خيارات روسيا في حال فشلت المفاوضات مع الغرب
الهجوم الخاطف التفاوضي الذي انتهى لتوه هو واحد من جولات اللعبة الاستراتيجية التي تجري أمام أعيننا.
-
كانت الولايات المتحدة تدرك استياء روسيا، لكنّها اختارت تجاهلها، لأنها كانت تنظر إليها كقوة آخذة في التلاشي.
تعكس مطالب روسيا من الولايات المتحدة وحلف الناتو الأهداف الاستراتيجية للسياسة الروسية في أوروبا، والتي سيتم تنفيذها بطرق أخرى، ما لم يكن من الممكن تحقيقها من خلال الطرق الدبلوماسية. لقد سمح أسبوع الدبلوماسية الروسية الغربية في كلٍّ من جنيف وبروكسل وفيينا للأطراف ببدء حوار صريح وهادف، وإن كان شديد الصعوبة، إذ لم تنتهِ المحادثات بضجّة أو انفصال نهائي، لكنها لا تسمح بالاعتماد على حل دبلوماسي لأزمة الأمن الأوروبي.
لكنَّ غياب الحل الدبلوماسي يقود منطقياً إلى تفاقم هذه الأزمة ودفعها إلى سيناريو استخدام القوة. ومن المنطقي هنا الكشف عن جذور الأزمة الحالية، وتحليل طرق تصعيدها وعواقبها، وكذلك النظر في الخيارات البديلة لحل المشاكل الأمنية على الضفة الأوروبية - الأطلسية للسياسة الخارجية لروسيا.
الجذور
مع نهاية الحرب الباردة وتفكّك الاتحاد السوفياتي، أنشأت الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها نظاماً في أوروبا، يقوم على دور رئيسي لواشنطن وموقع مركزي للناتو كأداة سياسية وعسكرية وأمنية للغرب. أما روسيا، التي فشلت في أن تصبح جزءاً من الغرب بشروطها الخاصة، ورفضت دور الدولة التابعة الذي عرض عليها، فبقيت خارج هذه المنظومة، لكنها اضطرت إلى أخذ الواقع الجديد بعين الاعتبار.
كانت الولايات المتحدة تدرك استياء روسيا، لكنّها اختارت تجاهلها، لأنها كانت تنظر إليها كقوة آخذة في التلاشي. ومع ذلك، تُظهر التجربة التاريخية أنَّ أيَّ قوة كبرى مهزومة، ما لم تتوافق مع نظام ما بعد الحرب وتُمنح مكانة تناسبها، ستبدأ باتخاذ إجراءات تهدف إلى كسره، أو على الأقل تصحيحه، وذلك بالطبع في حال امتلكت هذه القوة الساخطة ما يكفي من الإمكانيات المادية، وتحلَّت قيادتها بالإرادة السياسية والتأييد الشعبي.
وقد نضجت هذه الظروف في روسيا في النصف الأول من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كما يتضح من ردّ فعل موسكو على الأزمة الأوكرانية والمواجهة التي أعقبت ذلك مع الولايات المتحدة وانهيار العلاقات مع الاتحاد الأوروبي.
تطور المواجهة
على مدى 8 سنوات من المواجهة مع الغرب، استمرّت السياسة الخارجية لروسيا بالانتقال من حالة التكيف مع الحقائق غير المريحة إلى منع المزيد من التدهور في الوضع الجيوسياسي للبلاد؛ فبعد ربع قرن من "الاستراحة"، ولتغيير الوضع لمصلحتها، عادت موسكو إلى الشرق الأوسط، وبدأت باستخدام وسائل جديدة، مثل الشركات العسكرية الخاصة، لاتخاذ مواقع لها في أفريقيا. كما انتعشت السياسة الخارجية على خطوط أخرى، من غرب البلقان إلى أميركا اللاتينية والخليج العربي، وأصبحت السياسة الخارجية الروسيّة، من حيث النطاق الجغرافي، عالمية مرة أخرى.
ومع ذلك، وحتى بداية العام 2021، كان لا يزال من الممكن القول إنَّ هذه السياسة، من حيث المبدأ، تقف على أكتاف سياسة غورباتشوف، ليس بمعنى التخلّي عن المواقف السوفياتية وأوهام الاندماج في المنظومة الغربية، ولكن من حيث انخراط الدولة في مجموعة معقّدة من العلاقات مع الغرب، إذ سعت جاهدة لتحقيق التفاهم المتبادل مع الولايات المتحدة وأوروبا وإقامة شراكات معهما.
وحتى وقت قريب، أمضى الرئيس بوتين الكثير من الوقت في مقابلات تلفزيونية طويلة مع محاورين أميركيين، في محاولة لإقناع الجمهور الأميركي بأنَّ المصالح الروسية ليست معادية للمصالح الأميركية، وأن موسكو وواشنطن يمكنهما، ويجب عليهما، الاتحاد لمواجهة التحديات العالمية، مثل الأمن العالمي وخطر الإرهاب أو الوباء.
ولكن مع بداية العام 2021، تغيّر هذا الوضع، وبدأت القوات الروسية مناورات واسعة النطاق في المناطق المتاخمة للحدود الأوكرانية. ووفقاً للاستخبارات الأميركية، يمكن أن تشكّل هذه التدريبات غطاء للتحضير لعمل عسكري ضد أوكرانيا.
عندها، اضطرّت الإدارة الأميركية إلى الانتباه إلى الإجراءات الروسية، وعرض الرئيس بايدن على فلاديمير بوتين لقاءً شخصياً في جنيف، رغم أنَّ الملف الروسي لم يكن سابقاً ضمن أولويات البيت الأبيض. بالنسبة إلى الكرملين، حدَّد بوتين تكتيك إجبار واشنطن على التفاوض مع موسكو في خطابه في العام 2018 أمام الجمعية الفيدرالية، عندما قال إنَّهم يستجيبون للتهديدات المباشرة التي يتعرضون لها فقط.
لكن "روح جنيف" سرعان ما تبددت، واختصرت النتائج العملية للاجتماع ببدء المشاورات حول الاستقرار الاستراتيجي والأمن السيبراني، وظل الاتجاه الأوكراني في مأزق دبلوماسي. علاوةً على ذلك، استمرَّ الوضع العسكري السياسي على الحدود الغربية والجنوبية الغربية لروسيا بالتدهور.
وقد أجبر هذا الوضع الكرملين على العودة إلى تكتيكات الضغط بقوة على البيت الأبيض. وفي أواخر خريف العام 2021، أفادت المخابرات الأميركية بوضع أكثر خطورة على الحدود الروسية الأوكرانية، وأجبر تكرار المناورات الروسية واشنطن على الموافقة على المفاوضات مع موسكو بشأن القضايا الأمنية الأوروبية.
تفاوض اضطراري
وهكذا، نجح إجبار الولايات المتحدة على التفاوض. وبناءً على نجاحها التكتيكي، سلّمت موسكو للأميركيين وحلفائهم مسودة معاهدات واتفاقيات تضمنت مطالب روسيا الرئيسية للغرب بشأن قضية الأمن الأوروبي، ولم يتم تحديد المتطلبات الروسية فحسب، بل تم توسيعها أيضاً بشكل كبير، من خلال إلزام وزارة الخارجية الروسية بهذا العمل، إذ حثَّ الرئيس بوتين الدبلوماسيين على الاستفادة الكاملة من التوتر الناجم عن تحركات القوات الروسية، بيد أنَّ مشاورات كانون الثاني/يناير 2022 لم تؤدِّ إلى اختراق.
ومن غير المرجّح أنَّ موسكو كانت تتوقع قبول مطالبها، ولكنْ لأول مرة منذ المحادثات بشأن وحدة ألمانيا، جلست الولايات المتحدة إلى طاولة المفاوضات مع روسيا حول قضايا الأمن الأوروبي، ولأول مرة منذ انسحابها من معاهدة القوات النووية المتوسطة المدى، وافقت واشنطن على التفاوض بشأن عدم نشر صواريخ متوسطة وقصيرة المدى في أوروبا وتقييد الأنشطة العسكرية في أوروبا الشرقية.
وحتى وقت قريب، كان من الممكن تقييم مثل هذه النتيجة في موسكو على أنَّها نجاح كبير. ومع ذلك، فإنَّ الأهداف أعلى من ذلك بكثير، إذ تصرّ روسيا على عدم توسيع الناتو ليشمل دول الاتحاد السوفياتي السابق، وعدم نشر أنظمة أسلحة ضاربة في أوروبا قادرة على إصابة أهداف داخل روسيا، وكذلك كبح البنية التحتية التي بناها الناتو شرقاً بعد بدء عملية توسيع الحلف في العام 1997.
في العلاقات الدولية، لا تدخل الدول في الاتفاقيات بحرّية فحسب، بل تنسحب منها أيضاً بحرية. وفي السنوات العشرين الماضية، انسحبت الولايات المتحدة من جانب واحد من معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية، ومعاهدة الأجواء المفتوحة، والاتفاق النووي الإيراني.
وربما بمعنى ما، يسعى بوتين للانتقام من سوء تقدير غورباتشوف، الذي لم يطالب بالتزامات ملزمة قانوناً بعدم توسيع الناتو بعد إعادة توحيد ألمانيا، فقد سقطت على رأس روسيا بسبب ذلك 4 موجات من توسع الناتو، شملت دول البلطيق وسلوفاكيا وسلوفينيا ورومانيا وبلغاريا وكرواتيا وألبانيا والجبل الأسود ومقدونيا الشمالية. ولفترة طويلة، لم يكن لدى موسكو فرصة معارضة هذه العملية.
حدود الممكن
السياسة هي فنّ الممكن. وفي قلب حزمة الوثائق الروسية، تكمن مطالب موسكو الثلاثة غير المشروطة: عدم توسيع الناتو، وعدم انتشار البنية التحتية للناتو، وخصوصاً الأسلحة الهجومية في أوروبا، وتقليص أعضاء التحالف إلى مستوى العام 1997.
بالنسبة إلى رفض توسع الناتو في أراضي الاتحاد السوفياتي السابق، فإنه يُنفَّذ بحكم الأمر الواقع، لمجرد أنَّ الولايات المتحدة وحلفاءها ليسوا مستعدين، ومن غير المرجح أن يكونوا مستعدين، لتحمل التزامات حماية عملائهم في أوكرانيا وجورجيا.
ولا تكمن المشكلة في النزاعات التي لم تُحلّ في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية ودونباس، بل في احتمال حدوث صدام مباشر مع روسيا في المناطق التي تمتلك فيها موسكو مصالح أمنية حقيقية، واستعداداً للدفاع عنها بالقوة إذا لزم الأمر، بينما لا تملك الولايات المتحدة مثل هذه المصالح. ونظراً إلى أنَّها لن تقاتل روسيا من أجل أوكرانيا، فلن يتمّ قبول أوكرانيا في الناتو ما دامت روسيا قد احتفظت بالقدرة والتصميم على منع ذلك بالقوة.
ولكن ماذا لو حمل التّهديد "الأطلسي" في أوكرانيا شكل الأسلحة الهجومية والقواعد العسكرية والمستشارين وإمدادات الأسلحة، ولا سيّما أنَّ وجود "حاملة طائرات غير قابلة للغرق" تسيطر عليها الولايات المتحدة قرب موسكو وعلى أرض معادية لروسيا، يعتبر أكثر خطورة من عضوية دول البلطيق في الناتو؟ وما العمل في حال نشأ هذا التهديد؟
على الأرجح، من الممكن الاتفاق على القواعد العسكرية للولايات المتحدة ودول الناتو الأخرى في أوكرانيا، فالدول الغربية لا تريد أن تتكبد خسائر أثناء الحرب بين أوكرانيا وروسيا، وهي تخطّط الآن لإجلاء مستشاريها من هناك.
ومن شبه المستحيل إنهاء التعاون العسكري والعسكري التقنيّ بين أوكرانيا من جهة، والولايات المتحدة والناتو من جهة أخرى. والحد الأقصى هنا هو فرض قيود على طبيعة الأسلحة التي قدمها وسيقدمها الغرب إلى كييف. ويجب أن يؤخذ في الاعتبار أنَّ الولايات المتحدة ستصرّ في هذه الحالة على وقف الحشود العسكرية الروسية في الاتجاه الأوكراني. وهنا، يجب أن يكون أيّ خفض للتصعيد مصحوباً بقيود على مناورات الناتو قرب الحدود الروسية.
أما مطالبة موسكو بتفكيك البنية التحتية العسكرية بأكملها في أراضي دول أوروبا الشرقية، فلم تعد ضرورية في الكثير من النواحي، من وجهة نظر الأمن الروسي، فبعض الآلاف من الجنود الأميركيين في هذه المنطقة لا يشكّلون تهديداً خطراً لروسيا، وقوات الناتو في دول البلطيق ليست إلا نوعاً من المهدئات للبلدان المضيفة الثلاثة. وقد يكون وجودها في الأراضي السوفياتية السابقة مزعجاً، ولكنه ليس خطراً.
أما البنى التحتية الأخرى التي تشكّل تهديداً حقيقياً، فهي نظام الدفاع الصاروخي الأميركي في رومانيا وبولندا، والمطارات التي يمكن أن تتمركز فيها الطائرات التي تحمل أسلحة نووية، والقواعد البحرية، وما إلى ذلك. وهنا، يمكن حلّ مسألة قاذفات أنظمة الدفاع الصاروخي التي يمكن تحويلها إلى صواريخ متوسطة المدى، كجزء من صفقة محتملة لأنظمة الصواريخ النووية متوسطة المدى.
أما المطلب الثالث، وهو "العودة إلى العام 1997!"، فيبدو أنه طُرح من أجل إزالته في وقت ما، ما يدل على استعداد موسكو لتقديم تنازلات، لكن مقابل أن يتمّ العمل على مسارات تفضي إلى اتفاقيات ترضي المصالح الأمنية الروسية.
ما هي النتيجة؟
إنَّ احتمال امتثال الولايات المتحدة للمطالب الروسية بالشّكل والإطار الزمني الذي تقترحه موسكو هو صفر من الناحية النظرية، فرغم إمكانية الاتفاق بشأن اثنين من الموضوعات الرئيسية الثلاثة، كعدم التوسع وعدم الانتشار، فإنّ مثل هذه الاتفاقيات سيكون سياسياً، وليس ملزماً قانوناً.
وحتى الآن، لم يتم التوصل إلى اتفاقيات مُرضية بشأن القضايا التي تهم روسيا، لكن بالنسبة إلى الرئيس بوتين، فإنَّ النتيجة السلبية هي أيضاً نتيجة. كان الكرملين بحاجة إلى الوضوح، وقد حصل عليه. ويجب ألا يغيب عن الأذهان أنَّ المطالب الروسية من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي سيتم تنفيذها بطرق أخرى، ما لم يكن من الممكن تحقيقها من خلال الدبلوماسية.
وفي حالة فشلت المفاوضات، ستتخذ موسكو إجراءات عسكرية تقنية وعسكرية. وهنا، يدور الحديث عن مجموعة واسعة من التدابير، من مواصلة الضغوط القوية ونشر أنظمة أسلحة جديدة في مناطق معينة إلى تعاون أوسع مع بيلاروسيا الحليفة وتنسيق أوثق مع الشركاء الصينيين.
الشيء الرئيسي بالنسبة إلى موسكو هو الحفاظ على إمكانية الردع ضد أي تغييرات محتملة في الوضع العسكري والسياسي، وصد التهديدات ومنعها، وبالتالي بناء نظام ضمانات للأمن القومي لا يقوم على اتفاقيات مع خصم محتمل، ولكن على أساس ردعه.
ومع ذلك، يمكن أن تكون الاتفاقيات مفيدة إذا كان ممكناً التفاوض عليها بشروط مقبولة، والهجوم الخاطف التفاوضي الذي انتهى لتوه هو واحد من جولات اللعبة الاستراتيجية التي تجري أمام أعيننا. وقد وعدت الولايات المتحدة والناتو بتقديم مقترحاتهما إلى روسيا، ولكن في غضون ذلك، تتم مناقشة عقوبات جديدة في الكونغرس الأميركي. أما في الكرملين، فيجري العمل على قدم وساق لوضع حزمة العقوبات المضادة، وتقوم وزارة الدفاع بتحضير إجراءاتها للقيام بما هو مطلوب في حال وصلت الأزمة مع الغرب إلى طريق مسدود.