أهداف توسيع التعاون العسكري بين الهند وروسيا وآفاقه
على الرغم من استمرارية العلاقات العسكرية بين روسيا والهند، فإنَّ نيودلهي استشعرت منذ عام 2014 ضرورة العمل على تنويع مصادر تسلّحها.
-
أهداف توسيع التعاون العسكري بين الهند وروسيا وآفاقه
عكفت الهند منذ بداية العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا مطلع العام الماضي على دراسة كيفية تعاملها مع التداعيات الآنية والمستقبلية لهذه العملية على المستويين السياسي والإستراتيجي، وخصوصاً في ما يتعلق بمستقبل علاقاتها بكل من موسكو وبكين وواشنطن.
بالنسبة إلى نيودلهي، كانت الضغوط الدولية -والأميركية تحديداً- عليها في ما يتعلق بموقفها من العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا من أهم الملفات التي كانت الحاجة ماسة إلى معالجتها خلال الأشهر الماضية، نظراً إلى أهمية العلاقات مع روسيا بالنسبة إلى الهند، ورغبة الأخيرة في الوقت نفسه في الحفاظ على هامش جيد من العلاقات المستقرة مع واشنطن، مع النظر بشكل مستمر إلى معدلات تطور العلاقات بين بكين وموسكو، في ظل الأوضاع المستجدة في الساحة الدولية والتوتر المتزايد في العلاقة بين بكين ونيودلهي خلال السنوات الأخيرة.
الموقف الهندي من العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا كان بشكل عام في مصلحة الجانب الروسي، وأشبه إلى حد بعيد -للمفارقة- بالموقف الصيني منها، إذ تجنبت نيودلهي التنديد "علناً" بها، رغم ما بدا أنه "إشارة" هندية سلبية حيالها، حين ألغى رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي قمته التي كانت مقررة مع الرئيس الروسي العام الماضي، والتي كانت على مدار العقود الماضية بمنزلة تقليد سنوي تحرص الهند عليه.
يُضاف إلى ذلك قيام مودي أواخر العام الماضي، خلال قمة منظمة "شنغهاي" للتعاون التي عُقدت في جمهورية أوزبكستان، بتوجيه ما يشبه "انتقاداً علنياً" إلى العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، حين قال موجهاً حديثه إلى الرئيس الروسي: "عصر اليوم ليس حقبة حرب. وقد تحدثت إليكم عبر الهاتف عن هذا الأمر".
إصرار هندي على استمرارية العلاقة بموسكو
رغم هذا التلميح، فإنَّ نيودلهي قامت -على عكس دول أخرى- بالامتناع عن التصويت في الأمم المتحدة على أي قرار يدين العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وشرعت في تعزيز علاقاتها الاقتصادية والعسكرية مع موسكو خلال العام المنصرم، وخصوصاً في ما يتعلق بواردات الهند من النفط الخام الروسي.
وقد كانت نسبة هذه الواردات من إجمالي ما تستورده الهند من النفط عام 2021 لا تتعدى 2%، بواقع قيمته 0.94 مليار دولار من النفط، لكن هذه النسبة وصلت بين نيسان/أبريل وكانون الأول/ديسمبر 2022 إلى نحو 17% من واردات الهند النفطية أو ما قيمته 21.7 مليار دولار من النفط، لتصبح بذلك الهند من أكبر مستوردي النفط الروسي على مستوى العالم.
هنا، لا بد من الإشارة إلى أن هذا التحول في واردات النفط الهندية ربما لا يرتبط بشكل أساسي بطبيعة العلاقات الهندية الروسية بقدر ما يرتبط بالإستراتيجية الهندية الخاصة بالطاقة، نظراً إلى أن نيودلهي تستورد عملياً ما يصل إلى 85% من احتياجاتها النفطية من الخارج، وبالتالي يبدو من الضروري ضمان تدفق دائم للواردات النفطية.
في الوقت نفسه، جعلت الهند ورقة النفط بمنزلة مرتكز أساسي في علاقاتها بموسكو يسمح بخلق حالة من التوازن -النسبي- بين مستوى العلاقات الهندية - الروسية من جهة، ومستوى العلاقات الروسية - الصينية من جهة أخرى.
بطبيعة الحال، وجدت الهند نفسها أمام ضغوط غربية عديدة لإيقاف عمليات شراء النفط من روسيا أو تحجيمها -وخصوصاً بعد أن توصل كلا البلدين إلى صيغة للتبادل التجاري بالعملات المحلية- لكن كان واضحاً حرص نيودلهي على تطوير علاقاتها بموسكو من باب "المصالح الوطنية الهندية العليا".
لذا، عززت نيودلهي تبادلها التجاري مع موسكو، وكان أهم جانب في ما يتعلق بالعلاقات بين الجانبين يرتبط بالتعاون العسكري الذي يعد من أبرز أوجه التعاون بين الجانبين. وقد أعلنت الحكومة الهندية في نيسان/أبريل الماضي أنها اتفقت مع روسيا على تعزيز شراكتهما العسكرية، وذلك خلال المحادثات التي تمت بين وزيري دفاع كلا البلدين على هامش اجتماع وزراء دفاع منظمة "شنغهاي" للتعاون.
هذا الأمر تبعته عدة إجراءات لافتة، كان من بينها اتفاق كلا الجانبين على حل نهائي لمعضلة المدفوعات المتأخرة المتعلقة بعقود الدفاع، إذ توقفت نيودلهي منذ نيسان/أبريل 2019 -نتيجة للظروف الاقتصادية التي تعانيها- عن سداد الأقساط والمستحقات المترتبة على عقود التسليح المبرمة مع موسكو، ما أدى إلى تراكم مبالغ تصل إلى 3 مليارات دولار، لكنْ توصّل الجانبان إلى صيغة يمكن من خلالها لنيودلهي تسديد المبالغ المتأخرة بالعملة المحلية، وذلك عبر نظام روسي بديل لنظام التحويلات المالية الدولي "سويفت".
علاقات تسليحية واسعة النطاق بين نيودلهي وموسكو
تاريخياً، كان التعاون الدفاعي بين نيودلهي والاتحاد السوفياتي متسماً بالحذر في مرحلة ستينيات القرن الماضي، لكنه بدأ بالتصاعد بشكل متسارع مطلع سبعينيات القرن الماضي، نتيجة للدعم الأميركي الكبير للطرف المناوئ للهند -باكستان- وهو ما سمح للجيش الهندي بالحصول على طائفة واسعة من المعدات العسكرية السوفياتية، وخصوصاً أن موسكو قدمت تسهيلات مالية كبيرة للهند في ما يخص الصفقات التسليحية التي وقعتها معها، والتي بلغت قيمتها الإجمالية بين عامي 1960 و1990 نحو 35 مليار دولار.
وقد استمر هذا التعاون بشكل كبير خلال مرحلة ما بعد الحرب الباردة لأسباب عدة، أهمها محدودية الميزانية العسكرية الهندية خلال التسعينيات، التي دفعت نيودلهي إلى تفضيل استمرار الاعتماد على الأسلحة الروسية وعدم إحداث تغييرات رئيسية في مصادر التسليح، وخصوصاً أن موسكو كانت حريصة بشكل دائم على تسهيل الإجراءات والتفاصيل المالية الخاصة بالصفقات التسليحية التي تبرمها الهند مع الشركات الروسية، وتحسين بنود هذه الصفقات لتشمل التصنيع المشترك وعمليات نقل تكنولوجيا التصنيع، علماً أن روسيا استحوذت بين عامي 2000 و2020 على نحو 66.5% من واردات الهند من الأسلحة. وقد تجاوزت قيمة الصفقات العسكرية بين الهند وروسيا 15 مليار دولار خلال تلك الفترة.
في نظرة فاحصة إلى تسليح الجيش الهندي، نجد أنَّ نسبة الأسلحة السوفياتية والروسية الصنع فيه تبدو طاغية، وخصوصاً على مستوى القوات المدرعة وقوات الدفاع الجوي، إذ تعتمد الكتائب المدرعة الهندية بشكل أساسي على الدبابات السوفياتية "تي-72" والدبابات الروسية الحديثة "تي-90" التي يتم جمعها في الهند بموجب ترخيص من موسكو.
ووفقاً لبيانات المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية "IISS"، فإن أكثر من 90% من المركبات المدرعة للجيش الهندي، و69% من الطائرات والمروحيات المقاتلة التي تخدم في القوات الجوية والبحرية الهندية، و44% من الغواصات والسفن الحربية العاملة في البحرية الهندية -بما في ذلك حاملة الطائرات الهندية الوحيدة- جميعها من أصول سوفياتية أو روسية.
التعاون بين الجانبين في المجال العسكري انتقل خلال السنوات الأخيرة من خانة الصفقات العسكرية إلى خانة البحوث العسكرية المشتركة والإنتاج المشترك ونقل تكنولوجيا التصنيع، ما يشمل عمليات الجمع والإنتاج المرخصة من روسيا في الأراضي الهندية لدبابات "تي-90"، ومقاتلات "سوخوي-30"، و"ميغ-29"، ومروحيات "كاموف-30"، وصولاً إلى المشاريع الصاروخية المشتركة، وعلى رأسها صاروخ "براهموس" الجوال، الذي يشترك كلا البلدين في تطويره وتصنيعه، إلى جانب خط إنتاج بندقيات "إيه كيه-203" الروسية الهجومية الذي تم الاتفاق عليه عام 2021، ناهيك بتقديم موسكو خدمات دعم فني ساعدت البحرية الهندية في تطوير أول غواصة نووية محلية الصنع.
الهند تنوّع مصادر تسلّحها وتطوّر التصنيع المحلي
لكن على الرغم من استمرارية العلاقات العسكرية بين الجانبين، فإنَّ نيودلهي استشعرت منذ عام 2014 -بعد استعادة روسيا شبه جزيرة القرم- ضرورة العمل على تنويع مصادر تسلحها، وكذلك تطوير صناعتها العسكرية المحلية، سواء الجانب المتعلق بصيانة الأسلحة والمنظومات القتالية الموجودة في الخدمة أو تطوير أنواع جديدة من المنظومات الهجومية والدفاعية.
لتحقيق هذه الأهداف، تحركت الهند بشكل تدريجي عبر عدة مراحل؛ ففي عام 2017، أعدت وزارة الدفاع الهندية نموذجاً للشراكة الإستراتيجية يهدف إلى إشراك شركات عسكرية خاصة في عمليات التطوير والتصنيع المحلي للمنظومات العسكرية المتطورة، مثل الغواصات والطائرات المقاتلة، بهدف تأسيس قاعدة مستدامة للصناعات العسكرية الهندية.
خلال هذه المرحلة، بدأت الحكومة الهندية بعقد صفقات تسليحية مع دول متنوعة، من بينها فرنسا وكوريا الجنوبية وإسبانيا و"إسرائيل" والولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة وإيطاليا، ما ساهم في خفض اعتماد الهند على الأسلحة الروسية، لتصبح حصة موسكو من صفقات الأسلحة الهندية بين عامي 2017 و2021 نحو 46%، بانخفاض قدره 23% عن النسب التي تم تحقيقها سابقاً.
كانت الخطوة الثانية في هذا الإطار عبر إعلان الحكومة الهندية عام 2020 خطة لتعظيم الإنتاج المحلي للأسلحة تتضمن إعداد 3 قوائم لحظر استيراد أنواع معينة من الأسلحة والمنظومات القتالية، بحيث يتم إجبار المؤسسة العسكرية على التزود بما يتم إنتاجه محلياً من هذه المنظومات، وبالتالي تقليل اعتماد الهند على مشتريات الأسلحة الأجنبية.
تستهدف هذه الخطة الوصول إلى حجم إنتاج محلي قيمته 22 مليار دولار من الأسلحة بحلول عام 2025، في مقابل 12 مليار دولار فقط هي قيمة ما تم إنتاجه من أسلحة وذخائر عام 2022، وتستهدف أيضاً الوصول إلى حجم استثمار أجنبي مباشر في قطاع الدفاع الهندي تبلغ قيمته 10 مليارات دولار بحلول عام 2025، في مقابل حجم استثمار أجنبي في القطاع الدفاعي الهندي بلغت قيمته 380 مليون دولار فقط عام 2020.
وقد بدأت بعض هذه الجهود تؤتي ثمارها في الآونة الأخيرة، وخصوصاً على مستوى التصنيع العسكري المحلي؛ ففي نيسان/أبريل 2022، اختبرت الهند بنجاح أول ذخيرة جوالة مصممة محلياً بالكامل، وتمكّنت من تنفيذ أول عملية إقلاع وهبوط ناجحة للمقاتلة الهندية محلية الصنع "تيجاس" عن متن أول حاملة طائرات هندية محلية الصنع.
حقيقة الأمر أنَّ خطّة الهند الطموحة الرامية إلى تنويع مصادر أسلحتها وتنمية التصنيع العسكري المحلي أثبتت وجاهتها بعدما تأثرت الصفقات العسكرية بينها وبين موسكو بالعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.
وقد تعثرت عمليات توريد المحركات التوربينية الغازية الخاصة بفرقاطات من فئة "تالوار" التي تنتجها الهند -وهي محركات من تطوير شركات أوكرانية- ناهيك بتأجيل التفاوض مع موسكو على صفقات عسكرية كان الجانبان يعتزمان على التفاوض حولها، مثل التفاوض على مروحيات النقل المتعددة الأغراض "مي-17"، ومروحيات الإنذار المبكر "كا-31"، وكذا التأثيرات المتوقعة للقتال في أوكرانيا في إمكانية تلبية موسكو الطلبات الهندية المتعلقة بالذخائر الخفيفة والمتوسطة.
والجدير بالذكر هنا أن تداعيات القتال في أوكرانيا تسبَّبت أيضاً بتأخير عمليات تسليم الدفعة الثالثة من مكونات صفقة منظومات الدفاع الجوي الروسية "أس-400" التي وقعها الجانبان عام 2018، إذ كان من المقرر أن تتسلم هذه الدفعة العام الماضي، لكن تأخر التسليم إلى الشهر الجاري.
مما سبق، تتضح أهمية العلاقات العسكرية بين الهند وروسيا، وخصوصاً على المستوى التسليحي، لكن هذه الأهمية لم تمنع كلاً من نيودلهي وواشنطن من نسج علاقات عسكرية متميزة تغاضت فيها واشنطن عن العلاقات العسكرية النوعية بين الهند وموسكو.
بلغت قيمة الصفقات العسكرية بين الهند والولايات المتحدة الأميركية بين عامي 2000 و2018 نحو 17 مليار دولار، بما في ذلك طائرات النقل والطائرات المضادة للغواصات والمروحيات الهجومية والمدافع الثقيلة.
النظرة الأميركية إلى الهند في هذا الإطار تبدو مهمة، إذ تعتبرها بمنزلة نقطة ارتكاز أساسية في تحالف "كواد" الدفاعي، وهو ما يمكن من خلاله النظر في استثناء واشنطن الهند من العقوبات التي يفرضها قانون "كاتسا" على الدول التي تتعاون تسليحياً مع روسيا، وهو ما استفادت منه نيودلهي بشكل كبير، فقد أصبحت فعلياً في طور تحول كبير على المستوى العسكري، تجمع فيه بين التنوع الكبير في مصادر التسليح والتطوير المطرد في قاعدتها الصناعية العسكرية، وهو ما يمكن أن ينسب فيه جانب كبير من الفضل إلى العلاقات العسكرية بينها وبين موسكو، التي يرجح - رغم كل التحديات الحالية - أن تستمر بقوة خلال المدى المنظور.