"التغريب في تركيا".. من سقوط الإنكشارية إلى صعود فاغنر!
التغريب يُعرّف بكونه تياراً فكرياً بأبعاد سياسية واجتماعية وثقافية، هدفه صبغ حياة الأمم بأسلوب الغرب لفرض التبعية الكاملة للحضارة الغربية.. ندرس أثره في تركيا خلال مرحلة الجمهورية وما بعدها، وما ورثته عن السلطنة العثمانية في هذا الشأن قبل ذلك.
-
"التغريب في تركيا".. من سقوط الإنكشارية إلى صعود فاغنر!
في 25 تموز/يوليو 2012، تحدث الرئيس التركي خلال لقاءٍ تلفزيوني عن "مزحة" بينه وبين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. قال إردوغان إن بوتين سأله ممازحاً: "ماذا تفعلون في الاتحاد الأوروبي أو ما الذي تريدونه من الاتحاد الأوروبي؟"، فأجابه ممازحاً أيضاً: "أدخلونا منظمة شنغهاي وسنراجع انضمامنا إلى الاتحاد الأوروبي".
هذه "المزحة" تحولت إلى واقعٍ في السنوات اللاحقة، بعد حصول تركيا على "شريكة حوار" في المنظمة. وبينما يتحدث إردوغان عن سعي بلاده لنيل عضوية المنظمة التي تضم روسيا والصين والهند وباكستان وإيران وقرغيزستان وطاجيكستان وكازاخستان وأوزبكستان، فإن دبلوماسياً روسياً حذّر من أن الطريق قد لا يكون سلساً بسبب عضوية تركيا في حلف الناتو.
وقال بختيار خاكيموف، المبعوث الخاص لمنظمة شنغهاي للتعاون، للرئيس بوتين: "المعايير تشمل عدم كونك جزءاً من الكتل المعادية أو الموجهة ضد أعضاء منظمة شنغهاي للتعاون... تركيا عضو في الناتو الذي أعلن أن روسيا ليست خصماً له فحسب، بل هي العدو رقم 1 أيضاً".
هذا الطرح يشير إلى حقبة باتت فيها أنقرة ملزمة بسياسات أكثر وضوحاً في ظل تحولات وانقسامات دولية تضع مسألة "التغريب" في تركيا؛ المسألة التي أوصلتها إلى "الناتو"، أمام سؤالٍ مصيري: هل التغريب حاجة أو وسيلة؟ وما مقوماته؟ هل تم فرضه؟ متى بدأ؟ وما الرابط بينه وبين مصالح الغرب في المنطقة؟ هل تحققت مصالح تركيا من خلاله؟ هل يمكن لتركيا التخلي عنه؟ وما المقومات المساعدة للتخلي؟
ولأنّ التغريب يُعرّف بكونه تياراً فكرياً بأبعاد سياسية واجتماعية وثقافية، هدفه صبغ حياة الأمم بأسلوب الغرب لفرض التبعية الكاملة للحضارة الغربية، فإن دراسة أثره في تركيا خلال مرحلة الجمهورية وما بعدها، وما ورثته عن السلطنة العثمانية في هذا الشأن قبل ذلك، مهم ومطلوب في محاولة البحث عن أجوبة.
انهيار "الإنكشارية" أمام "الحداثة الغربية"... انهيار السلطنة؟
تعدّ عملية حلّ فرقة "الإنكشارية" في الجيش العثماني عام 1826 بعد ما سمي في حينها بـ"الملحمة الخيرية" مرحلة فاصلة في تاريخ الدولة العثمانية، ولا سيما على صعيد تغيّر نمط عمل الجيش، الأمر الذي أثّر بشكل مباشر في مفاصل الدولة، ليس في الجانب العسكري فحسب، بل والسياسي أيضاً.
في كتابه "الجيش والسلطة في التاريخ العثماني"، يشرح الباحث قيس جواد العزاوي بعض تفاصيل تلك المرحلة والتحولات التي طرأت عليها. وبما أن "الإنكشارية" بمفهومها الفكري كانت فرقة ذات "طابع شرقي" باعتناقها الصوفية البكشتانية، ولكونها النواة العسكرية التي قامت عليها الدولة العثمانية في أوج اتساعها، ولكونها ارتبطت بالمجتمع العثماني، لا سيما في العاصمة إسطنبول، فإن القضاء عليها تجاوز في خلفياته محاولة إحداث إصلاحات في الجيش على الصعيد العسكري إلى إحداث تغييرات في سياسة الدولة وفي هيكليتها الإدارية، وحتى الفكرية، ولا سيما أن تمرّد "الإنكشارية" على السلطان وقضاء الأخير عليها، جاء لسبب رئيسي، هو رفضها مقترحاته بشأن "جيش جديد" على النمط الأوروبي، إذ إن إلغاء "الجيش الإنكشاري" عام 1826 جاء بعد محاولة تنظيم المؤسسة العسكرية العثمانية الجديدة وفق نمط علاقات ونظم ومبادئ جديدة فرضتها ظروف التدريب والتعليم على يد خبراء عسكريين أوروبيين، وسبقه إلغاء الضريبة التي كانت تزود فرق الإنكشارية بالعناصر البشرية.
لكن ما عدّه السلطان محمود محاولات لتنظيم الجيش أعطى القوى الغربية مساحة تحرك واسعة عن طريق الخبراء المرسلين، وفق العزاوي، الذي يوضح أن الخبراء نقلوا، إلى جانب التقنيات العسكرية الحديثة، أفكاراً سياسية ودستورية مستحدثة وفق النظريات التي بنيت عليها الدول الأوروبية الناشئة في حينها.
اختراق الغرب للجيش العثماني عن طريق "الخبراء" ما كان ليحدث لولا القضاء على "الإنكشارية" تحت ذرائع التحديث والإصلاح. وفي الوقت ذاته، فإن هذا الاختراق مهّد لما بعده من ضعفٍ ووهن في الجيش العثماني، وهو ما تثبته الوقائع التاريخية من توالي الهزائم العثمانية وحاجة إسطنبول المستمرة إلى مساعدة الغرب عسكرياً.
واللافت ضمن هذا المسار، أن توقيت إعلان "الإصلاحات" في هيكلية الدولة كان يتزامن مع الأزمات و"الحاجة إلى الغرب": جاء مرسوم عام 1839 عندما احتاج العثمانيون إلى مساعدة أوروبية ضد محمد علي، وجاء مرسوم عام 1856 عندما احتاج العثمانيون إلى الدعم الأوروبي (فرنسا وبريطانيا) في أعقاب حرب القرم (1853-1856) ضد روسيا، وجاء دستور 1876 عندما كان الضغط الأوروبي من أجل التعديلات يتصاعد.
لكن الأخطر من حاجة إسطنبول إلى "النجدة" الغربية العسكرية المستمرة، وما يعني ذلك من تحكّم القوى الغربية في مصادر القرار، كان التحرّك الذي قادته قوى داخل الجيش العثماني، تتلمذت على الخبراء الغربيين على مدى عقودٍ لاحقة، والتي وضعت الجيش العثماني في مواجهة مستمرة مع السلطة الحاكمة، وأدت في نهاية المطاف إلى انهيار الدولة.
الفترة التي أعقبت التحوّلات في الجيش العثماني شهدت عدّة انقلابات نفذتها "قوى تغييرية"، إما من خلال ضباط في الجيش بشكل مباشر، وإما بانقلاب مدعوم منهم. هذا المسار لم يكن منفصلاً عن التوجهات الغربية التي اخترقت المنظومة العسكرية العثمانية، والتي ارتبطت بمشروع سياسي مدروس.
وبشأن ذلك، يشرح العزاوي أن التمردات الإنكشارية على السلطان العثماني وعزلهم السلاطين أو قتل بعضهم لم يكن بمنزلة انقلابات عسكرية بالمعنى السياسي المعروف للانقلاب، فلم يكن لديهم مشروع للاستيلاء على السلطة أو تغيير النظام السياسي بقدر ما كانت لديهم أطماع مادية، في حين أن الانقلابات التي حملت مشروعاً مرتبطاً بالغرب من الناحيتين السياسية والاقتصادية تحت مزاعم "الإصلاح الإداري" بدأت في مرحلة الربع الأخير من القرن التاسع عشر، إذ وقع نحو 6 انقلابات بتحريض من ضباط ووزراء الحربية والمدرسة الحربية بين عامي 1876-1913، وكان الأرضية التي استند إليها الغرب سياسياً وعسكرياً في دفع الإمبراطورية العثمانية نحو الانهيار والتقسيم.
واللافت المرتبط بذلك أن الفترة الممتدة بين عامي 1876-1909 تحديداً، التي شهدت تلك الانقلابات، اتسمت بتغييرات جذرية في مناهج الكليات العسكرية العثمانية التي خرّجت الضباط المنقلبين لتوائم النظام الأوروبي المعتمد.
لم تكن الإنكشارية في آخر عهدها بالقوة نفسها والولاء كما كانت قبل ذلك، لكنّ أفولها لم يكن لما هو أفضل، بل على العكس من ذلك تماماً؛ كان هدفه جر الدولة العثمانية، ليس نحو النمط الغربي، بل نحو ما يريده الغربي، بمعنى أن التدخل الغربي في الجيش العثماني أدى إلى تفكك الدولة وإضعافها، ليس لأن هذا النمط تم تطبيقه بشكلٍ خاطئ، بل لكونه غير قابل للتطبيق عثمانياً، وهو ما أدركه الغرب جيداً وعمل عليه للهدف الذي يريده.
ما بعد الجمهورية... "التغريب" وفوضى "الناتو"
لم يكن انهيار الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى نتيجة هزيمتها أمام "الحلفاء" وخبراء الماضي مفاجئاً بالمعنى السياسي والعسكري، فالمسار الذي سارت به السلطنة على مدى قرن كان يؤخّر الانهيار فقط ولا يمنعه.
وبناء عليه، فإن دراسة العلاقة بين الغرب وتركيا وتأثيرها في الأخيرة تتجاوز تساؤلات التدخل الغربي في تركيا، باعتبار أن هذا الأمر مفروغ منه، إلى ما تجنيه تركيا من تقاربها مع الغرب على حساب مصالحها الجيوسياسية في منطقة كانت ولا تزال هدفاً للغرب الاستعماري، مع الأخذ بالاعتبار أن محاولات فرنسا وبريطانيا تحديداً إسقاط السلطنة وتقسيمها كان لهذا الهدف.
لذا، فإن قراءة تاريخ تركيا المعاصر في مرحلة ما بعد إعلان الجمهورية، وتحديداً محاولات تقاربها من الغرب والاندماج في سياساته، تتطلّب مقاربة موضوعية توازن بين تلك المحاولات وانعكاسها على مصالح تركيا أو ما سببته لها أو الدور الذي أدته تركيا: هل كان يتعلق بما تريده أو بما يريده الغرب؟
القضاء على تشكيلات "الإنكشارية" العسكرية، وانتقال إسطنبول إلى الاستعانة بالخبراء الغربيين، بمعنى توجّه السلطنة نحو الغرب، أسّس لمرحلة استطاع الغرب ذاته في نهايتها هزيمة العثمانيين وتدمير حكمهم.
ما قام به أتاتورك في مرحلة لاحقة كان تثبيت الهزيمة تحت عناوين جذّابة، من قبيل الجمهورية والديمقراطية، لكنه ذهب بعيداً في "تغريب" تركيا. لا نتحدث عن الناحية الاجتماعية، بل السياسية والأمنية.
هذا "التغريب" لم يكن خياراً، وإن ظهر بهذا الشكل، بل كان أمراً فرضته الهزيمة أمام القوى الغربية، لأن اختيار أتاتورك أو الحكم الجديد كان يعني استمرار المواجهة، على الرغم مما سميَ انتصاراً في "حرب الاستقلال الوطنية"، إذ إن أتاتورك ذاته الذي اتهم الغرب بأن لديه "نيات إمبريالية" تجاه بلاده، تحدث بعد الحرب عن أهداف الجمهورية المنشأة حديثاً على النحو التالي: "الوصول إلى مستوى الحضارات المعاصرة الحديثة"، قاصداً بذلك الغرب.
وتعزو دراسة بعنوان "آثار التغريب التركي في اختيارات السياسة التركية الخارجية" سبب ذلك إلى أن "الحركة الوطنية في الأناضول كانت ضد نفوذ الدول الغربية، ولكن ليس ضد الفهم الغربي للدولة".
يمكن لهذا الأمر أن يكون صحيحاً لو أن الغرب الاستعماري يفصل بين نموذج الدولة وسياسة الدولة، بمعنى أن الدول الغربية، وإن كانت تتحدث عن نموذج تريده للدولة، فإنها تبقيه ذريعة بهدف فرض نموذج لسياسة الدولة الداخلية والخارجية يتناسب مع مصالحها، فمهما بلغت هذه الدولة، سواء كانت تركيا أو غيرها، من "الديمقراطية والليبرالية"، فإنها تبقى خارج دائرة "الرضا الغربي" حتى تصبح لاعباً تحرّكه السياسات الغربية، وهذا ما يثبته المسار المتبع في "تغريب" نموذج الدولة التركية وصولاً إلى "تغريب" السياسة التركية وانضمام أنقرة إلى "الناتو" عام 1947.
الأمران مرتبطان ببعضهما البعض من ناحية ما يريده الغرب، بمعزل عما يريده الحكم التركي في تلك المرحلة من "شكل السلطة"؛ ففي كتابه "السياسة الخارجية التركية (1946-1980)"، يشير هالوك جيرجر إلى أن أحد الأسباب الرئيسية لعلاقات تركيا الوثيقة مع الغرب بعد الحرب العالمية الثانية تحديداً، هو جهود التغريب المتنوعة التي بدأت أساساً بثورة مصطفى كمال أتاتورك، إذ فهم قادة الحكومة التركية مفهوم التغريب على أنه إقامة علاقات وثيقة مع الغرب، وخصوصاً بعد عقيدة ترومان عام 1947، إذ تحولت تركيا إلى واحدة من أكثر الدول ثباتاً في تحالفها مع الغرب، وحددت ونسقت مصالحها بشكل عام كحليف للغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة.
قررت تركيا أن تكون دولة "غربية"، لكن "ثمن" هذا القرار كان مكلفاً. من الناحية السياسية، وضعت تركيا نفسها في مواجهة مباشرة مع الاتحاد السوفياتي، نتيجة انضمامها إلى حلف "الناتو". كان هذا الأمر بمنزلة لزوم ما لا يلزم، ولا سيما أن تركيا في قلب منطقة الكتلة الشرقية المناهضة للحلف الغربي.
لعلّ أخطر الظروف التي وضعت نفسها تركيا فيها نتيجة انضمامها إلى التحالف الغربي في وجه الاتحاد السوفياتي كان فترة "أزمة الصواريخ الكوبية" التي يمكن الحديث عنها بكونها أزمة الصواريخ التركية، باعتبار أن نشر الاتحاد السوفياتي صواريخه في كوبا على مقربة من الولايات المتحدة الأميركية، كان رداً على نشر الأخيرة صواريخ "جوبيتر" متوسطة المدى في مدينة أزمير التركية، يصل مداها إلى أكثر من 2400 كلم، ما يعني أنها قادرة على استهداف المناطق الغربية في الاتحاد السوفياتي، بما فيها مدينة موسكو، فما الذي كانت ستجنيه تركيا من كل هذا في حال قامت الولايات المتحدة باستهداف الصواريخ السوفياتية في كوبا وقام السوفيات باستهداف الصواريخ الأميركية في تركيا؟
على الرغم من المخاطرة الهائلة التي وضعت نفسها تركيا فيها، فإن الرسالة التي وجهها رئيس الولايات المتحدة الأميركية ليندون جونسون إلى رئيس وزراء تركيا عصمت إينونو في 5 حزيران/يونيو 1964 لمنع تدخل تركيا في قبرص، تظهر نظرة العالم الغربي إلى تركيا ضمن الصراع الدائر.
في تلك الرسالة التي عرفت بـ"رسالة جونسون"، والتي تم كشفها عام 1966، تمت الإشارة ضمنياً إلى أن الحرب بين تركيا واليونان، العضوين في "الناتو"، في قبرص، ستخلق إمكانية تدخل الاتحاد السوفياتي في تركيا، وأن الناتو سيكون متردداً في الدفاع عنها في مثل هذه الحالة.
وتشير عدة مصادر إلى أن الرسالة كانت مكتوبة بأسلوب فظ ومبتذل للغاية وتضمنت تعابير مهينة، لكن الأخطر هو إيصال جونسون رسالة بأن الأهداف الأساسية التي قام عليها "الناتو" بإسناد أي دولة عضو والتدخل لـ"حمايتها" أمام "الخطر السوفياتي"، قد لا تحصل في حال كانت هذه "الدولة" تركيا التي نشرت قبل سنوات من ذلك صواريخ إستراتيجية أميركية موجهة نحو موسكو. وقبلها أرسلت قواتها للمشاركة في الحرب الكورية ومواجهة قوات كوريا الشمالية إلى جانب الولايات المتحدة في منطقة لا تهدد مصالحها، وتبعد عنها مئات آلاف الكيلومترات.
وإذا كانت المخاطرة السياسية تلك في محيطٍ اختارت تركيا أن تكون عدواً له في حينها سببها مكاسب اقتصادية، فإن المسار الاقتصادي التركي يشي بعكس ذلك على صعيد "تغريب السياسة التركية"، فقد نتج من تحوّل تركيا في سياساتها الخارجية نحو الغرب انخفاض وقطيعة في العلاقات الاقتصادية مع جيرانها الاشتراكيين، ومن ضمنهم الاتحاد السوفياتي.
الخسائر الاقتصادية الهائلة التي تكبدتها تركيا يمكن ملاحظتها في ارتفاع حجم التجارة والسياحة التركية مع "الكتلة الشرقية" إلى نحو 15 مليار دولار أميركي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
أيضاً، فإن النفقات العسكرية التركية نتيجة انضمامها إلى حلف "الناتو" كان لها تأثير كبير في الاقتصاد. وفيما لم يستثمر الغرب بالصناعات العسكرية التركية، فإن النفقات كانت تستحوذ دائماً على ما مقداره 10% من الناتج المحلي.
تشير الدراسة إلى أنه بسبب هذين العاملين المرتبطَين بانضمام تركيا إلى "الناتو" والكتلة الغربية، كان الأداء الاقتصادي لتركيا ضعيفاً. وبمفارقة تاريخية، فإن طلب تركيا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في القرن الحادي والعشرين، تم رفضه بسبب "سوء أداء" اقتصادي!
عملية "التغريب" التي سعت تركيا إليها في فترة ما بعد إعلان الجمهورية، إضافة إلى كونها وضعتها أمام دائرة الخطر المباشر وأدت إلى "أداء اقتصادي" سيئ، فإنها لم تعطِها أي استقرار سياسي داخلي، وهذا ما يمكن ملاحظته من تعرض البلاد لـ3 انقلابات عسكرية دموية قادها جنرالات في "جيش تركيا-الناتو" في الفترة الممتدة بين عامي 1960 و1980.
وبمعزل عن أسبابها التي تشي بتورط غربي فيها لمنع أي تقارب محتمل مع الاتحاد السوفياتي، فإن الاستقرار الداخلي التركي السياسي والاجتماعي كان عرضة لخضات متتالية لم تستطع محاولات تركيا "تغريب" سياستها من منعه أو التقليل منه، ولا سيما أن الانقلابات التي كانت تتم، كان يُراد منها استخدام الأيديولوجيات الغربية لتشكيل السياسة التركية، كانقلاب العام 1997، وفق دراسة ناقشت "آثار جهود التغريب في نظام التعليم التركي".
ظلّت تركيا "فريسة" بالنسبة إلى الغرب بعد انهيار السلطنة العثمانية، وإن كانت اختلفت الأهداف من الهيمنة على السلطنة إلى الهيمنة على قرار تركيا السياسي واستخدام أهميتها الجيوسياسية في مواجهة الكتلة الشرقية.
في المقابل، فإن تركيا الساعية لمقعدٍ على خريطة الغرب السياسية والاقتصادية لم تحصل على ما تريده، بل كان لهذا الأمر انعكاس سلبي على أمنها الداخلي والخارجي وعلى استقرارها السياسي والاقتصادي. وغالباً، فإن الفترة الممتدة من العام 1950 حتى العام 1990 أثبتت أن "هوية تركيا الغربية" غير مرغوب فيها غربياً، والمطلوب كان هوية سياسية غريبة تلائم مصالح واشنطن، لا طموحات أنقرة ومصالحها.
استمر ذلك في فترة ما بعد الحرب الباردة بين عامي 1990-2000، إذ كانت أنقرة تبحث عن أسس جديدة لتحالفها مع الغرب، والولايات المتحدة الأميركية تحديداً، مع انهيار الاتحاد السوفياتي.
تخلص دراسة صادرة بعنوان "هل عملية التغريب تفقد وتيرتها: على من يقع اللوم؟"، إلى أن تركيا بذلت جهوداً للمطالبة بهويتها الغربية-الأوروبية استناداً إلى عضويتها في "الناتو"، بعد انتفاء "الحاجة الإستراتيجية" المتعلقة بمواجهة السوفيات، إلا أن تلك العضوية في كانت تستند غربياً بشكل أكبر إلى مفهوم مفاده أن تركيا دولة شرق أوسطية يتمثل دورها الأساسي في مساعدة الغرب على إبراز "قيمه" في منطقة "الشرق الأوسط الكبير".
وبينما سعت الولايات المتحدة إلى الاعتماد على تركيا الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط، كانت الأخيرة، وفق الدراسة، تفضّل أن تحظى بـ"تقدير واشنطن في سياق أمن أوروبا"، لكن تركيا، وفق النظرة الأميركية، بقيت دولة شرق أوسطية تستخدم لمصالح معيّنة ومحددة في وقتها، وليست دولة أوروبية ضمن إطار مصالح مشتركة مستمرة.
عقدان من الألفية الثانية... "أكويو" تواجه "التغريب"
رؤية الغرب لتركيا وموقعها والتحولات التي تطرأ عليها غالباً ما تنطلق من أسس ثقافية أيضاً. تطرح دراسة "تركيا وجيرانها وغربها" هذا الأمر نقلاً عن مراقبين في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، في محاولة لتقديم تفسيرات للسياسة الخارجية التركية، معتبرين أن "انجراف تركيا شرقاً سببه الصلات الاستراتيجية أو الثقافية مع الشرق"، وبالتالي فإن الغرب "يخسر تركيا" لتلك الأسباب، فيما يشير تفسير آخر، وفق الدراسة أيضاً، إلى أن تركيا الآن قوة إقليمية تتعامل وفقاً لمصلحتها الوطنية الخاصة وأهداف سياستها الخارجية التي يمكن أن تتماشى وأن تختلف مع أهداف الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
الاختلاف في السياسة الخارجية في الأهداف والرؤى بين تركيا والمنظومة الغربية بات أكثر وضوحاً في الفترة التي أعقبت الحرب على أوكرانيا، وهذا يحيلنا إلى سؤال: هل هذا الاختلاف نتيجة لتراجع الغرب في المنطقة، بحيث لم تعد تركيا تجد مظلة حامية لها أم أن أنقرة تسعى لاستغلال التحولات العالمية بما يحفظ مكانتها الإقليمية والدولية أولاً، لتجد ثانياً من خلال تلك التحولات ثغرات تعالج من خلالها أخطاءها في السياسة الخارجية؟
المخاوف الأميركية في المرحلة التي أعقبت الحرب في أوكرانيا لم تكن بسبب الموقف التركي "المحايد" في توجيه الاتهامات إلى روسيا، بل بسبب ما يمكن اعتباره شراكة إستراتيجية بين أنقرة وموسكو.
هذا الأمر يأخذ مستويات عدة في الداخل التركي من المؤسسة السياسية والأمنية وصولاً إلى شرائح المجتمع. أظهر استطلاع للرأي أجرته شركة "Gezici" التركية في كانون الأول/ديسمبر 2022 أن 72.8% من المواطنين الأتراك الذين شملهم الاستطلاع يؤيدون العلاقات الجيدة مع روسيا. وبالمقارنة، يرى ما يقارب 90% أن الولايات المتحدة دولة معادية. وبينما يعتقد 62.6% أن روسيا دولة صديقة، قال أكثر من 60% من المستطلعين إن روسيا تساهم بشكل إيجابي في الاقتصاد التركي.
الحرب الأوكرانية مهمة جداً في قراءة التحولات أو الانعطافات التي تشهدها السياسة الخارجية لأي دولة، لأنها ذات طابع مؤثر في العلاقات الدولية، نتيجة كونها حرباً بين "الشرق" بما يمثله من قوى صاعدة، و"الغرب" بما يمثله من قوى تحاول الحفاظ على هيمنتها في النظام الدولي. بناءً عليه، فإن السياسة التي تتبعها أنقرة، والتي تحمل تباعداً كبيراً عن الغرب، تدل على اختلافات أو خلافات مع الغرب، وعلى انحياز لمصلحة القوى الصاعدة في الشرق.
هذا الأمر ليس وليد لحظته، بل هو نتيجة قراءة تركية معطوفة على تساؤلات بشأن موقع مصالح البلاد في المنظومة الغربية. وبعيداً مما حصل في سوريا، وتورط تركيا بدعمٍ من الغرب في الحرب عليها من دون نتيجة واضحة، وبانعكاس سلبي على الاقتصاد والسياسة الخارجية أولاً، وبعيداً من التملّص الغربي الذي تعتبره أنقرة مهماً لأمنها القومي في الشمال السوري ثانياً (المسألة الكردية، وهذه مزاعم تركية يمكن حلّها مع الحكومة السورية)، بعيداً من هذا كله، فإن مصالح تركيا تصادمت مع مصالح الغرب في عدة مواقع، من ضمنها قبرص وخلافها الحاد مع شريكتها في الناتو اليونان شرق المتوسط وثروة الغاز هناك، وشمال أفريقيا، والعلاقة مع إيران.. وغيرها من المسائل التي يعد أبرزها اتهامات أنقرة للولايات المتحدة بدعم انقلاب العام 2016 ضد سلطة رجب الطيب إردوغان وحزب "العدالة والتنمية".
اقرأ أيضاً: أنقرة تلتف على منتدى "غاز المتوسط".. شراكة أمنية واقتصادية مع طرابلس الغرب!
بناءً على ما تقدم، وما يمكن مراجعته في هذا الشأن، فإن مشهد مشاركة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للرئيس التركي رجب طيب إردوغان في فعالية افتتاح أول محطة للطاقة النووية في تركيا "أكويو" منذ أسابيع، بتشييدٍ شركة روس-أتوم الروسية، وما سبقه من نقاشات تركية – روسية لجعل تركيا مركزاً للغاز الروسي، بالتزامن مع محاولات أنقرة الحثيثة للتقارب مع دمشق، وما يرافق ذلك من علاقات متطورة مع إيران، كل تلك الأحداث ومساراتها السياسية والاقتصادية، بقدر تناقضها مع المصالح الغربية، فإنها تعطي تصوراً عما تبحث عنه تركيا في ظل التحولات الحاصلة.
مسألة الشراكة مع الغرب أو "سياسة التغريب" أو ما يمكن تسميته بمحاولة إيجاد موقع في سياسات الغرب في المنطقة، كل ذلك تتراجع قيمته الجيوسياسية لدى تركيا، نتيجة التجربة على مدى عقدين من الألفية الحالية ودروس العقود الماضية بطبيعة الحال.
هذا الأمر لا يمكن حسمه، لأن عوامله لم تنضج بعد، ونتائجه لا تزال قيد الفحص من جهة أنقرة والأطراف التي تتعامل معها، ولا يجب تجاوز المصالح العميقة للدول الغربية في تركيا، والتي بنتها على مدى مئة عام، إضافة إلى عدم وجود صيغة واضحة للعلاقات بين تركيا ودول مثل الصين أو روسيا أو إيران أو غيرها.
في المحصلة، فإن النقاش سيتأخر قليلاً بما يخص استفادة تركيا من العلاقة مع تلك الدول، لكن يبقى أن تعارض معظم مصالحها وأهدافها مع الغرب وتضررها من تلك العلاقة غير المتوازنة أمران ملموسان بالأحداث والتجارب في العقدين الماضيين تحديداً، وهذا ما يثبت أن "التغريب" لا يمكن فرضه ولا حتى تنقيحه وفق نموذج تركي، لأنه سيبقي أنقرة رهينة سياسات ترى في فضائها الحيوي عدواً لا يجب التعامل معه.
واللافت في هذا المسار أن الأمر لا يتعلق بنظرة "إسلامية شرقية" فقط، بل "قومية تركيّة" أيضاً كانت في السابق حليفة للغرب، بمعنى أن المفهوم القومي للنخب في تركيا هو الذي يبتعد عن "التغريب" محدثاً تلك التحولات. وبشأن ذلك، يتحدث "صندوق مارشال الألماني للولايات المتحدة" (يتلقى دعماً حكومياً أميركياً) عن توجه قومي تركي يؤمن بقدرة البلاد على المضي قدماً بمفردها، إذ تتطلع مجموعات "أوروآسيوية"، بما في ذلك بعض في الدوائر العسكرية العليا في تركيا، إلى التحالف مع روسيا وجمهوريات آسيا الوسطى، رافضين بذلك وجهة النظر القائلة إن "الغرب هو الخط الطبيعي الإستراتيجي".
السياسات الغربية أم "التغريب"... أم كلاهما؟
يكاد يكون الخيط الفاصل بين اتباع السياسات الغربية والتغريب غير مرئيّ، وذلك يعود، كما ذكرنا سابقاً، إلى أن "التغريب" بمفهوميه الاجتماعي والاقتصادي يعني اتباع سياسات واتخاذ قرارات تدور في فلك المصالح الغربية. وفيما يتعلق بتركيا، فإن "التغريب"، وقبل وصوله إلى المستوى السياسي، كان دائماً ما يصطدم بالحواجز الاجتماعية والاقتصادية.
وبما أن المجتمع التركي لم يحسم هذا الأمر، ولا يزال يُظهِر نوعاً من عدم الارتياح لمسألة "التغريب" أو حتى رفضاً قاطعاً لها، وإن بشكلٍ متفاوت بين المناطق والفئات والطبقات، وبما أن الاقتصاد التركي أيضاً غير قادر على الاندماج الكامل مع المنظومة الغربية، سواء بسبب قيود الغرب – الاتحاد الأوروبي مثلاً أو بسبب مصالح أنقرة الجيواقتصادية مع محيطها، والتي لا تناسب الغرب، لا سيما على سبيل المثال روسيا، هذا كله يعرقل "التغريب" في تركيا اجتماعياً واقتصادياً، وبطبيعة الحال سيؤثر في القرار السياسي وارتباطه بمصالح الغرب.
لذا، فإن المسألة لا تتعلق بعدم رغبة الغرب في دمج تركيا فحسب، بل بعدم قدرة الأخيرة على تحمّل تبعات هذا الدمج أيضاً. وفي تعريف ذلك، يحيل البروفسور شريف ماردين، وهو من أشهر علماء الاجتماع والسياسة الأتراك، التخبّط الحاصل في مسألة "التغريب" إلى "عدم وجود أساس فلسفي في مشروع التحديث التركي". وبمعزل عن تأييد ماردين لمشروع "التحديث" وفق "النموذج الغربي"، فإن مقاربته هذه تتجاوز المسألة الاجتماعية إلى النطاق السياسي الأوسع مع دخول "الاجتماع السياسي" مجالات صنع القرار.
لم يكن مشروع التغريب في تركيا مناسباً لمصالحها، كما أظهرت القراءة التاريخية، ليس بسبب تعارض الأهداف أو محاولة الغرب الهيمنة على قرار تركيا وموقعها في معاركه فحسب، بل لأن الأرضية لم تكن ملائمة على صعيد "الهوية التركية" أيضاً، وهو ما قصده ماردين بـ"الأساس الفلسفي"، لأن "التغريب" في تركيا ضمن مفهوم "الحداثة الغربية" على الصعيد الاجتماعي، وبطبيعة الحال السياسي، لم يكن نتيجة لقراءات أو اختبارات أو نقاشات علمية وأدبية وفلسفية أخذت مجالها الزمني في تركيا، بل جاء رد فعل مفروضاً على تراجع السلطنة العثمانية لمصلحة الغرب في البداية، ومن ثم انهيارها أمامه وأمام النظام الإقليمي والدولي المشكّل.
وبما أن "التغريب" في سياقه الأعم وضمن مفهومه السياسي كان جزءاً من النظام الدولي ككل في مراحل سابقة، فإنه يزيد حدة المعركة في قمة الجغرافيا السياسية العالمية، كما يذكر المركز الإسباني للدراسات الإستراتيجية، الذي يرى أن مسألة ما إذا كانت "القيم الغربية" عالمية باتت قضية جيوسياسية للدول. وبناء عليه، فإن جنوح تركيا نحو سياسات لا تناسب مصالح الغرب وتتعارض مع "الحداثة الغربية" يرتبط بشكل مباشر بالمسار الذي سيسلكه النظام الدولي في المرحلة المقبلة.
لذا، فإن قضية "التغريب" في تركيا، التي أثبتت عدم تجانسها مع مصالح أنقرة، لم تعد مسألة داخلية أو ما تريده النخب التركية الحاكمة فحسب، بل تخضع أيضاً لتأثيرات التطورات في الساحة الدولية، بمعنى أن قدرة النخب الحاكمة على رفضها يلزمها تغيرات مساعدة في النظام الدولي... هذه التغيرات التي تقودها الصين وروسيا صراحةً، اللتان يعتبرهما "الناتو" - الذي تعد تركيا ثاني أكبر جيوشه - تحدياً لـ"قيمه" وتهديداً مباشراً عليه.
المسألة تبدو معقدة جداً، بحيث إن تقدم قوات "فاغنر" الروسية في أوكرانيا وهزيمة الأطلسي يعدان عاملاً مساعداً لتحقيق ذلك (التغيرات في النظام الدولي المساعدة في التغلب على التغريب)، لكن هذا الطرح فيه مجازفة على صعيد تحليل أو قراءة المصالح التركية.
ومع الأخذ بالاعتبار أن الطائرة المسيّرة التركية "بيرقدار" تستهدف في أوكرانيا قوات البلد الذي يسعى إلى جعل تركيا مركزاً للغاز، والذي يفتتح فيها محطة نووية ضخمة، فإن المجازفة ليست بالطرح فحسب، بل في استشراف النتائج أيضاً، مع عدم قدرة تركيا على الاستمرار في اللعب على هذين الحبلين لوقتٍ طويل مع اشتداد المنافسة، فأي الطرق ستسلكه تركيا؟ وكيف سيتحرك الغرب للحفاظ على تصوراته بشأن "قيم التغريب" فيها، والتي تدخل في إطار مصالحه الإستراتيجية في المنطقة؟ وأين سينتهي المطاف بتركيا: شنغهاي أم بروكسل؟