الغرب تعهّد بتقديم الفتات: السوريون وقدر التعايش مع الزلزال
يبدو أن قدر السوريين اليوم هو التعايش، ولفترة غير قصيرة، مع الواقع الجديد الذي فرضه الزلزال بكل ما فيه من آلام ومعاناة ومشكلات.
-
الغرب تعهّد بتقديم الفتات: السوريون وقدر التعايش مع الزلزال
مرّ نحو شهرين وبضعة أيام على كارثة الزلزال التي ضربت مناطق تركية وسورية واسعة، متسببة بأضرار مباشرة لأكثر من 91 ألف أسرة سورية ضمن مناطق سيطرة الحكومة، وبأضرار اقتصادية لم ترسم ملامحها بعد أي تقديرات إحصائية أولية، حتى إن تقديرات الخسائر التي أطلقها البنك الدولي بداية الشهر الماضي لم تتضمن قراءة لحجم الخسائر التي لحقت بالاقتصاد السوري جراء ذلك الزلزال.
ولكن المؤشرات الحالية لا تبعث على التفاؤل بإمكانية أن تترجم دول العالم بيانات التعاطف التي أصدرتها بعيد وقوع الزلزال إلى دعم مستدام يمكّن ملايين المتضررين من استعادة حياتهم وأعمالهم وتجاوز تداعيات الكارثة اقتصادياً واجتماعياً.
المساعدات الإغاثية التي وصلت على مدار الأسابيع الماضية تبقى في إطارها الإسعافي الملازم لمرحلة الصدمة، وسرعان ما سيزول أثرها مع مرور الوقت وفي إثر ازدياد احتياجات المتضررين. الاستثناء الوحيد يتمثل في مشروع السكن المؤقت للمتضررين الذي تعمل عليه دولة الإمارات العربية المتحدة وهيئة الحشد الشعبي العراقي بشكل منفصل.
لا أمل منها
بمشاركة نحو 60 دولة، عقد مؤتمر بروكسل للمانحين اجتماعاً استثنائياً الشهر الماضي، غايته تقديم دعم لمنكوبي الزلزال في كل من تركيا وسوريا. وبحسب البيان الختامي للاجتماع، فإن حصة سوريا من تعهدات المانحين بلغت نحو 950 مليون يورو من إجمالي قيمة التعهدات البالغة نحو 7 مليارات يورو. وبذلك، فإن حصة سوريا تشكل ما نسبته 13.5%، وحصة تركيا تبلغ 86.4%.
هذا التوزيع يؤشر بوضوح إلى تأثير الموقف السياسي للدول المانحة في مساعداتها الإغاثية والإنسانية. على الرغم من أن حجم الدمار والضرر في تركيا كان أكبر من سوريا، فإن الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعيشها الأخيرة بفعل الأزمة المستمرة منذ عام 2011 كان يفترض أن ترجح كفة المساعدات الدولية لمصلحة سوريا أو على الأقل أن تكون قيمة تعهدات المانحين قادرة على إحداث فرق في مواجهة تداعيات خسائر الزلزال، فهذه التعهدات لا تشكل إلا ما نسبته 19% من قيمة تقديرات البنك الدولي لخسائر ممتلكات السوريين، التي تعد، في نظر البعض، محل تشكيك لاعتبارات سياسية أيضاً.
الأمر لا يتوقف عند تواضع قيمة تعهدات المانحين مقارنة بتقديرات الخسائر وقيمة الأضرار، إنما يمتد ليشمل مدى التزام المانحين بتنفيذ تعهداتهم، ولا سيما مع سوريا، فالسنوات السابقة أظهرت بوضوح أن ما كانت الدول المانحة تعلنه من التزامات مالية لدعم أعمال الإغاثة والتعافي المبكر والقطاعات الأساسية من صحة وتعليم لم يكن يجد طريقه إلى التنفيذ الكامل.
تكشف البيانات الأممية مثلاً أن نسبة تنفيذ خطة الاستجابة الإنسانية للعام الحالي، والمقدرة بنحو 4.8 مليارات دولار، لم تتجاوز 6.3%، إذ إن ما تم توفيره لا يتعدى 777 مليون دولار. هذه النسبة لم تتجاوز طيلة العام الماضي نحو 49.5%.
وبناء عليه، إذا كانت نسبة التزام المانحين يمكن أن تصل تقديرياً إلى نحو 50%، فإن المشروعات والبرامج الإغاثية والإنسانية الموجهة إلى المتضررين من الزلزال على امتداد الجغرافيا السورية لن تحصل إلا على 475 مليون دولار، إلا إذا حدث تطور سياسي ما وقلب حسابات المانحين ومسيرة التزاماتهم السابقة. وللإشارة هنا، فإن دولاً أخرى مرت سابقاً بالأوضاع نفسها التي تعيشها سوريا اليوم بفعل الزلزال، ولم يلتزم فيها المانحون بتقديم ما وعدوا به.
أولويات الإنفاق سيكون لها أيضاً أثرها في خطة الاستجابة الأممية لدعم المتضررين من الزلزال، التي من المفترض أن تقوم على ركيزتين أساسيتين؛ الأولى هي الدعم الإغاثي المتعدد الأوجه من غذاء وصحة وتعليم وخدمات وغيرها، والأخرى هي مساعدة المتضررين على تجاوز آثار الزلزال واستعادة حياتهم السابقة ومصادر دخلهم والحصول على الخدمات الأساسية، ما يتطلب جملة مشروعات مجتمعية تضاف إلى مشروعات التعافي المبكر التي أخذت تفرض نفسها خلال العامين الأخيرين، ولو على جبهة الحوارات والنقاشات.
لكن، وبحسب التقييمات السابقة لأولويات الإنفاق الأممي لخطة الاستجابة، فإن مشروعات التعافي المبكر كانت لا تزال في مرتبة متأخرة مقارنة بقطاعات أخرى، وبنسب تنفيذ قليلة، فالإنفاق عليها هذا العام لم تتجاوز نسبته حتى إعداد التقييم أكثر من 4%، بل إنه وقف خلال العام الماضي عند عتبة 12.5%.
خيار الجهود المحلية
ماذا يعني ما سبق؟ يعني أن الدعم الدولي سيكون محصوراً، ولأسباب متعددة، في الجانب الإغاثي، ولن تكون له مساهمة فعالة ومباشرة في المشروعات والجهود اللاحقة لمرحلة الإغاثة وإعادة بناء القدرات المجتمعية والمؤسساتية في المناطق المنكوبة.
وإلى جانب الأسباب السياسية المعروفة والمتعلقة بالموقف من العلاقة مع الحكومة السورية، تؤدي ضخامة الاحتياجات الإغاثية للمتضررين، ومحدودية الأموال المخصصة دولياً للدعم، وقصر الفترة الزمنية المحددة أميركياً لتعليق بعض من عقوباتها على سوريا، دوراً أساسياً في تغليب الأولويات والاهتمامات الأممية، وتالياً فإن مهمة الاستجابة الدائمة ستكون في نهاية المطاف على عاتق الحكومة السورية التي تعاني أساساً صعوبات عديدة أبرزها:
- ضآلة الإمكانيات والموارد المالية المتاحة، في وقت تزداد احتياجات المناطق المنكوبة، سواء بشكل إسعافي أو دائم. ولا يتوقع في ظل الأوضاع العامة التي تعيشها البلاد، من التشظي الاقتصادي وخروج حقول النفط عن السيطرة والعقوبات الغربية وتعثر جهود الحل السياسي، حدوث تحسن في الموارد المالية، وتالياً النهوض بمتطلبات الاستجابة لمرحلة ما بعد الإغاثة وفق ما هو مطلوب قطاعياً وزمنياً.
- ضعف القدرات والإمكانيات الفنية للمؤسسات الحكومية بفعل أسباب متعددة، أبرزها ما تعرضت لها من تخريب وتدمير خلال سنوات الحرب وتأثيرات العقوبات والفساد. هذا الواقع من شأنه أن يسهم في تأخر عمليات تنفيذ المشروعات والبرامج المقررة، في وقت يؤدي الوقت دوراً مهماً في تقليص معاناة المتضررين واستعادة اندماجهم المجتمعي.
- تفاقم حدة المشكلة الاقتصادية التي تواجهها البلاد منذ بداية الأزمة عموماً، وبشكل أخطر منذ بداية العام 2020. ومع كارثة الزلزال، من المتوقع أن تتعمق أكثر تأثيرات المشكلة خلال الفترة المقبلة، فالمحافظات الأربع التي ضربها الزلزال يشكل ناتجها المحلي الإجمالي ما نسبته 35% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، وفقاً لتقديرات العام 2010.
- عدم جدية الدول الغربية في تعليق بعض عقوباتها المفروضة على سوريا، ومحدودية الفترة الزمنية المعطاة لذلك، والمحددة بستة أشهر. ورغم الاستثناء الضيق والمحدود جداً مقارنة بما سببه الزلزال، فإن الولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية لم تسهل عملية الاستفادة المباشرة من قرار تعليق بعض العقوبات، ثم إن ضبابية الموقف الغربي من مسألة التعليق بعد انتهاء الفترة الممنوحة من شأنها عرقلة أي خطوات عربية أو أجنبية لدعم سوريا في موضوع التعافي من الزلزال.
تزداد الأمور سوءاً في المناطق الخارجة عن السيطرة، التي تسبب الزلزال فيها بدمار هائل في الأبنية السكنية وتشريد مئات الآلاف من الأشخاص. وإلى جانب غياب المؤسسات الحكومية الرسمية، التي يمكن أن تحدث فرقاً مقبولاً في قطاعات أساسية، كالصحة والتعليم وخدمات المياه وغيرها، فإن تباين اهتمامات ومرجعيات وعلاقات القوى المسيطرة سوف يسهم من دون أدنى شك في تباين عمليات الاستجابة بين تلك المناطق ومحدودية الأثر الإغاثي والدائم، فضلاً عن العوائق والصعوبات التي تواجه المنظمات والمؤسسات الأممية والدولية في عملها.
قدر التعايش
يبدو أن قدر السوريين اليوم هو التعايش، ولفترة غير قصيرة، مع الواقع الجديد الذي فرضه الزلزال بكل ما فيه من آلام ومعاناة ومشكلات؛ فالدول الغربية مصممة على المضي قدماً في سياساتها الرامية إلى التضييق على السوريين في لقمة عيشهم، بذريعة الضغط على "النظام" وحمله على تقديم تنازلات سياسية يقال إنها من أجل الحل السياسي، لكنها عملياً لتثبيت مصالح وتحقيق أهداف أبعد ما تكون عن مصلحة السوريين على اختلاف مواقفهم وانتماءاتهم السياسية والاجتماعية.
لكن، واستناداً إلى تجارب بعض الدول النامية التي تعرضت لزلازل مشابهة، وكانت تعاني أوضاعاً غير مستقرة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فإن سوريا يمكن أن تشهد، وفي ظل عجز مؤسساتي ودولي عن مواكبة متطلبات الاستجابة الدائمة، تفاقماً غير مسبوق في معدلات الفقر، وانعداماً للأمن الغذائي، وتفككاً اجتماعياً، وتدهوراً في التعليم، وانتشاراً للأمراض، وغير ذلك من الآثار التي عاشتها دول بعد مرور عدة أشهر على تعرضها لزلزال مشابه.