اختراع الحقيقة.. الدولة والأمة والطبقة (1)
اكتشاف الحقائق من أسفل كانت المهمة المفترضة للمادية التاريخية، لأنّه لا يمكن الحديث عن فكر خارج إطاره المادي إلا إن كان زائفاً.
-
اختراع الحقيقة.. الدولة والأمة والطبقة (1)
من أين يأتي المفهوم الغريب للجرائم التي لا يُعاقب القانون عليها؟ ولماذا لا نعلن أنّ كل جريمة يمكن ملاحظتها تستحقّ العقوبة؟ تتساءل الفيلسوفة الفرنسية سيمون فايل.
لا تدين فايل هذا التحيّز في انتقاء جرائم دون غيرها لتصبح موضع حكم وإدانة، إلا لتكشف عن أحد "أبشع التشويهات في روح القانون"، أي عجزه عن حماية العقول من تشويه روح الحقيقة.
تجادل فايل في كتابها "التجذر"، الذي ألّفته قبيل وفاتها عام 1943، أنّ الحقيقة في موقف هشّ، والقدرة على اختبارها ليست متوفرة لأيٍّ كان. هناك أناس يعملون 8 ساعات يومياً، ويبذلون جهداً كبيراً في القراءة عند المساء من أجل تثقيف أنفسهم، فلا يستطيعون أن ينصرفوا إلى التحقّق مما قرأوه في كبرى المكتبات (كانت فايل ستقول الأمر نفسه في زمن الإنترنت)، وبالتالي يصدقون ما جاء في الكتاب من دون تأكد، في وقت لا يعمل الكتّاب 8 ساعات، وينالون ما يقدمه لهم المجتمع (منح جامعية، بعثات علمية، ضمان اجتماعي) لكي يكون لهم متسعٌ من الوقت ويعملوا جاهدين لتجنّب الخطأ.
لماذا لا يُحاكم هؤلاء الكتاب الذين يهينون الحقيقة ويتسبّبون بزيادة مآسي البشر، فيما قد يحاكم عامل أدى إلى خروج قطار عن سكّته؟ لماذا يُعفى عن الكتّاب عند خيانتهم الحقيقة، ولا يُعفى عن العمّال عند انتهاكهم تدابير السلامة؟
ليس الخطأ ما يقلق هذه الفيلسوفة المتصوفة، فتاريخ العلم ليس إلا تاريخ أخطاء العلم، كما يقول مواطنها غاستون باشلار، إنما هو ذلك الخلط المريب بين الحقيقة والفرية، وتحويل العقول إلى أسواقٍ لسلع الجهل المغلّفة بادعاءات الحقيقة.
الاعتراف بضآلة الجنس البشري أمام الحقائق قديم جداً، والإحساس بالعجز عن الإحاطة بأطراف المعارف متأصل قدر تأصّل شعورنا بمحدوديتنا في الزمان والمكان، وإقرار كبار عقول جنسنا بالوهن لا يزال يتوالى منذ أن أعلنها سقراط للمرة الأولى بأنّ كلّ ما يعرفه هو أنّه لا يعرف، لكن على هامش هذا الجهل الواسع أخذت تنمو مجموعة من المعارف الزائفة. آلات الجهل تتحرَّك بأتراس عملاقة. الجهل أكثر من أيٍّ عهد بشري مضى هو صناعة صاخبة لا تهدأ.
الجوع لا يقبل التزوير
عام 1971، كان مؤرخ العلوم الأميركي لوران غراهم في موسكو يتابع أبحاثه بشأن تاريخ العلم في روسيا. هناك، ومن قبيل الصدفة، جلس إلى طاولة في غرفة الطعام الفخمة في الأكاديمية الروسية للعلوم إلى جانب شخصية مفتاحية في تاريخ العلم في الحقبة الستالينة هي تروفيم ليسينكو.
طلب غراهم طعامه، وجلس يأكل بهدوء متطلعاً إلى فرصة لبدء حوار مع ليسينكو، سجّله في كتاب بعد ذلك بعقود (شبح ليسينكو: علم التخلق وروسيا). "أخطأت في فهمي"، قال ليسينكو الَّذي تعرّف إلى غراهم واطلع على أعماله، قبل أن يردف: "تعتقد أنَّني جزء من الجزء القمعي السوفياتي، إلا أنني كنت دائماً دخيلاً".
كان ليسينكو الذي بلغ مشروعه نهايته في ذلك الحين يحاول الدفاع عن نفسه ضد التّهم التي طالته، بدءاً من التسبّب بقتل عدد من البشر يفوق ما تسبب به أيّ عالم آخر طوال التاريخ وتجويعهم جراء أبحاثه العلمية المزيفة، وصولاً إلى اتهامه بإقصاء علماء الأحياء المعارضين لأفكاره وتقديم الذرائع للنظام السوفياتي لسجنهم أو نفيهم.
ولد تروفيم ليسينكو في أوكرانيا عام 1898 لعائلة فقيرة تعمل بالفلاحة. لهذا، لم يبدأ بالتعلّم إلا في سنٍ متأخرة، أي حين بلغ 13 عاماً. آمن ليسينكو بالشيوعية ووعودها أكثر من أي أمر آخر. ولهذا، اتّصلت أبحاثه بمسألة في صلب انشغال قادة الاتحاد السوفياتي آنذاك؛ إطعام الشَّعب الجائع من خلال تأصيل الذرة لمواجهة الشتاء الروسي القارس.
وكما يوضح سام كين في مقاله عن ازدهار شعبية ليسينكو في روسيا، فإنّ ليسينكو بلغ قمة المجتمع العلمي السوفياتي بسرعة. وعلى الرغم من إدارته تجارب سيئة التصميم واحتمال تزويره بعض النتائج، فإنّه فاز في الثناء في الصحيفة الحكومية عام 1927 (أي قبل سنوات قليلة من المجاعة التي قضت على الملايين في الاتحاد)، ونال لقب "العالم الحافي القدمي"، نظراً إلى أصله المتواضع الذي يمنحه قيمة مضاعفة في نظام يقدّر مثل هذه الرمزية.
اختار المسؤولون ليسينكو ليكون مسؤولاً عن الزراعة السوفياتية في ثلاثينيات القرن الماضي. شكّلت أفكاره المناقضة للوراثة المندلية (mendelian inheritance) مرقاة ليصبح رأساً من رؤوس النخبة العلمية السوفياتية وجحيماً حقيقياً للعلماء غير المتحيزين وللشّعب معاً. اعتقد ليسينكو على طريقة لامارك أنّ البيئة هي التي تشكّل النباتات والحيوانات، وأنّ بالإمكان إعادة تشكيلها بشكل لا نهائي من خلال تعريضها لبيئات مختلفة.
هذه الفكرة لا تخالف علم الوراثة فقط، بل تخالف الداروينية كذلك، كما يشرح غراهم. لماذا تمتلك الزرافات رقاباً طويلة؟ هناك تفسيران يقول غراهم. الأول يُدعى "اللاماركية"، يرى أنّ الزرافات تمدّ أعناقها لتبلغ أوراق الأشجار العالية وثمارها. هذا العنق الممطوط في الزرافة الواحدة يجري توريثه، وهكذا يصبح للزرافات أعناق أطول فأطول.
في المقابل، خلص داروين إلى أنّ الزرافات كانت تمتلك أحجام أعناق متباينة، لكن وحدها الزرافات التي تمتلك أعناقاً طويلة نجحت في البقاء أكثر من الأخريات، وهكذا يجري توريث الأعناق الطويلة. وبالتالي، فإنّه مهما يحصل في حياة الزرافة الواحدة، فإنّ ذلك لا يورّث.
تبنّى ليسينكو التفسير الأول. لهذا، فقد أخذ "يعلّم" المحاصيل السوفياتية لتنبت بشكل جيد في الشتاء، مدعياً أنّ الأجيال "المدربة" ستورّث خصائص التكيّف مع البرد للأجيال اللاحقة. كانت هذه الفكرة أشد توافقاً مع الأيديولوجيا الشيوعية التي تضعها الدولة فوق أيّ مبدأ آخر، فالوراثة المندلية المستحدثة متبناة من قبل البرجوازية الغربية، وهي أبعد ما تكون عن مقولات ليسينكو التي تلمح إلى إمكانية تثوير الواقع من خلال تغيير الظروف الخارجية.
قوة الطبيعة خارج الحتمية الجينية وأقرب إلى "تطلعات الإنسان". كان العلماء الغربيين، في نظر ليسينكو، "عشاق ذباب وكارهي الناس" (في إشارة إلى أبحاثهم المكثفة على ذباب الفاكهة)، فيما كان هو، من وجهة نظره، التعبير العلمي عن المسألة الاشتراكية المعنية بحياة الإنسان قبل أي شيء آخر.
عام 1948، أصبحت أبحاث ليسينكو بمنزلة قانون. خرج البحث من دائرة الشكّ والاختبار بإمضاء من جوزيف ستالين، لتصبح نتائجه "رسمية" في الاتحاد السوفياتي، ولترفع صور "العالم الحافي" في المعاهد العلميّة، ولتجد أفكاره طريقها إلى الكتب المدرسية والجامعية. مرعياً من قبل منظومة سياسية كاملة في حقبتي ستالين وخروتشوف، ومحميةً أفكاره من معارضيه العلميين الذي تعرّض بعضهم للسجن أو النفي، أصبح ليسينكو أكثر من "رجل مختبر" فقط. أصبح رمزاً فوق المساءلة.
الطبيعة لا تشتغل بمتطلبات الدولة وأيديولوجيا الطبقة الحاكمة. لذلك، جاءت تطبيقات نتائج ليسينكو في الزراعة كارثية، إذ فشلت في زيادة الإنتاجية الزراعية، ما ساهم في خسارة الملايين من سكان الاتحاد السوفياتي حياتهم في المجاعة بين عامي 1946 – 1947.
بدءاً من العلماء العاملين في جوقة تشويه قدرات المستعمَرين الجسدية والعقلية، وليس انتهاءً بناكري التغير المناخي، يظهر التداخل بين العلم والسياسة. ليسينكو ليس إلا مثلاً فاقعاً يمكن العثور على العشرات أمثاله في تاريخ الغزو الأوروبي "للشعوب الدنيا"، لكنه المثل الذي يظهر بأشد الوضوح كم أنّ العلم معرض لأن يصبح مقولة أيديولوجية تأتي شرعيته من توفيقات السلطة الحاكمة، ليخرج من إطار الكشف إلى إطار الصنعة.
المعرفة كهيمنة
تحتاج السّلطة عموماً إلى ما يبررها. سواء أكانت دولة قومية أم إمبراطورية أم مجرد سلطة طبقة مهيمنة أم سلطة قائمة على الجنس، تؤدي الهيمنة الثقافية دوراً مهماً لإضفاء الشرعية.
في هجومه على الفلسفة المثالية الألمانية، وتفسيره علاقة الأفكار بالواقع، يقول ماركس: "حتى الأشباح في العقل البشري هي تصعيدات ناتجة بالضرورة من تطور حياتهم المادية التي يمكن التحقق منها تجريبياً، والتي تعتمد على قواعد مادية. (...) البشر إذ يطورون إنتاجهم المادي وعلاقتهم المادية فهم الذين يحولون فكرهم ومنتجات فكرهم على السواء مع هذا الواقع الذي هو خاصتهم، فليس الوعي هو الذي يعين الحياة، بل الحياة هي التي تعيّن الوعي".
اكتشاف الحقائق من أسفل كانت المهمة المفترضة للمادية التاريخية، لأنّه لا يمكن الحديث عن فكر خارج إطاره المادي إلا إن كان زائفاً. هذا الفكر تحديداً هو الذي سمح بالانفصال التاريخي بين طبقتين: المستغَلين والمستغِلين. واحدة من عوامل استمرار الاستغلال هي "الوعي الزائف" الراسخ لدى الطبقة الدنيا (ماركس لم يستعمل هذا المصطلح، لكن كتاباته عبّرت عنه)، أي الوعي المشوه للطبقة العاملة بنفسها، وبأنّها تشكل كلاً مستغلاً من مالكي أدوات الإنتاج. تلاشي هذا الوعي وولادة وعي طبقي جديد بالحقائق التاريخية هو وحده ما يسمح بتوحيد المستغَلين وتزخيم صراعهم في مواجهة الطبقة البرجوازية المتخفية وراء القناع السميك للأيديولوجيا والأفكار المثالية.
إنتاج الحقيقة أو اختراعها ليس عملية واعية بالضرورة، وهو ليس فعلاً سلبياً دائماً، إذ إنّها في بعض الأحيان تقع في ما وراء الخير والشر. يضع أستاذ الدراسات الدولية بنديكت أندرسون في كتابه "الجماعات المتخيلة" مسألة نشوء الدولة القومية موضع التساؤل، مستبعداً النظريات التي تتعامل مع القومية كإثنية محدثة أو أيديولوجيا برجوازية أو تلك التي تقول إنّ القومية مجرد مرض من أمراض التطور التاريخي، ليقول إنّ القومية هي جماعة متخيّلة محدّدة وسيّدة.
لا يعني وصف الجماعة بالمتخيّلة أنّها غير واقعية، ولا أساس موضوعياً لها، إذ إنّ ما تتخيله هذه الجماعة بشأن تكوينها وحدودها مستمد من عناصر حقيقية وقائمة. إنّ كونها متخيلة، يقول أندرسون، يعني أنّ صورة هذه الجماعة موجودة عند أي من أفرادها من دون أن يتمكن قط من التعرّف إلى معظم نظرائه أو حتى السماع بهم.
يعالج أندرسون مسألة صعود القومية في أوروبا، ثم في جنوب شرق آسيا، ويبيّن الظروف التاريخية التي أسهمت في ذلك، بدءاً من السياسات اللغوية التي اعتمدتها الدول الناشئة لإقامة تمايز لغوي يقطع مع اللغات المقدّسة كاللاتينية من جهة، ومع الجماعات الأخرى من جهة ثانية، وهذا ما تعزز من خلال رأسمالية الطباعة ودنيوة الكتاب، إلى تراجع حكم السلالات المستمرة من النسب والمصاهرة، وليس انتهاءً بنشوء مفهوم جديد للزمن فارغ ومتجانس ودنيوي (تعبر عنه الروزنامة، والصحيفة، والرواية)، بما في ذلك تصوير الواقع المخيّل فيه بصرياً وسمعياً.
أتاح هذا التخيّل/الاختراع بناء دول على أسس جديدة، وأدى إلى تشكّل الجماعات على مبادئ أخرى غير تلك التي كانت سائدة في الملكيات، ما يجعلها قوة دفع تاريخي جديدة. هذا الانطلاق التاريخي أدى في جملة ما أدى إليه إلى محو التمايزات وانعدام المساواة والاستغلال السائد، وفق تعبير أندرسون، لمصلحة التخيلات التي تتمثل فيها الأمة بصورة العلاقات "الرفاقية الأفقية العميقة"، الأمر الذي "مكّن ملايين كثيرة من البشر خلال القرنين الماضيين من أن تقتل، ومن أن تموت راضيةً أيضاً في سبيل هذه التخيلات المحدّدة".
تتولى السّلطة بتمثلاتها المختلفة إدارة مسألة الحقيقة. هذه الإدارة قد لا تقضي بتزييف نتائج الأبحاث، كما فعل ليسينكو والسوفيات، في تعدٍ مفضوحٍ و"ساذجٍ"، ولا صناعة الجهل بصورة متعمدة، فالسلطة بطبيعتها لا تُنتج إلا معرفةً مشوّهة تناسب حلمها في الاستمرار الأبدي.