كل يوم، لاستقبال طلبات زبائنه الذين اشتهت أنفسهم أكلة القدرة، والتي عادة ما تكون حاضرة في المناسبات المختلفة، ليبدأ بعدها مرحلة الفرز والتنظيف والترقيم على الإناء النحاسي المصنوع خصيصاً لها.
ويتكون الفرن الخاص بالقدرة الخليلية من الملح والرمل والتراب الأبيض، وتطهى بواسطة الحطب بعيداً عن استخدام السولار أو الكاز، ويدخل في تكوينها الملح والكركم والسمنة البلدية، فيما لم تستطع ربات المنازل نقل تجربة طهي القدرة الخليلية إلى مطابخهن، ليبقى محصور طهيها في محلات مخصصة لها.
وتبدأ أولى خطوات عمل القدرة الخليلية في وضع لحم الضأن في قدر نحاسيّ، يُضاف إليه الماء ليتم طهيه لمدة نصف ساعة على الغاز للتخلص من بعض دهونه، ثم يُضاف الماء المغلي إلى القدر بمقادير محددة، وحسب الكمية والوزن للقدرة المطلوبة، ليتم إدخاله بعدها إلى فرن النار، لإتمام عملية الطهي.
وبعد أن تأخذ القدرة شوطاً طويلاً من الوقت في فرن النار، يُضاف إليها الأرز، وتتم عملية شوي اللحمة عبر وضع ورقة فوق صينية نحاسية خاصة، ثم توضع فوق الأرز وتبقى في الفرن لغاية إكمال عملية الطهي، وتكون عملية إضافة السمنة البلدية عليها آخر مراحل إعداد القدرة الخليلية.
ولفت الطاهي للقدرة الخليلية أبو سنينة ل "الميادين نت" أن كل كيلوغرام من الأرز يُقابله كيلوغرام من اللحم، وأنها أكلة لا يتوقف الإقبال عليها، فطعمها الذي لا يغادر ذهن المتذوق هو سرها، بالإضافة إلى لمة الأهل والأصحاب حولها، والاستعانة بها في المناسبات الاجتماعية، وتقدم مع اللبن الرائب حسب العرف الخليلي.
وقال مدير مركز السنابل للدراسات والتراث الشعبي الباحث الدكتور إدريس جرادات ل "الميادين نت" أن الاحتلال الإسرائيلي حاول سرقة العديد من أنواع الأكلات والأطعمة والزي الشعبي الفلسطيني، ليصنع لنفسه تاريخ وتراث، ولكنه يسقط أمام محافظة الأجيال الفلسطينية في كافة أماكن تواجدها على تراثها، واعتزازها وافتخارها به.
وأضاف الباحث جرادات "أن للأكلات الشعبية جانب هام من التراث الشعبي الفلسطيني، وتعد سمة لثقافة المنطقة التي ارتبطت باسمها، وأشار إلى أن العديد من المواطنين الفلسطينيين يأتون من خارج المدينة لتذوق طعام القدرة، وتعتبر واحدة من أجود الأكلات التي تقدم للضيف في المدينة.
وتعتبر القدرة عنواناً للكرم الخليلي الذي اشتهر به سكان المدينة، فهي تعبر عن تقدير واحترام الضيف، خاصة أنها تمر في مراحل دقيقة تتمثل في اختيار اللحم الأفضل والفرن الأفضل لطهوها، ورغم ارتباطها قديماً بلحم الضأن، إلا أن الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تمر بها الكثير من العائلات الفلسطينية اضطرتهم لاستبدال اللحوم الحمراء بالدجاج.
وقال المواطن الفلسطيني مصطفى الفروخ لـ الميادين نت: يوجد لدي عمال، وقررت أن أعمل لهم قدرة خليلية، للتعبير عن احترامي ومحبتي لهم، ولإكرامهم، واخترت القدرة لما تتميز به من طعم خاص لا يمكن أن تشعر به في أي طعام آخر.
ولكل حرف من حروف القدرة رمز خاص، فالقاف جاءت من القوة والقسمة والنصيب، والدال من الدسم لارتباطها بلحم الضأن والسمن البلدي، أما الراء فمن الرزق، إذ لا يأكل من القدرة منها شخص واحد وإنما مجموعة، والهاء من هنية، فمن يأكل قدره خليلية يأكل أكلة هنية'.
-
. -
. -
.