"ناشونال انترست": روسيا تدرك هشاشة الوحدة الغربية حول أوكرانيا
تكاليف الحرب بين موسكو وكييف، تبدو أقل استدامة بالنسبة لدول الاتحاد الأوروبي الغنية مقارنةً بروسيا المعزولة، وهو ما سيدفع الاتحاد الأوروبي إلى مشاكل عدة سيعاني منها على المدى القريب والبعيد.
الكاتب روبيرت د. انغليش يقول في مقال نشر في "ناشونال انترست" إن تكاليف دعم أوكرانيا في حربها مع روسيا، سيدفع الاتحاد الأوروبي الى مشاكل اقتصادية، مالية، سياسية، وستؤدي إلى أعباء مدمرة ليس فقط على أوكرانيا، ولكن على الاتحاد الأوروبي الهش!
وفي ما يلي نص المقال المنقول إلى العربية:
نجحت الدول الغربية بالتضامن السريع مع أوكرانيا، بعد بدء العملية العسكرية الروسية. كما نجحت بوضع عقوبات قاسية على روسيا، مقابل تزويد كييف بالمليارات من الأسلحة.
لكن كل هذا قد يكون في خطر، رغم تأكيد السياسيين على الوحدة فيما بينهم وإشادة النقاد بتأثير الأسلحة المرسلة إلى أوكرانيا، إذ إن المشاكل الاقتصادية الحالية قد تكسر التضامن في الاتحاد الأوروبي.
من المفارقات، أنّ التكاليف المتزايدة للحرب تبدو أقل استدامة بالنسبة لدول الاتحاد الأوروبي الثرية والديمقراطية منها، بالنسبة لروسيا الفقيرة والمعزولة. الفاتورة في موعد استحقاقها، والأوروبيون مصدومون من الحرمان الذي يواجهونه لدفعها. مثلاً، أدى الخلاف بشأن المساعدات الأوكرانية إلى انهيار الائتلاف الحاكم في إيطاليا، وهو نذير شؤم للحكومات الأوروبية الوسطية الأخرى.
الوحدة عبر الأطلسي قد تنهار قريباً
هذا التشاؤم، يفاجئ الأميركيين الذين يدفعون تكلفةً ضئيلة للحرب، خصوصاً أن وسائل إعلامهم متفائلة بشأن احتمالات انتصار أوكرانيا، وتركز معظم تعليقاتها على الضعف الروسي، الأزمة الاقتصادية، الفشل العسكري، العزلة السياسية. أما أولئك الذين يدعون إلى حل تفاوضي للحرب، غالباً ما يواجهون بالسخرية. ومع ذلك، فإن الإصرار على وجوب هزيمة روسيا بشكل حاسم، مع تحول ميزان المثابرة الاقتصادية والسياسية لصالح موسكو، يصبح غير واقعي بشكل متزايد.
كانت صواريخ "جافلين" ومدفعية "هيمارس" فعالة من الناحية التكتيكية، لكنها لم تغير المشهد الاستراتيجي في أوكرانيا، بل ظلت حرب استنزاف وحشية تسمح فيها مزايا روسيا من الموارد والمرونة، بالطحن بثبات.
قيل إن روسيا لا تستطيع الوقوف في وجه القوة الاقتصادية للغرب، وأن اقتصادها أصغر من اقتصاد إيطاليا، لكن روسيا ليست في منافسة مع الاقتصادات الغربية، بل هي في منافسة على إنتاج ما يكفي من الأسلحة والجنود لمضاهاة الجيش الأوكراني المدعوم من الغرب.
ألم يقال لنا أيضاً إن العقوبات ستدمر روسيا وتنهار عملتها؟
ومع ذلك، أصبح الروبل الآن أقوى من ذي قبل. وعلى الرغم من أن الاقتصاد الروسي سينكمش بنسبة 6% أو أكثر عام 2022، إلا أن هذا أقل بثير أمام انهيار أوكرانيا بنسبة 45%. والأهم من ذلك أن قدرة روسيا على الصمود أمام النمو السلبي بنسبة 6% أقوى من قدرة العديد من الحكومات الأوروبية الديمقراطية على البقاء على قيد الحياة في ظل نمو سلبي بنسبة 3%.
إن التقليل من شأن روسيا – والمبالغة في تقدير نفوذنا عليها – ليس بالأمر الجديد. نحن ننسب الفضل لأنفسنا في تصعيد سباق التسلح في الـ1980 الذي أفلس الاتحاد السوفياتي.
وفي الـ1990، أشدنا بانتصار الرأسمالية تحت قيادة بوريس يلتسين حتى عندما أدى التبني المتسرع للسياسات التي يروج لها الغرب إلى تغذية الفساد الأوليغارشي الذي دفع عشرات الملايين إلى الفقر.
وفي عام 2000، تم اعتبار نجاح فلاديمير بوتين في إحياء روسيا حظاً لاقاها مع ارتفاع أسعار النفط العالمية، وتم تجاهل الإصلاحات الرئيسية التي حررت الاقتصاد مع إعادة القطاعات الرئيسية تحت سيطرة الدولة.
ومع التقليل من شأن الاستياء الروسي من أحادية السياسة الخارجية الأميركية، توقع قليلون أن يؤدي ضم شبه جزيرة القرم عام 2014 إلى ارتفاع شعبية بوتين إلى أكثر من 80% على الرغم من العقوبات الاقتصادية القاسية.
وبدلاً من ذلك، توقع المحللون الغربيون أن تسحق هذه العقوبات الاقتصاد الروسي، وخاصة قطاع النفط الحيوي لإيرادات ميزانية موسكو. هكذا، فوجئ معظمهم بما تبع ذلك: أنهت روسيا سريعاً خطوط الأنابيب الرئيسية إلى الصين وتركيا، وبنت محطة جديدة للغاز الطبيعي المسال في سيبيريا، وسريعاً أيضاً أنهت خط طرق وسكك حديدية مهمة مع شبه جزيرة القرم.
مع هذا السجل من التقليل من شأن المرونة الروسية، لم يكن مستغرباً أن يستسلم الكثيرون للغطرسة في انتظار خنق سريع لروسيا بعد غزوها أوكرانيا.
ومن باب الإنصاف، كانت التدابير المتخذة غير مسبوقة من حيث الشدة،حيث فرضت عقوبات على أكثر من 1000 شخص مع أصولهم.
كذلك، توقفت صادرات العديد من السلع إلى روسيا وأغلقت مئات الشركات عملياتها هناك. والأهم من ذلك، تم طرد البنوك الروسية من نظام "سويفت" للمدفوعات الدولية وتم تجميد أكثر من 600 مليار دولار من الاحتياطيات الروسية.
كان الهدف من ذلك خنق التجارة الروسية، ولكن اتضح أن موسكو كانت مستعدة، وقد مكَّنها نظام مدفوعات بديل للصادرات، واحتياطيات نقدية ضخمة، من الصمود أمام العقوبات بشكل أفضل بكثير مما كان متوقعاً. وبعد انهياره لفترة وجيزة، ارتد الروبل بقوة بفضل الاستخدام الماهر لأسعار الفائدة وضوابط رأس المال.
واستفاد الروبل أيضاً من ارتفاع أسعار النفط وإصرار موسكو على دفع الروبل مقابل غازها، مما عزز الطلب على العملة. رفضت بعض، لكن كبار المستوردين مثل ألمانيا وإيطاليا امتثلوا بسرعة. كيف يمكن للطرف الأضعف، بينما يتعرض للعقاب، أن يملي شروط التجارة على معاقبيه؟ وبينما كانت أوروبا تسعى إلى ضرب روسيا مستخدمةً عصا اعتماد موسكو على عائدات النفط والغاز، اتضح أن بوتين كان يمسك بالطرف الآخر من تلك العصا.
أنت مطرود! لا، أنا استقلت أولاً!
سوف ينظر المؤرخون إلى حرب الطاقة الأوروبية الروسية كمثال على كيفية عدم استغلال النفوذ السياسي والاقتصادي. ومع فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات أكثر صرامة على موسكو، تم الإعلان عن خطط لوقف واردات النفط الخام والغاز الطبيعي الروسيين. وكان صقور الدفاع يدافعون عن هذا الأمر منذ فترة طويلة، ووافق الأوروبيون الوسطيون الآن على ذلك كوسيلة لشل الاقتصاد الروسي وخنق جهودها الحربية من خلال حرمانها من عائدات التصدير المربحة. أجاب الروس: "حسناً، يمكننا تسريع انتقالك إلى مصادر طاقة جديدة عن طريق تقليل الغاز الذي نشحنه لك الآن". وكان رد الاتحاد الأوروبي المذعور: "انتظر، لن نكون مستعدين لشل حركتك بوقف واردات الغاز حتى عام 2026! أنت تبتزنا!" لا تلتقط أبداً قنبلة يدوية وتلوح بها لعدوك الى وقتٍ تكون فيه مستعداً لاستخدامها، والا قد تنفجر بيدك.
في الأشهر التي تلت إعلان قادة الاتحاد الأوروبي عن اعتماد سياسة للحد من التركيز على النفط والغاز الروسي، من أجل خفض الإيرادات التي تمول الحرب الروسية، سخر المسؤولون بالتعاون مع الأطلسي من بوتين لتعزيزه الوحدة الأوروبية عن غير قصد. وبعد خمسة أشهر، سخر هو من يأس أوروبا المتزايد.
صيف السخط الأوروبي
في الأيام الأخيرة، تلقى ملايين المستهلكين الأوروبيين إشعاراً بزيادات هائلة في أسعار التدفئة والكهرباء، بعد موافقة الاتحاد الأوروبي على خفض استخدام الغاز الطبيعي بنسبة 15%. مع العلم أن تصريحات قادة الاتحاد الأوروبي لا تضمن امتثال الدول الأعضاء التي يرفض الكثير منها مثل هذه الإجراءات التقشفية لاجتياز شتاء من الحرمان.
بعض الموارد ضعيفة للغاية بحيث لا يمكنها الحفاظ على تشغيل المصانع التي تعمل بالغاز إذا تم قطع الإمدادات بشكل أكبر، أو هشة سياسياً للغاية بحيث لا يمكنها مطالبة مواطنيها المحاصرين بالتضحية بالمزيد. عمل البعض بجد لتنويع مصادر الطاقة الخاصة بهم، واستاؤوا من أن يطلب منهم خفض الاستهلاك لمساعدة أولئك الذين لم يفعلوا ذلك. وقد قدم البعض بالفعل إشعاراً بأنهم لن يشاركوا الإمدادات مع الجيران، بغض النظر عن الحاجة. هذه الانقسامات تتشابك على طول خطوط مألوفة بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، مما يعيد إحياء مشاعر الاستياء التي نشأت عن أزمات الديون واللاجئين السابقة.
عوامل عدة ستتحد معاً في الأسابيع المقبلة لتأجيج هذا الخلاف. أحد مصادر الحرارة هو، حرفياً، الحرارة - درجات الحرارة المرتفعة القياسية التي تشعل حرائق الغابات وتجفف الزراعة - التي تجاوزت فاتورتها 30 مليار دولار بحلول تموز/يونيو. كما تزيد الحرارة الشديدة من الطلب على الغاز، سواءً لتشغيل انتشار مكيفات الهواء أو لاستبدال الطاقة الكهرومائية المفقودة بسبب الجفاف.
كذلك، فإن الأنهار المتضائلة في أوروبا تعطل توليد الطاقة النووية (بسبب نقص مياه التبريد) وتترك البضائع وكذلك السفن السياحية عالية وجافة. كما تأتي ضربة اقتصادية أخرى من عمليات الإغلاق بسبب فيروس كورونا في الصين، وهو ما يعطل سلاسل التوريد.
وفي الوقت نفسه، ترتفع الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا مرة أخرى، بزيادة تصل الى 80% عن العام الماضي. العديد من المهاجرين من العراق وسوريا ومصر وغيرها من دول شمال أفريقيا مدفوعون بانعدام الأمن الغذائي الذي تفاقم بسبب نقص الحبوب الناجم عن الحرب.
إن احتمال تجدد الاحتكاك بين دول شمال أوروبا الصديقة للمهاجرين، ودول أوروبا الشرقية المعادية للإسلام، مع إغراق الأخيرة بالفعل من قبل اللاجئين الأوكرانيين - أمر رائع!
من جهتها، تتجاهل معظم التغطية الأميركية لأعباء الحرب المرتبطة بالطاقة والصراع التي تضرب أوروبا، وتركز بالمقابل بشكل أكبر على المساعدات العسكرية لأوكرانيا حيث تتفوق الولايات المتحدة على الاتحاد الأوروبي بمرتين لواحدة.
ولكن إذا تم حساب جميع أنواع المساعدات الاقتصادية لأوكرانيا - بما في ذلك التكاليف غير المباشرة، مثل دعم أكثر من خمسة ملايين لاجئ حرب - فإن المساهمة الأوروبية ستكون أكبر بكثير.
كما علم الأوروبيون أخيراً أن فاتورتهم لإعادة إعمار أوكرانيا في نهاية المطاف سوف تبلغ 1 تريليون دولار على الأقل. وإجمالاً، فإن عبء أوكرانيا في أوروبا قد يقترب من 10% من الناتج المحلي الإجمالي السنوي للاتحاد الأوروبي بالكامل. وهذا من شأنه أن يسبب اضطراباً اقتصادياً وسياسياً كبيراً، حتى في غياب أزمة طاقة حادة.
هل يمكن للتضامن الغربي أن يصمد أمام حرب استنزاف؟
تحول الرأي العام الأوروبي نحو أغلبية "مناهضة للحرب" حتى قبل أن تبدأ روسيا في خفض إمدادات الغاز. وأظهر استطلاع للرأي على مستوى المنطقة في أيار/مايو أنه في الوقت الذي ألقى معظمهم باللوم على موسكو في الصراع، فإن الأغلبية تعتقد أيضاً أن التفاوض على تسوية أهم من مواصلة الجهود لهزيمة روسيا.
وفي حين لم يتم نشر استطلاعات رأي موثوقة مماثلة على مستوى الاتحاد الأوروبي منذ ذلك الحين، فإن الأدلة من دول فردية - اليونان وإسبانيا وإيطاليا وحتى ألمانيا - تشير إلى أن أعداداً متزايدة لا تتفق مع سياسات حكوماتها المتمثلة في تسليح أوكرانيا بدلاً من دفع كييف نحو وقف إطلاق النار.
وحتى الآن، يتجاهل مسؤولو الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي في الغالب هذه التصدعات ويحثون على التحلي بالصبر في الجهود الرامية إلى هزيمة روسيا. ما لم يؤخذ في عين الاعتبار هو أن هذه السياسات لم تخضع أبداً لاختبار انتخابي.
ويتذمر الكثيرون من أن هذا فرض عليهم من قبل "بيروقراطيي بروكسل" الذين يتقاضون أجوراً جيدة ولا يخضعون لأي دائرة انتخابية شعبية، مما يخلق "تضامناً مزيفاً" من المرجح أن ينهار تحت المزيد من الضغوط الاقتصادية.
وسيأتي الاختبار عندما تصوت إيطاليا لصالح برلمان جديد في أيلول/سبتمبر المقبل، وهي انتخابات اقتضتها انهيار الحكومة السابقة بسبب انقسام بشأن تمويل أوكرانيا. وتتنبأ استطلاعات الرأي بفوز ائتلاف يميني يتمتع قادته بسجل طويل من الولع ببوتين.
من السهل السخرية من سيلفيو برلسكوني أو ماتيو سالفيني باعتبارهما "دمى بوتين"، ولكن هذا يصرف الانتباه عن المصاعب الاقتصادية التي تدفعهما إلى المنصب.
صحيح أن الجهود الروسية الرامية إلى استبدال الأوروبيين، بالمشترين الآسيويين لنفطها يعوقها نقص في خطوط الأنابيب ومرافق الموانئ، ولكنها مضللة أيضاً كأسباب للتفاؤل من دون اعتراف مماثل بنقص الناقلات والمحطات في أوروبا اللازمة لاستبدال الغاز الروسي بمصادر أخرى. من يستطيع بناء البنية التحتية المفقودة بشكل أسرع: الغرب الديمقراطي وشركاته الخاصة القائمة على الربح، أو روسيا والصين المستبدين من خلال مشاريع توجهها الدولة؟
ولكن يبدو من المرجح أنه حتى مع الانتكاسات في ساحة المعركة، ستحتفظ روسيا بمساحة كبيرة من الأراضي الأوكرانية بينما تضغط على أوروبا خلال أشهر من التضخم المرتفع مع نقص حاد في الطاقة والسلع الأساسية.
وقد نظم العمال الغاضبون بالفعل إضرابات مدمرة من المملكة المتحدة والنرويج إلى ألمانيا وإسبانيا، ويمكن أن تؤدي المصاعب المتزايدة إلى موجة من الاضطرابات الاجتماعية تتجاوز حتى تلك الناجمة عن عمليات الإغلاق بسبب "كوفيد-19".
وقد يؤدي تصاعد النزعة القومية والمعارك حول تقاسم الأعباء التي تفاقمت بسبب التوترات بين المهاجرين، إلى تقويض بعض الحكومات الأوروبية وتوتر العلاقات بين دول أخرى، ما يؤدي إلى توتر العلاقات أيضاً عبر الأطلسي وتآكل الدعم لأوكرانيا.
قد يكون هذا السيناريو هو الأسوأ، ولكنه ليس مستبعداً كما بدا قبل أسابيع فقط. وبينما نركز على نقاط الضعف في روسيا، فمن الأهمية بمكان أن نقدر نقاط الضعف والتهديدات التي يتعرض لها الغرب نفسه لصحة الاتحاد الأوروبي السياسية والاقتصادية على حد سواء.
ومع تزايد الاعتراف بأن الحرب لن تنتهي إلا بتسوية تفاوضية، فإن السياسة الاستباقية يمكن أن تزيد النفوذ الغربي إلى أقصى حد قبل أن تؤدي أشهر من الاضطرابات إلى تقويضها. وقد يؤدي المزيد والمزيد من الأسلحة إلى انتصار أوكرانيا، أو قد تسبب المزيد والمزيد من الدمار الذي يفرض أعباء مدمرة ليس فقط على أوكرانيا، ولكن على الاتحاد الأوروبي الهش أيضاً.