آفاق اقتصادية متشائمة: في باريس وبرلين كل الخيارات صعبة

أزمات اقتصادية في الأفق، فرنسا وألمانيا تواجهان آفاقاً متشائمة على وقع تخبّط غربي واستمرار عدم اليقين تجاه الأزمة الأوكرانية.

  • ليست الأزمة الأوكرانية منبع أزمات العالم، لكنها تشكل اليوم محطةً مفصلية قد تترك بصماتها على مساحات أكبر مما يمكن توقعه.
    ليست الأزمة الأوكرانية منبع أزمات العالم، لكنها تشكل اليوم محطةً مفصلية قد تترك بصماتها على مساحات أكبر مما يمكن توقعه.

تحتدم المعارك في شرقي أوكرانيا، وتزداد الأزمة تعقيداً بأبعادها المختلفة، في الوقت الذي تطغى فيه سمة الفوضى على المشهد العالمي. إنها فوضى إستراتيجية شاملة تعكس ارتداداتها على الأقاليم المشتعلة، وعلى الأزمات المتكاثرة والمتعددة الأسباب. ليست الأزمة الأوكرانية منبع أزمات العالم، لكنها تشكل اليوم محطةً مفصلية قد تترك بصماتها على مساحات أكبر مما يمكن توقعه.

فعلى مستوى مساحة المواجهة في أوكرانيا، غيّرت الحرب المعطيات بما لا رجعة عنه. هذه حقيقة باتت ملموسة اليوم، وهي سوف تتأكّد بأحكامها المستقبلية عند الوصول إلى نقطة التسوية في وقتٍ ما من هذا المسار. أوكرانيا الأمس لن تعود كما كانت، وروسيا أيضاً، ومعهما المنطقة التي تجري فيها الأحداث، وأكثر الدول قرباً منها. فقد دخلت معطيات جديدة بالغة التأثير في بيئة المنطقة هناك.

 

أزمات بالجملة تلوح في الأفق

لكن أبعد من ذلك، وما هو أكثر إثارة للخوف اليوم، هو افتضاح حقيقة فجّة لم يعد يمكن إنكارها، وهي أن العالم يسير من دون قيادة واضحة، ومن دون دليلٍ يساعد في فهم أحداثه أو توقعها. وما هو أكثر خطراً أيضاً أنها أحداثٌ تجري بصورةٍ متزايدة فوق التقليد السياسي العالمي، وفوق القانون الدولي والأعراف المتراكمة في كثير من الأحيان، ما يعزّز فرضية المواجهة الكبرى المتفلتة أخلاقيا،ً وغير القابلة للتوقع بدقة. إنها المرة الأولى منذ عقودٍ طويلة (على الأقل) التي يظهر فيها لدى القوى الكبرى انعدام يقين صارخ تجاه النظام العالمي، بل تجاه قضاياها أيضاً. لكن الأكثر إثارةً للقلق هو أن هذه القوى المتشكّكة في نفسها وفي حقائق العالم الجديد، تتحرّك وتهاجم وتنشط، وهذه الأفعال كانت على الدوام معمل مشكلات، فكيف إذا كان ذلك يجري مع انعدام الرؤى؟

ومع ذلك، لا تبدو المواجهة العسكرية الكبرى الآن أكبر التهديدات المحتملة. فهي على الأقل مؤجّلة ومرهونة بحدٍ أدنى من الردع المتبادل، وحسابات المخاطر لما تبقى من عقول التفكير الإستراتيجي لدى القوى الكبرى. إن الخطر الأكثر تهديداً للجميع، وللعالم بأسره اليوم، يتعلّق بالاقتصاد العالمي، واقتصادات الدول، والمجتمعات، والأسر، ومستقبل كل إنسان.

فالمعطيات الاقتصادية تشير بصورةٍ عالية السرعة إلى انحدارٍ حاد يسير إليه الاقتصاد الدولي. الأسباب كثيرة، منها ما يرتبط بالاختلالات البنيوية التي يعانيها النظام الاقتصادي الدولي والرأسمالية، ومنها ما يتعلّق باستمرار انعكاسات الأزمة الكبرى عام 2008، ومنها ما أفرزته جائحة "كوفيد19"، إضافة إلى ما أتت به الأزمة الأوكرانية التي فجّرت العلاقات الملتهلبة أصلاً بين القوى الكبرى.

واللافت فيما يخص التأثيرات الاقتصادية للأزمة الأوكرانية أن القوى الكبرى الناشطة فيها لا تتوانى عن التوغل أكثر في مسبباتها، مع أن الخيار العقلاني يوضح بما لا يقبل الشك أن تكلفة التسوية توفر على الجميع الأثمان الكارثية التي تلوح في أفق المواجهة المستمرة.

وفي سياقٍ مؤيد لذلك، كان لافتاً ما أوردته صحيفة "دي ستاندارد" البلجيكية في 28 نيسان/أبريل الماضي حين قالت: "إن المرحلة المقبلة من هذا الصراع خطرة جداً ولا يمكن التنبّؤ بمآلاتها (...). إنّ مواجهة قوة عالمية مرعوبة أمر محفوف بالمخاطر، خصوصاً بالنسبةِ إلى أوروبا، التي تعاني فعلاً بشدة من العواقب الاقتصادية لهذه الحرب". 

 

المؤسسات الدولية تدق نواقيس الخطر

ومنذ اندلاع المواجهة في شباط/فبراير الماضي، سارعت المؤسسات الدولية الاقتصادية والمالية إلى التحذير من الانعكاسات الاقتصادية لسيناريو الحرب الطويلة. فمع أن أوكرانيا وروسيا لا تشكّلان نسبة عالية من إجمالي صادرات التجارة العالمية، غير أنهما تمثّلان دوراً بالغ الأهمية في قطاعات معينة، ومنها قطاع الطاقة وقطاع المواد الغذائية الأساسية. 

منظمة التجارة العالمية، وهي الذراع الاقتصادية الأبرز للنظام الرأسمالي العالمي، خفضت توقعاتها للنمو في عام 2022 بمقدار النصف تقريباً، وذلك بعد أسابيع قليلة من بدء الأزمة الأوكرانية، من 4.7 في المئة إلى 2.5 في المئة.

التوقعات بحدوث أزمةٍ غذائية عالمية بدأت تسمع في كل مكان بعد مرور الأسبوعين الأولين للأزمة، إذ بدأت ملامح طولها الزمني تتضح. رئيسة المنظمة نغوز أوكونغو توقّعت حينذاك ارتفاع أسعار المواد الغذائية وتحوّلها إلى أزمة غذائية تمسّ بالدرجة الأولى الدول النامية الأقل قدرةً على اتخاذ سياسات علاجية مناسبة. "الاقتصاد العالمي سوف يعاني بشدة"، والدول الفقيرة هي التي ستشعر بنقص الإمدادات أكثر من غيرها، هذا ما قالته في مطلع نيسان-أبريل الماضي.

صندوق النقد الدولي من جهته أصدر تقريره الدوري بخصوص آفاق الاقتصاد الدولي في 11 أبريل/نيسان الماضي، وتوقّع فيه أن تؤدي الأضرار الاقتصادية الناجمة عن الحرب في أوكرانيا إلى تباطؤ ملحوظ في النمو العالمي عام 2022 وارتفاع مستويات التضخم، وتحدث عن ارتفاع سريع في أسعار الوقود والغذاء، سيقع تأثيره الأكبر على الفئات السكانية الضعيفة في البلدان منخفضة الدخل. ويُرجّح بحسب الصندوق تباطؤ النمو العالمي من 6,1% تقريباً عام 2021 إلى 3,6% عامي 2022 و2023. ويمثّل ذلك تراجعاً قدره 0,8 نقطة مئوية و0,2 نقطة مئوية عامي 2022 و2023 مقارنة بتوقعات كانون الثاني/يناير الماضي. وفيما بعد عام 2023، تشير التنبّؤات إلى تراجع النمو العالمي إلى نحو 3,3% على المدى المتوسط. وفي ضوء ارتفاع أسعار السلع الأولية واتساع دائرة الضغوط السعرية نتيجة الحرب، وصلت معدلات التضخّم المتوقّعة لعام 2022 إلى 5,7% في الاقتصادات المتقدمة و8,7% في اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية متجاوزة بذلك توقعات كانون الثاني/يناير بمقدار 1,8 نقطة مئوية و2,8 نقطة مئوية. وبحسب الصندوق، ستكون الجهود متعدّدة الأطراف ضرورية للاستجابة للأزمة الإنسانية، والحيلولة دون استمرار حال التشتت الاقتصادي، والحفاظ على مستويات السيولة العالمية، وإدارة المديونية الحرجة، ومواجهة تغير المناخ، والقضاء على الجائحة.

 

ألمانيا وفرنسا: كل الخيارات صعبة

وعلى مستوى أبرز الدول المهتمة بالأزمة الأوكرانية، أو المؤثرة فيها، أعلنت الحكومة الألمانية في 27 نيسان/أبريل الماضي توقعات النمو الخاصة بالبلاد للعام الجاري، حيث خفضت توقعات نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى حدود 2.2%. وسحبت تشاؤمها على أسعار الاستهلاك، إذ استبعدت تراجعها على المدى المنظور، فيما سيستمرّ معدل التضخم في الارتفاع ليصل إلى معدلات قياسية لم يعرفها إلا في حالات استثنائية، كالفترة التي تلت توحيد الألمانيتين أو في الأزمة النفطية في سبعينيات القرن الماضي (وصل التضخم إلى مستوى قياسي قدره 7.3% في شهر مارس/آذار الماضي).

ومع أن وزارة الاقتصاد الألمانية تتحدّث دوماً عن ارتباط ما يجري بالحرب في أوكرانيا، وتعلن أنها "ستحرّر نفسها تدريجاً من قيد الواردات الروسية"، لا يبدو ذلك يسيراً بالإشارة إلى المخاطر التي يستبطنها. فالرأي الغالب اليوم في الصحافة الألمانية يشير دائماً إلى مخاطر غرق اقتصاد البلاد في أزمةٍ خطرة فيما لو توقف الغاز الروسي. فواردات الغاز الروسية وصلت العام الماضي إلى 55% من مجمل واردات الغاز إلى ألمانيا، مع أنها تتقلّص الآن مع خفض روسيا صادراتها من الغاز إلى أوروبا من جهة، ومع محاولة الدول الأوروبية تنويع مصادرها من جهةٍ ثانية. وبينما تهدف ألمانيا إلى خفض اعتمادها على الغاز الروسي إلى 30% مع نهاية 2022، فإن البدائل كالغاز الطبيعي المسال تبقى غير كافيةٍ، وهي تحتاج إلى وقتٍ طويل حتى يمكن الحديث عن تعويض معتبر من الغاز الروسي. لكن ليس الغاز وحده ما يقلق ألمانيا، فهي تستورد أيضاً كميات كبيرة من الكروم والنيكل والبلاديوم من روسيا. وإضافة إلى أجواء القلق التي تحوم حول الواردات من روسيا، فإن السماء تمطر أزماتٍ أخرى مع خروج العالم من براثن الجائحة منهكاً، حيث تضرّرت سلاسل التوريد العالمية، وأصبحت أشباه الموصلات نادرة في جميع أنحاء العالم.

وتدرك برلين ومعها بروكسل أن إمكانية تحوّل الغاز إلى سلاح مباشر في المعركة الدائرة، سيوقف إلى حدٍ كبير الزخم الرئيس الدافع للاقتصاد الأوروبي، والمتمثّل في قدرات الاقتصاد الألماني. واعتماد هذا الأخير ليس مرهوناً بموقفٍ سياسيٍ يمكن تغييره بسرعة، ولا بتفاصيل تقنية يمكن إيجاد حلول لها من خلال التعاون الدولي، بل يتعلق بغياب البدائل المجدية من جهة، وبارتباط الألمان بعقودٍ طويلة الأجل لدفع ثمن الغاز الروسي حتى لو توقفوا عن شرائه. وتضمّ هذه العقود بنود "التسلّم والدفع" التي تفرض أخذ حد أدنى من الغاز، وإذا لم يجرِ أخذ تلك الكمية، فعلى المشتري (ألمانيا) دفع ثمن ذلك الغاز حتى لو لم تشتره.

وفي فرنسا أيضاً المشهد مشابه، حيث أعلن رئيسها إيمانويل ماكرون دخول البلاد في اقتصاد الحرب، وسبق ذلك إعلانه ما سماه "تعزيز القدرة على الصمود في مجالي الغذاء والزراعة" من أجل الأمن الغذائي في أكثر البلدان ضعفًا، بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي ومجموعة الدول السبع والاتحاد الأفريقي، سعيًا لضمان حصول الجميع على المواد الغذائية.

ويتطلب "اقتصاد الحرب"، وفق الرئيس الفرنسي إعادة تنظيم القطاع الصناعي أكثر مما يدفع نحو "ثورة مالية"، حيث لم يعد بإمكان البلاد "التعامل بالقواعد نفسها كما كانت الحال عليه قبل سنة، لذلك يجب تكييف الوسائل مع التهديدات".

ومع الاحتياجات العسكرية المتزايدة التي تفرضها بيئة الحرب في أوروبا، ويفرضها أيضاً مفهوم اقتصاد الحرب، فإن فرنسا تقف اليوم أمام ضرورات زيادة الإنفاق العسكري، وفي ظل معاناة اقتصادية متزايدة، وهما أمران عادةً ما يكونان متناقضين. فالإنفاق العسكري يثقل كاهل الموازنات، التي تحتاج إلى عائدات نمو إضافية لتعزيز قدرتها على تأمين هذه الزيادات العسكرية، في الوقت الذي تتراجع فيه المؤشّرات الاقتصادية. وكانت باريس قد وضعت هدفاً لرفع ميزانيتها العسكرية إلى نحو 50 مليار يورو بحلول عام 2025، بحسب قانون البرمجة العسكرية الجديد، الذي يفرض زيادة سنوية بنحو 3 مليار يورو على ميزانية وزارة الدفاع، وهي زيادة تمثّل عبئاً إضافياً على الموازنة العامة، في ظل الظروف الحالية السيئة. هذه الزيادات المتوقعة، التي تعد انقلاباً على سياسات التقشف في الشؤون العسكرية، تتماثل بين فرنسا وألمانيا، التي زادت ميزانيتها العسكرية بمقدار 115 مليار يورو بعد اندلاع المواجهة في أوكرانيا، ما يغذي أجواء العسكرة بجرعةٍ طال انتظارها، وهي جرعةٌ مسحوبةٌ من حساب سياسات الرفاه الاجتماعي التي سعت هذه الدول لتحقيقها في السنوات الماضية.

في الحصيلة، تقف برلين وباريس في موقفٍ صعب اليوم، إذ لا تستطيعان التخلي واقعاً عن المظلة الأمنية الإستراتيجية التي يمثّلها التحالف العابر للأطلسي مع الولايات المتحدة من جهة، ولا يمكنهما تجاهل المصالح الاقتصادية الكبرى مع روسيا والحاجة إليها من جهةٍ ثانية، إضافة إلى ناحيةٍ ثالثة غير منظورة، لكنها شديدة الأهمية، وهي أنهما تدركان التغيرات الكبرى التي يشهدها النظام العالمي، وتعلمان أيضاً أن هذه التغيرات تسير في بيئةٍ فوضوية، مع ما يعنيه ذلك من عدم يقين الولايات المتحدة لشكل ومواقع القوى الكبرى في النظام العالمي المستقبلي، وهما تعرفان أن واشنطن لا تريد سوى الحفاظ على مكانتها المتقدمة بين القوى الكبرى، ولا تسامح كثيراً النزعات السيادية اللائحة بين الفينة والأخرى من تصريحات المستشارية الألمانية وقصر الإيليزيه، وهما أيضاً تريدان البحث عن مكانيهما في العالم الجديد، من دون الاضطرار إلى القتال.

لا تزال أهمّ دولتين أوروبيتين مترددتين، لكنهما على الأقل تحافظان على خط الرجعة مع موسكو من خلال عقلانية مقبولة، عبّر عنها تصريح ماكرون المتعلق بـ"عدم إذلال روسيا"، وترك الفرصة سانحةً للحديث إليها.

 

حلف الناتو يحاول التمدد باتجاه الشرق قرب حدود روسيا، عن طريق ضم أوكرانيا، وروسيا الاتحادية ترفض ذلك وتطالب بضمانات أمنية، فتعترف بجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك، وتطلق عملية عسكرية في إقليم دونباس، بسبب قصف القوات الأوكرانية المتكرر على الإقليم.