الأمم المتحدة... برلمان العالم العاجز أمام مآسي الدول العربية

إذاً انحصر دور الأمم المتحدة منذ البداية في حماية العالم من "الجحيم"، لكن ماذا عن "الجحيم" العربي تحديداً؟ ماذا عن جحيم سنوات الحرب والمآسي التي عاشتها وتعيشها كل من فلسطين وليبيا واليمن وسوريا والعراق ولبنان؟، هل نجحت الأمم المتحدة في دورها أم استسلمت لعوامل خارجية أقوى منها تخنقها سياسياً ومالياً؟.

الأمم المتحدة لم يتمّ إنشاؤها لقيادة البشرية إلى الجنة، بل لحمايتها من الجحيم

منذ تأسيس الأمم المتحدة عام 1945، وتُطرح العديد من التساؤلات حيال دورها الحقيقيّ خصوصاً في الأزمات، ليحسم أمينها العام الثاني داغ همرشولد الجدل، عندما أكد أنّه "لم يتمّ إنشاؤها لقيادة البشرية إلى الجنّة، بل لحمايتها من الجحيم".

إذاً انحصر دور الأمم المتحدة منذ البداية في حماية العالم من "الجحيم"، لكن ماذا عن "الجحيم" العربي تحديداً؟ ماذا عن جحيم سنوات الحرب والمآسي التي عاشتها وتعيشها كل من فلسطين وليبيا واليمن وسوريا والعراق ولبنان؟، هل نجحت الأمم المتحدة في دورها أم استسلمت لعوامل خارجية أقوى منها تخنقها سياسياً ومالياً؟

في مقال له في صحيفة "الغارديان" البريطانية عام 2015، وبمناسبة حلول 70 عاماً على تأسيس الأمم المتحدة، أشار الكاتب كريس ماكغريل، إلى أنّ "المنظمة أنفقت نصف تريليون دولار، وذهبت إلى أماكن الصراعات لإحلال السلام، إلا أنها تقف كمتفرج أمام الإبادات".

فلسطين.. القضية التي أفقدت الشعوب العربية ثقتها بالأمم المتحدة

الأمم المتحدة حاولت تعويض فشلها السياسيّ، بتقديم المساعدات الإنسانيّة

إعلان تقسيم فلسطين، بقرار رقم "181" المشؤوم، الصادر في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947، كان أولى هذه الإبادات. لم تقف حينها الأمم المتحدة كمتفرج فقط، بل فتحت الطريق لـ "إسرائيل" لتصنع لنفسها مجداً وهمياً على أنقاض جثث الفلسطينيين. ظنّت المنظمة حينها أنّها صنعت حلاً "عجائبياً" للنزاع العربي الإسرائيلي، ولكنها شرّعت مأساةً للعالم العربيّ بأكمله، وليس من السهل طبعاً إحصاء كم أباد الاحتلال الإسرائيلي أروحاً منذ العام 1947 حتى اليوم.

أقلّ ما يمكن به وصف العلاقة بين القضية الفلسطينية والأمم المتحدة، بأنها علاقة مؤلمة، انحازت فيها المنظمة بشكل واضح لصالح "إسرائيل" بضغط أميركيّ، ووظفت فيه القرارات الدولية "الشرعية" التي تصدرها، خدمةً للاحتلال. فمنذ القرار 181، فشلت الأمم المتحدة في إيقاف المجازر الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، ولا تزال القضية حتى يومنا هذا في مربع النقاش الأول كبند دائم في اجتماعات الجمعية العامة.

وقررت الأمم المتحدة عام 2017 أن تصدر صوتاً في القضية، فرفضت قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب إعلان القدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها، ولكنّه طبعاً سقط باستخدام الولايات المتحدة حق الفيتو، فنقلت السفارة، وظلّ القرار شكلياً فقط. موقف المنظمة "الرافض" كان لا بد من أن يعاقب بشدة، فقررت الولايات المتحدة في آب / أغسطس 2018، وقف تمويل وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا).

ولطالما شكلت الأونروا شريان الحياة بالنسبة للفلسطينيين، لذا كان عقاب أميركا للأمم المتحدة لأنّها تعدت "حدودها" قاسٍ جداً، وأثر على المساعدات التعليمية والصحيّة بشكل كبير. وبعد هذا القرار حوصرت الأمم المتحدة أكثر في فلسطين، خاصةً أنّها كانت تحاول تعويض فشلها السياسيّ، بتقديم المساعدات الإنسانيّة.

لبنان.. القرار 425 لم ينفذ إلا بضعط ومقاومة الشعب

القرار 425 لم ينفذ الاّ بعد 22 عاماً وتحت ضغط ومقاومة الشعب اللبناني

من الأدلة على ضعف الأمم المتحدة وظهورها بموقف الغير قادر على فعل شيء في مناطق الصراع العربية، هو فشلها في تنفيذ قرارتها، لتُحبط جميع من يثق بأنها تملك دوراً محورياً يُسهم في تحقيق الأمن والاستقرار. لم ينفذ القرار 425 الذي أصدرته في 19 آذار/ مارس 1978، والذي طالب بسحب القوات الإسرائيلية بشكل كامل من الأراضي اللبنانية، فعاش لبنان سنوات طويلة تحت الاحتلال، وارتكبت مئات المجازر بحق شعبه، إلى أن حرر أرضه بنفسه في 25 أيار 2000. فشل الأمم المتحدة الواضح في التصدي للغطرسة الإسرائيلية، أكده مؤخراً رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون، بقوله أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، أنّ "القرار 425 لم ينفذ الاّ بعد 22 عاماً وتحت ضغط ومقاومة الشعب اللبناني".

حماية الأمم المتحدة لإسرائيل استمر إلى أنّ توّج في عدوان 2006، عندما طالب القرار 1701 بتجريد كل "الجماعات اللبنانية" (أيّ حزب الله) من السلاح. لم يكن غريباً من الأمم المتحدة أن تقف موقفاً مشابهاً وأن تطالب بسحب سلاح الجهة التي تحمي لبنان، ولكن في الوقت نفسه، لماذا لم تمنع الأمم المتحدة "إسرائيل" من قتل وخطف وتشريد الآلاف، ومن خرق السيادة اللبنانية يومياً؟.

الأزمة السورية أعقد من أن تحلّها الأمم المتحدة

تحجج كل مبعوث أممي يفشل في مهامه، بأنّ الظروف أقوى منه وأن الأزمة معقدة لدرجة أنّه يصعب عليه حلّها

قد تكون الأزمة السورية مثالاً بارزاً على ضعف الأمم المتحدة في المنطقة العربية. ثلاث مبعوثين أممين استقالوا من مهاهم اعتراضاً على عرقلة عملهم وعلى عدم تقديم الدعم لجهودهم، أولهم كان كوفي عنان عام 2012، ثمّ الأخضر الإبراهيمي عام 2014، وأخيراً ستيفان دي مستورا خلال الشهر الحالي.

واكتفت الأمم المتحدة بعقد جلسات صورية في جنيف، لم تتوصل فيها إلى أيّ نتيجة، بينما كانت الأوضاع الأمنية والعسكرية تتعقد أكثر في سوريا. ويتحجج كل مبعوث أممي يفشل في مهامه، بأنّ الظروف أقوى منه وأن الأزمة معقدة لدرجة أنّه يصعب عليه حلّها. إذاً ما الذي كان يفعله المبعوث طوال سنوات عمله، وهو يتقاضى مرتباً مرتفعاً طيلة فترة "إدارة الأزمة".

ويعتبر القرار 2254 من أبرز القرارات التي تبنتها المنظمة في 18 كانون الأول/ ديسمبر 2015، والذي طالب "جميع الأطراف بالتوقف فوراً عن شنّ أيّ هجمات ضد أهداف مدنية"، وحثّ جميع الدول الأعضاء في مجلس الأمن على "دعم جهود وقف إطلاق النار".

وشكلت مسألة موقف الأمم المتحدة من استخدام الأسلحة الكيميائية في سوريا محط جدل كبير، فهي استندت في كل تقاريرها وتحقيقاتها وقراراتها على أدلة غير مثبتة، بحجة عدم القدرة على التحقيق الميداني بسبب الحرب. وهنا يكفي أن يُطرح تساؤل بسيط: كيف يثق العالم بمنظمة تعتمد على صور عشوائية في عصر الأخبار الكاذبة والصور المفبركة؟.

أميركا تخنق الأمم المتحدة في العراق

القوى السياسية العراقية، لا تثق بدور الأمم المتحدة في العديد من الملفات الحساسة

خضع العراق بسبب سياسات رئيسه السابق صدام حسين إلى عشرات القرارات بموجب الفصل السابع، فعوقب اقتصادياً وسياسياً، ما خلّف أعباء هائلة على الشعب العراقي. واستغلت واشنطن الأمم المتحدة عام 2003 من خلال القرار 1483 لتشريع احتلالها للعراق، ومنذ ذلك اليوم كان وجود ونشاط المنظمة الدولية غير مرغوب ومسموح به خارج الملعب الأميركي.

وكان التفجير الهائل الذي تعرض له مقر الأمم المتحدة في بغداد في 19 آب / أغسطس 2003، وقتل فيه رئيس البعثة سيرجيو فييرا دو ميلو مع 21 آخرين، هو الضربة القوية التي أدت إلى انسحاب البعثة من العراق، لتغيب عنها خمسة أعوام، قبل أن تعود في العام 2007.

وبالإضافة إلى مطالبة السياسيين العراقيين المستمرة بتعزيز دور الأمم المتحدة، قال مندوب العراق في الأمم المتحدة حميد البياتي، بعد اتخاذ قرار توسيع دور المنظمة، جملة صريحة وواضحة، توضح العجز الذي تعاني منه: "كان موقفنا من البداية أن الأمم المتحدة يجب أن يكون لها دور بارز، نأمل في أن تتوفر السلطة وقوّة الشخصية لدى المبعوث الدولي الخاص". وكان واضحاً أنّ القوى السياسية العراقية، لا تثق بدور الأمم المتحدة في العديد من الملفات الحساسة، انطلاقاً من تشريع الاحتلال الأميركي مروراً بحل النزاعات الداخلية وصولاً إلى عملها الإنسانيّ.

ليبيا.. مبعوثين كثر ونتيجة واحدة

مؤخراً بدا التدخل الأميركي في عمل المنظمة جليّاً في ليبيا

وتشابه تعاطي الأمم المتحدة في الأزمتين العراقية والليبية، لعوامل عديدة أهمها أنّ البلدين تعرضا لتدخل عسكريّ مباشر بحجة استبدال نظامهما الدكتاتوريّ بنظام ديمقراطيّ، وانقسمتا سياسياً بين عدة تيارات، كما عانتا من الإرهاب بانتشار تنظيم داعش فيهما، بالإضافة إلى أنّهما تملكان احتياطاً نفطياً ضخما، أسال لعاب الدول الكبرى.

وتداول على رئاسة البعثة الأممية في ليبيا، ستة مبعوثين، منذ بداية الأزمة عام 2011، كان آخرهم اللبناني غسان سلامة. وعلى الرغم من اختلاف طريقة عمل وأسلوب كل مبعوث عن الآخر، لم يحقق أيّ منهم أيّ نجاح في حل الأزمة، ووصلت خطة سلامة المقترحة في سبتمبر الماضي لحل الأزمة إلى طريق مسدود، بحيث لن تُجرى قريباً انتخابات نيابية ورئاسية لتغيير الأجسام السياسية الحالية العاجزة عن التوافق، كما أنّ سلامة عجز عن إيجاد صيغة منطقية لإضعاف سيطرة الميليشيات على العاصمة طرابلس، والمشكلة الأساسية هنا تنبع من عدم تسمية الأشياء بمسمياتها.

ودائماً ما تنتهي اجتماعات الأمم المتحدة رفيعة المستوى بشأن ليبيا بالنتيجة ذاتها، دعوات للحوار والاتفاق السياسيّ، تنديد بالوضع الأمني والاقتصادي والإنساني المتدهور، وصراخ لحل أزمة المهاجرين غير الشرعيين، ولكن في الواقع لا شيء يتغيّر، بحيث تسير ليبيا يومياً إلى مجهول أكبر.

ومؤخراً بدا التدخل الأميركي في عمل المنظمة جليّاً في ليبيا، بحيث عيّن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، الدبلوماسية الأميركية ستيفان ويليامز في منصب نائبة سلامة، لتطغى التحركات الكثيفة لها على دور سلامة الذي تقلصت أنشطته منذ توليها لمنصبها.

التدخل الإنسانيّ لا يعوّض الفشل السياسيّ للأمم المتحدة في اليمن

الحرب في اليمن عبثية، ويجب إيقافها فوراً

من بين كل الدول العربية التي عانت صراعاً محتدماً في السنوات الأخيرة، يعيش اليمن أكبر أزمة إنسانية نتيجة حصار فرضه العدوان السعوديّ عليه. وركزت الأمم المتحدة في تعاطيها مع الأزمة اليمنية على الشأن الإنساني، وبرغم عدم نجاحها في تحقيق أيّ فارق حقيقي نظراً للعدد المهول الذي يحتاج إلى مساعدات إنسانية، إلّا أنّها حاولت بحسب ميزانيتها تقديم المساعدات الغذائية والصحية والتعليمية لأكبر عدد من اليمنيين.

هذا الجهد الإنسانيّ لم يعوّض الفشل السياسي الذي منيت به المنظمة في اليمن، بحيث اقتصر دورها فعلياً، كما حصل في سوريا، بإصدار بيانات الشجب والإدانة وطلب تشكيل لجان تحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان. وبرغم اتهامها للسعودية أكثر من مرة بارتكاب جرائم حرب هناك، إلا أنها عجزت عن ردعها وإيقاف حربها ضد اليمنيين.

أشار الأمين العام للأمم المتحدة أنطوانيو غوتيريس عام 2017 إلى أنّ "الحرب في اليمن عبثية، ويجب إيقافها فوراً"، ولكن يبدو أنّه لا يملك القدرة على ذلك، فكما في سوريا وليبيا والعراق، إنّ الأمر يتوقف على حل سياسيّ تقرره الدول الكبرى، التي قد توقف أيّ منها باستخدام حق الفيتو، أيّ قرار قد يقع في صالح أيّ من الشعوب العربية.

إذا لم يكن لدينا الأمم المتحدة، استوجب علينا اختراعها

من الواضح أنّ الأمم المتحدة ليست لاعباً سياسياً قويّاُ في الشرق الأوسط

من الواضح أنّ الأمم المتحدة ليست لاعباً سياسياً قويّاُ في الشرق الأوسط، ولا تملك أيّ سلطة ضغط على الأطراف المتصارعة. ففي هذه المنطقة الصعبة، يكون لقراراتها وتدخلات أمينها العام تأثير أقل ممّا هو عليه في مناطق أخرى ذات أهمية استراتيجية. وليست المشكلة فقط في فشل الأمم المتحدة في المنطقة العربية، بل في تضرر سمعتها بسبب الفرق الكبير بين ما وعدت به وبين قدرتها على إحداث تغيير على أرض الواقع.

حققت الأمم المتحدة نجاحات في المجالات الإنسانية أكثر منها في السياسية، لعوامل كثيرة أبرزها الهيمنة الأميركية على القرار في المنطقة العربية، وأنّ الشرق الأوسط منطقة ذات تعقيد هائل، وتحمل الكثير من التقلبات السياسية، بالإضافة إلى انعدام التوافق والتعاون بين الدول الأعضاء. 

"إذا لم يكن لدينا الأمم المتحدة، استوجب علينا اختراعها". قد يكون السياسي النيوزيلندي ديفيد شيرر الذي خدم المنظمة في العديد من الدول، على حق في فلسفته هذه، ولكن هل كنّا اخترعناها فقط لنؤمن كشعوب مغلوب على أمرها تعاني من الحروب والفقر والتدخلات الخارجية، بأنّ هناك "أطباء أممين" يرفعون لواء السلام وحلّ الأزمات، حتى وإن كانوا لا يطبقون شعاراتهم؟. 

اخترنا لك