الضرورات التي تحكم واشنطن في سعيها لإنقاذ "إسرائيل"

تواصل واشنطن جهودها لإنقاذ "إسرائيل"، من دون أن تضطر إلى دخول الحلبة معها، والمخاطرة بتسارعين: تسارع في وتيرة الانفجار الأميركي الداخلي، وتسارعٌ آخر في مسار "إسرائيل" نحو نهايتها.

  • إسرائيل

يتنقل الكيان الإسرائيلي في ضرباته المستمرة في سياق حبك الإبادة التي يخوضها في غزة بين شمال القطاع وجنوبه. خارطة الضربات وطبيعتها، ومسار الأحداث السياسية الموازي لها، تشير كلها إلى رغبة إسرائيلية جامحة في تدمير القطاع تدميراً شاملاً ونهائياً، وإن أمكن تهجير أهله أو قتلهم جميعاً. الجريمة الدموية المدوية التي لا تشبه أي حدثٍ آخر في العلاقات الدولية الحديثة، لا تجد حتى اليوم من يقدر على إيقافها، وإلزام الكيان بالتصرف وفق القوانين الدولية، أو الشرائع المعروفة لدى البشر.

على العكس من ذلك، يتصرف الكيان وقادته كقاتلٍ جماعيٍ متسلسل مطمئن إلى نجاته من العقاب، وأنه فوق القوانين، مرتفعٌ عن البشر الآخرين ودولهم، وغير آبهٍ بما تفكر فيه الشعوب، أو يقوله المسؤولون حول العالم، وحتى بما سيوصم به طوال السنوات المقبلة من عمره المتبقي. أعلن الكيان حرب الوجود، ليخوض جريمة إبادةٍ فائقة الوقاحة على أصحاب الأرض في فلسطين.

والآن، تواصل آلة الحرب الإسرائيلية ارتكاب المجازر اليومية، بالعشرات، ووفق صنوفٍ جديدة من القسوة اللامتناهية بحق الأطفال والنساء والشيوخ والرجال، وكل ما يتنفس أو يقف جامداً في الأراضي الفلسطينية. وإن كانت الجريمة بالنسبة إلى "إسرائيل" جزءاً من طبيعتها وميلها الأصيل، فإن جرأتها على تحدي النوع البشري بكل دوله وشعوبه وتلويناته وأعراقه وثقافاته، جديدةٌ تماماً على من لم يختبر انعكاسات هذه الطبيعة وهذا الفكر الإلغائي المريض، والذي لا أمل بشفائه.

لكن مستوى الوقاحة الأجد لدى الكيان، يعبر عن نفسه من خلال المواقف الموازية لمسار الجهود القائمة لمحاولة التوصل إلى وقفٍ لإطلاق النار. يتصرف الكيان في هذا الإطار من موقع من يفرض الشروط المنفصلة عن الواقع، فيطلب من المقاومة الفلسطينية المفاوضة على وقفٍ مؤقتٍ لإطلاق النار، وتقديم تنازلاتٍ في ملف الأسرى لديها، ويعلن في الوقت نفسه صراحةً أو وقاحةً أنه سيواصل حرب الإبادة بعد انقضاء مدة الوقف المؤقت لإطلاق النار.

هذا الموقف لا يعبّر فقط عن النظرة الإسرائيلية المتجذرة في العنصرية واللاإنسانية التي بُني على أساسها الكيان، إنما يظهر أيضاً احتقاراً فائق الصلف والفداحة لما يسمى المجتمع الدولي وللدول المنخرطة في جهود الوساطة لحل الأزمة الحالية.

يتجاوز الكيان مآزقه المتزامنة والمتفاقمة، والتي لا يبدو أفق حلها متاحاً، بصرف النظر عن الحرب الدائرة في غزة. فأزمات الكيان وجودية بالفعل. ويقفز الكيان فوق هذه الأزمات إلى الأمام لينسي نفسه، أو ليشوش رؤية العالم، حول حتمية تفككه وزواله بفعل عوامل أكثر عمقاً من عملية السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.

رئيس وزرائه بنيامين نتنياهو يؤكد في سياق الوقاحة نفسه عزمه "تأجيل" الإبادة في رفح، إذا تم التوصل إلى صفقة لتبادل الأسرى، ثم يتهم في المقابلة نفسها التي أجراها مع شبكة "سي أن أن" الأميركية، حركة حماس بتقديم مطالب غير واقعية. 

الواقعية إذاً هي القبول بتأجيل المذبحة لأسابيع ستة، ثم مواصلتها كأن شيئاً لم يحدث، وباطمئنانٍ كاملٍ إلى أن هذا الطرح سيكون مقبولاً عند قادة الديمقراطية في العالم، الذين لا ينامون إذا هاجم إرهابيٌ مدنياً واحداً في الغرب، بينما يستخدمون صياغاتٍ التفافية واحتيالية للهرب من الاعتراف بأن ربيبتهم العزيزة على قلوبهم، تدمر كل قيم الجنس البشري، وتهين الكرامة الإنسانية بالمطلق.

شيءٌ كثيرٌ من السوريالية في المشهد العالمي المواكب لحرب الإبادة اليوم. بما يشير إلى أنه لو كان أدولف هتلر إسرائيلياً، ويدير السلطة في الكيان، لكان مقبولاً في الغرب تماماً كما هو نتنياهو مقبولٌ ومحمي. وأن مشكلة الحضارة الغربية معه كانت مشكلةً مصلحية وغير مبدئية. فأفكاره المريضة أظهرت قصورها عن إبداع الجريمة العمومية كما يفعل قادة الاحتلال اليوم. وما أفكار الإسرائيليين اليوم سوى تطوير عصري لأمراض هتلر، تفوقها انحرافاً واعتلالاً كما تفوق الهواتف الحديثة تقنيات الهاتف السلكي في أيام هتلر.

مقبولية نتنياهو وبن غفير وسموتريتش وإلياهو، والجميع، حتى لا تبدو المشكلة في تطرف جزءٍ وحمائمية الجزء المتبقي، مدهشة ومروّعة بالنسبة إلى أي بشريٍ يدرك الحقائق وانعكاساتها، ويعرف بعض ما جرى في التاريخ من تشريع جريمة وحشية واحدة لنمطٍ جرميٍ يعيش ويتكاثر ويطول ويمتد في الزمن. ما تفعله "إسرائيل" اليوم من جرائم، وفق هذا القياس، تشريعٌ دائمٌ لجرائم الإبادة سنرى انعكاساته عبر العالم مع الوقت، وسيعاني منه الجنس البشري طويلاً، كتهديدٍ وجوديٍ للبشر، وإلا كيف يمكن قبول هؤلاء المجرمين المنهجيين المشبعين بالكراهية، والمتمرسين بوسائل القتل بدعمٍ عالمي، بين السياسيين والقادة ومن يلبس البزّات ويصعد المنابر العالمية؟

يطلب نتنياهو تنازل حماس عن مطالبها، ويتصرف كمنتصرٍ في حربٍ لا تبدو وضعيته فيها مناسبة لفرض الشروط، ومن يقول هذا ليس أعداؤه فحسب، بل صحافته ومجتمعه، وجزء من مؤيديه السابقين.

يمكن تفسير هذا المستوى من الانفصال عن الواقع، وفق نظريات نفسية تترجمه كرد فعلٍ إنكاري يرفض الاعتراف بالحقائق، ويصر على الكذب وتصديق ما يبتدعه من صنوف الإنكار. لكن، حتى بهذا المعنى، لا يصلح الرجل للتعامل معه عالمياً كشخصيةٍ سياسية مقبولة، بعد ما تكشف في غزة، وفي جنوب لبنان، وفي كل أرض أغرقها بالدماء.

يعرض رئيس أركانه هرتسي هاليفي خطته للإبادة في رفح، بما يشمل تهجير السكان الذين هُجّروا إلى هناك في الأسابيع الماضية، يدمر ما تبقى من منازل هناك، ثم يعود إلى المهجرين مراتٍ ومرات، ليقتلهم. وينفي هاليفي وجود خلافات مع الولايات المتحدة بشأن الحاجة إلى إجلاء المدنيين من رفح. ويتعهد بالعمل على توجيههم إلى منطقة في شمال رفح.

 نتنياهو، وكمكملٍ لهذا النسق العجيب، لا يرى أن السلام مع مصر معرضٌ للخطر من جراء عملية التهجير هذه، أي أنه مطمئنٌ إلى أن الجريمة الجديدة التي يخطط لها، مقبولة عربياً.

أكثر من ذلك، كل هذا الإجرام، يجد في الكيان من لا يقبل به، من منطلق أنه جريمة غير كافية، ويطالب بالمزيد. وزير المالية بتسلئيل سموتريتش يرى أن المفاوضات تجري بشكل غريب، وأن صفقة إطلاق سراح الأسرى يجب أن تكون أفضل. والأفضل بالطبع أن يعود الأسرى، بينما يقتل الفلسطينيون جميعهم، وأن يتابع العالم كذبته الكبرى القائلة إن "إسرائيل دولة"، وديمقراطية أيضاً.

الأميركيون يعلنون من البيت الأبيض أنهم والكيان، ومصر وقطر، قد توصلوا إلى تفاهم على الملامح الأساسية للصفقة. تستمر المفاوضات تحت النار، وتعطى "إسرائيل" كل الوقت اللازم لإكمال القتل، عل قتل المدنيين يؤدي إلى تغيير الواقع الذي يشير إلى عطبٍ دائمٍ في قدرة الكيان على الشفاء مما أصابه في الأشهر الأربعة الماضية. لا يدرك الضاغطون والناكرون، أن شيئاً صار ولم يعد بالإمكان تغييره. "إسرائيل" أقفلت الباب وراءها على احتمال أن تعيش ككيان مقبول، حتى لو وصلت إلى لحظة يفرض فيها الأميركيون تطبيعاً، كمحاولةٍ أخيرة لدمج السرطان في المنطقة.

وعلى الرغم من كل ذلك، فإن الولايات المتحدة تبدو مدركةً للمسار الاستراتيجي للأمور، وهي تحاول حماية "إسرائيل"، وليس نتنياهو، لعلمها بأن ما جرى منذ السابع من أكتوبر، وما يجري اليوم، سيقود حتماً إلى نهايةٍ سيئة لهذا الكيان. 

لذلك، فإن الحركة الأميركية الحالية باتجاه البحث عن هدنة، تشير إلى رغبة أميركية في حماية "إسرائيل" من نفسها، ومن قادتها، الذين يبدون مستعدين للمخاطرة بكل شيءٍ لضمان مصالحهم من جهة، ولقناعةٍ عمياء تماماً بأنهم سينجون مما يجري.

الآن، تبدو الهدنة في غزة متوقعة، مع ضبابٍ كثيفٍ حول الظروف النهائية التي سترسو عليها، مع إصرار المقاومة الفلسطينية على التمسك بمنجزاتها، وحماية خيارها في المستقبل، ومع إصرارٍ مقابل على فرض شروطٍ غير واقعية، من خلال الضغط الإسرائيلي على المدنيين من جهة، والضغط الأميركي على الوسطاء من جهةٍ ثانية.

ومع استمرار عض الأصابع هذا، تصر المقاومة الفلسطينية على تبيان فاعليتها من خلال استمرارها بتنفيذ عشرات العمليات العسكرية اليومية ضد قوات الاحتلال، الأمر الذي يقوض جهود الاحتلال لإظهار انتصارٍ ما في هذه الحرب. وبذلك، تنكر حماس الإيجابية المبالغ فيها التي يتم ترويجها ووضعها في سياق استعدادها لتقديم تنازلاتٍ معينة، يتم أيضاً الترويج لها.

الموقف إذاً، رسائل إيجابية من المقاومة الفلسطينية إزاء الرغبة في إنهاء الحرب وإجراء صفقة التبادل، لكن مع التمسك بالمنجزات وبحقوق الشعب الفلسطيني في الوقت نفسه. ومحاولة أميركية لصياغة مخرجٍ يناسب "إسرائيل"، للقول بأنها انتصرت أخيراً على دماء الأطفال الذين قتلتهم، وإلا فإنها ستستمر بقتل المزيد.

بموازاة ذلك كله، يبدو التوصل إلى اتفاق بخصوص الجبهة الشمالية أكثر صعوبة، في النمط الإسرائيلي نفسه في الانفصال عن الواقع. إذ ليس على هذه الجبهة أيضاً، ما يمكن "إسرائيل" من فرض شروطٍ لإبعاد المقاومة سلاحها عن الحدود.

وإذا كانت "إسرائيل" تتوسل قتل عشرات الآلاف من المدنيين لإخضاع حماس، وهو المتعذر أيضاً، فإنها لا تستطيع فعل الشيء نفسه في جنوب لبنان من دون أن تفتح باب نهايتها في حربٍ موسعة مع المقاومة الأكثر تسلحاً، والتي لم تكشف حتى اللحظة عن أوراقها الرابحة المجهزة لهذا المستوى من المواجهة.

تشير الغارات الإسرائيلية على جنوب لبنان، وتوزعها الجغرافي، وطبيعة الأهداف التي تختارها، إلى رغبة الكيان في استدراج ردٍ لبناني على هدفٍ كبير، والأفضل أن يكون مدنياً، لاستدراج موافقة ومشاركة غربيتين على عملية موسعة. ذلك أن الكيان غير قادر على دخول هذه المواجهة منفرداً، وضمان الخروج منها كياناً قابلاً للحياة.

وكهدفٍ موازٍ، يريد الكيان زيادة الضغط على المقاومة اللبنانية لخلق وضعية جديدة بحكم الأمر الواقع، تؤدي بالمقاومة إلى القبول بالشروط الإسرائيلية تحت ضغط الوضعية الجديدة، وحملةٍ داخلية وخارجية عليها باعتبارها هي المشكلة، وليس الاحتلال والأطماع الإسرائيلية، والأعمال الحربية والعدائية اليومية التي لا تاريخ بداية أو نهاية لها، ولم تكن يوماً مرتبطةً بعمل المقاومة، بقدر ما هي منهج إسرائيلي يضرب حينما يستطيع، ويقضم أين يتمكن، ويتجاوز كل نظريات الرهان على المجتمع الدولي والقرارات الدولية والقانون الدولي.

الاستماتة الإسرائيلية الآن لتحقيق هذه الوضعية في الشمال، تتأتى من ضروراتٍ أكثر إلحاحاً من ذي قبل. فسكان الشمال الفلسطيني المحتل من المستوطنين، لا يقبلون بالعودة بعد أن رأوا محاكاة حية ليوم المواجهة الكبرى، وبدرجةٍ أقل مما يتوقع أو يحتمل. وهجرتهم من مستوطناتهم لا تبدو عابرة، إنما هجرة تفككية لن يعود كثرٌ منها. 

سببٌ آخر لمحاولة "إسرائيل" الدفع باتجاه إبعاد المقاومة عن الحدود، هو أن الكيان لم يتمكن من اكتشاف الكثير مما تخبئه المقاومة ليومها الأبيض. نظراً للاقتصاد الشديد في كشف هذه الأوراق من قبل المقاومة.

‏وكإضافةٍ لما سبق، لم تتمكن الضربات الإسرائيلية في لبنان من تغيير قرار مساندة غزة الذي اتخذته المقاومة قيد أنملة. الأمر الذي يعيق أي تسويق لانتصارٍ إسرائيلي في غزة، مهما كانت الصورة التي سوف يرسو عليها اتفاق وقف إطلاق النار هناك، وصفقة التبادل المتضمنة فيه.

وإلى جانب ذلك كله، شهدت الأيام الماضية تغييراً بالدرجة في الموقف الأميركي الذي لا يتطابق مع حسابات الحكومة الإسرائيلية الحالية، وإن تطابق مع المصالح الاستراتيجية الإسرائيلية. فالمشروع الأميركي المقدم إلى مجلس الأمن الدولي يبرز تطوراً في الموقف الأميركي يتجاوز مجرد الرغبة في تعطيل طروحات المجموعة العربية والمشروع الجزائري الذي استخدمت واشنطن أفضلية النقض ضده في المجلس، ليصل إلى الإقرار فيه ببعض مطالب الفلسطينيين، ومنها رفض عودة الاستيطان إلى القطاع، وتهجير السكان إلى دول الجوار، وإحداث تغييرٍ ديموغرافي في المنطقة. لكنه يبقى قاصراً عن تحديد الإطار الزمني باتجاهين: الأول، بشأن تحديد توقيت لوقف إطلاق النار، الذي ورد بصيغة "في أقرب وقتٍ ممكن". والثاني هو تحديد توقيتٍ لطرح المشروع الأميركي على مجلس الأمن، والذي ورد في التصريحات الأميركية التي قالت إن واشنطن "غير مستعجلة" على طرحه الآن.

يساعد الموقف الأميركي واشنطن و "تل أبيب" (من دون أن تريد ذلك أو تعترف به) على عدم استفزاز مصر والأردن، وتطويع جهودهما في سياق الوساطة للضغط على المقاومة الفلسطينية. 

لكن السبب الأكبر لهذا الطرح الأميركي بتوقيته الحالي، هو الظروف الضاغطة على المصالح الأميركية في المنطقة من جراء نشاط محور المقاومة في كل اتجاه، تحديداً في المياه المحاذية لليمن، إضافةً إلى ضغطٍ هائل تفرضه الأوضاع الأميركية الداخلية على السياسة الخارجية، وتمنع من دخول واشنطن حرباً واسعة من أجل "إسرائيل".

بالنتيجة، تواصل واشنطن جهودها لإنقاذ "إسرائيل"، من دون أن تضطر إلى دخول الحلبة معها، والمخاطرة بتسارعين: تسارع في وتيرة الانفجار الأميركي الداخلي، وتسارعٌ آخر في مسار "إسرائيل" نحو نهايتها.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.