اليهود الإثيوبيون في عاصفة العنصرية الإسرائيلية (2/2)
تمدد العنصرية الإسرائيلية تجاه اليهود الإثيوبيين لم يقتصر على المؤسسة السياسية الرسمية أو أروقة "الجيش" ووزارة الصحة، ولم يتوقف على أبواب المعابد اليهودية، بل تدحرج إلى المؤسسة التعليمية ونال من الأطفال.
-
اليهود الإثيوبيون في عاصفة العنصرية الإسرائيلية (2/2)
بينما تشهد الساحة الإسرائيلية حراكاً غير مسبوق باتجاه أقصى اليمين، حتى بات المشهد محكوماً بتظاهرات اليمين ضد اليمين، لا تبالغ بعض التقديرات التي ذهبت إلى أن المعبد معرض للهدم من الداخل بسبب التطرف والعنصرية التي طالت الجميع. وفي عين العاصفة، يقع استهداف اليهود الإثيوبيين الذين يُطلق عليهم اسم "الفلاشا".
يطلق اسم "الفلاشا" على اليهود من أصول إثيوبية، وهو اسم يحمل بعض معاني الاحتقار والازدراء، لكونه يستخدم لوصف هذه المجموعة من قبل غير اليهود، وهو يعني باللغة الأمهرية "المنفيين" أو "الغرباء". يهود "الفلاشا" أو يهود إثيوبيا لا ينتمون إلى أي من الكتل اليهودية الرئيسية في "إسرائيل" (شكنازيم وسفارديم)، بل يشكلون مجموعة إثنية ودينية مختلفة.
ينظر إليهم اليهود الغربيون والشرقيون على حد سواء نظرة دونية، إلى درجة رفض كثير من المدارس اليهودية قبول أبنائهم ضمن صفوفها تحت ذرائع مختلفة، ما أنشأ على أرض الواقع ما يشبه مدارس "الفلاشا" وأحياء "الفلاشا" المنعزلة المرفوضة من بقية "المجتمع" الإسرائيلي.
اقرأ أيضاً: الديمقراطية المزيفة: عنصرية "إسرائيل" ضد الأفارقة.. الإثيوبيون نموذجاً (1 / 2)
التشكيك في دماء اليهود الإثيوبيين
لم تكن العنصرية الإسرائيلية ضد اليهود الإثيوبيين وليدة اللحظة التي خرجت فيها العنصرية الإسرائيلية في الآونة الأخيرة إلى الشارع ضد الجميع وأخرجت أسوأ ما في جعبتها؛ ففي عام 1995، حدثت فضيحة كبرى عندما ألقى ممرضون في الكنيست وحدات دم تبرع بها النائب الإثيوبي الأصل، أديسو مسالا، خلال حملة للتبرع بالدم نظمتها خدمات الإسعاف الإسرائيلية "نجمة داوود الحمراء" لمصلحة بنك الدم.
وفي 28 كانون الثاني/يناير 1996، كُشف النقاب عن أن المؤسسات الطبية في "إسرائيل" رفضت استخدام كميات الدم التي تبرع بها المهاجرون من إثيوبيا، بدعوى أن دماءهم قد تكون ملوثة - حدثت فضيحة كبيرة آنذاك، إذ تبين أن المؤسسة الطبية الإسرائيلية تخلصت من أكياس دم الإثيوبيين بإلقائها في الصرف الصحي – وكانت الذريعة المسكوت عنها هي التشكيك في نقاء دم أولئك الإثيوبيين والحرص على عدم اختلاط دمائهم بدماء غيرهم من أبناء الجماعات اليهودية التي يُنظر إليها باعتبارها أكثر رقياً ونقاءً.
لم يتوقف سجل العنصرية الإسرائيلية ضد اليهود الإثيوبيين عند هذه الحادثة. وقد تدحرجت العنصرية الإسرائيلية مع مرور الوقت؛ ففي 12 كانون الأول/ديسمبر 2013، سُجلت فضيحة أخرى عندما رفضت مؤسسة صحية تابعة لوزارة الصحة الإسرائيلية يُطلق عليها "ماغن ديفد أدوم" تبرع نائبة في الكنيست من أصل إثيوبي بالدم.
وكانت النائبة بنينا تامانو شاتا قد تقدمت للتبرع بدمها عندما نظمت مؤسسة "نجمة داوود الحمراء" عملية تبرع داخل الكنيست، لكن المؤسسة أخبرتها بأنه، وفق تعليمات وزارة الصحة الإسرائيلية، لا يمكن قبول دم يهودي من أصل إثيوبي.
وبعد جدل، قالت المؤسسة إنهم على استعداد لتلقي دم النائبة، لكن سيتم تجميده، ولن يُستخدم. وعبرت النائبة عن غضبها إزاء هذه "الإساءة إلى جماعة بأسرها بسبب لون البشرة"، وقالت: "عمري 32 عاماً. وصلت في سن الثالثة إلى إسرائيل، ولدي طفلان. ليس هناك أي سبب لمعاملتي بهذه الطريقة".
رغم مرور 40 عاماً على جلب "إسرائيل" يهودَ إثيوبيا في حملة "موشيه" عام 1984 التي تم خلالها استقدام 8 آلاف يهودي إثيوبي إلى "إسرائيل"، وحملة "شلومو" عام 1991 التي تمت عبر قطار جوي شاركت فيه 34 طائرة أقلت 15 ألف مهاجر إثيوبي في غضون 35 ساعة، فإن سلطات الصحة الإسرائيلية تواصل رفض قبول تبرعات الدم من اليهود الإثيوبيين، بذريعة الخوف من فيروس الإيدز وأمراض أخرى يمكن أن يحملها دم هؤلاء.
وعندما أصدرت لجنة طبية إسرائيلية في نيسان/أبريل 2015 توصية بقبول تبرعات الدم من اليهود الإثيوبيين الذين ولدوا في "إسرائيل" أو الذين يعيشون فيها منذ 10 سنوات على الأقل، وليس من إثيوبيين هاجروا إليها أخيراً، حتى لو كانوا ممن خدموا ويخدمون في "الجيش" الإسرائيلي، ماطلت وزارة الصحة الإسرائيلية بتنفيذ توصيات اللجنة، ولم ينفذ القرار.
معوقات دمج اليهود الإثيوبيين في "المجتمع" الإسرائيلي
واجهت عملية دمج اليهود الإثيوبيين في "إسرائيل" تحديات في ظل معاناة هؤلاء مستويات عالية من البطالة والفقر، فضلاً عن التمييز العنصري. ويرى اليهود الإثيوبيون أن المؤسسة السياسية تمارس ضدهم موقفاً مشبوهاً، إلى جانب المؤسسة الدينية التي يتساءل أفرادها عن يهوديتهم.
ولا يتوقف اليهود الإثيوبيون عن اتهام الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بالتمييز ضدهم. وبينما يحصل يهود أوكرانيا على سجادة حمراء، ويهاجرون إلى "دولة" الاحتلال من دون قيود، لا يُسمح لليهود الإثيوبيين بالهجرة.
وحين يهاجرون، فإنهم يكتشفون المزيد من التمييز بين يهود ويهود، الأمر الذي يؤكد التفكك الاجتماعي الداخلي في "إسرائيل"، وارتفاع معدلات الانقسام والتباين، حتى بات المجتمع الإسرائيلي عبارة عن مجموعات عرقية وجغرافية متناقضة.
مأسسة العنصرية ضد اليهود الإثيوبيين
تعثر دمج اليهود الإثيوبيين في "إسرائيل"، ووصلت معاناتهم من العنصرية في تموز/يوليو 2019 إلى الانفجار، عندما تحولت التظاهرات التي استمرت أسابيع واندلعت احتجاجاً على مقتل الشاب من أصول إثيوبية سلومون تاكا برصاص ضابط إسرائيلي إلى مواجهات فضحت عمق الأزمة الاجتماعية والاقتصادية للجالية الإثيوبية التي تعاني التمييز والعنصرية الإسرائيلية.
معاناة اليهود الإثيوبيين في "إسرائيل" وثقتها بالأرقام صحيفة "معاريف" التي نشرت في 3 تشرين الأول/أكتوبر 2022 تقريراً بعنوان "غالبية اليهود الإثيوبيين يعانون العنصرية في إسرائيل".
وجاء في تقرير الصحيفة، نقلاً عن دراسة أعدها معهد "أونو" الإسرائيلي حول تفشي العنصرية في المجتمع اليهودي، لا سيما تجاه اليهود الإثيوبيين، أن 72% من الإثيوبيين تعرضوا لمواقف عنصرية، سواء كانت في المؤسسات التعليمية أو "الجيش". وقد شملت سياسة الإقصاء وعدم تقبل الشارع الإسرائيلي لهم في المؤسسات العامة.
وقالت الصحيفة إنّ "51% منهم تم تصنيفهم في أطر خاصة بهم فقط، ما يعني عزلهم وحرمانهم من الانخراط في المجتمع اليهودي"، وأشارت إلى أنّ 13% من الشباب الإثيوبيين اعترفوا بأنّ سياسات الإقصاء والعنصرية تسببت بتراجع مستواهم التعليمي، في ظل استخفاف الطاقم التعليمي بهم وبقدراتهم. وذكرت الصحيفة أن مجندة إثيوبية اعترفت بأنها فكرت في الانتحار بسبب معاناتها العنصرية داخل "الجيش".
فضيحة رحلة المدرسة السوداء
تمدد العنصرية الإسرائيلية تجاه اليهود الإثيوبيين لم يقتصر على المؤسسة السياسية الرسمية أو أروقة "الجيش" ووزارة الصحة، ولم يتوقف على أبواب المعابد اليهودية، بل تدحرج إلى المؤسسة التعليمية، ونال من الأطفال.
أحدث فضائح تلك العنصرية كشفتها الكاتبة الإسرائيلية من أصول إثيوبية عيناب ألفا، في مقال لها في صحيفة "معاريف" نُشر في 19 آذار/مارس 2023، قالت فيه: "كوني إسرائيلية من أصل إثيوبي ومعلمة، لم أكن أتصور أن تتحول رحلة سنوية عادية إلى مسرحية عنصرية، فالمعلمات في تلك الرحلة أنشأن مجموعة واتسآب تسمى "رحلة سنوية للسوداوات" جعلن فيها تلميذاتهن موضع سخرية وضحك في إطار رحلة الحافلة، من دون أن يجتهدن لمحاولة إخفاء أفعالهن".
وأضافت: "عندما سمعت للمرة الأولى عن هذه الحالة، كنت في بيتي الذي يقع في المدرسة الداخلية التي أعمل فيها. ذكرتني هذه الحالة بحالة أخرى عن معلمة في مدرسة أخرى روت لي أنها، قبل يوم من بدء الدراسة حين وصلت إلى المدرسة كي تعد الصف لمناسبة بدء السنة الدراسية، تلقت طلباً من معلمة جديدة في غرفة المعلمين التي قالت: هل يمكنك رجاءً أن تأتي بممسحة ومقشطة لأني سكبت القهوة هنا؟ لم تفهم أنني معلمة، وافترضت أني عاملة النظافة".
وكانت طالبة من أصل إثيوبي رصدت أحد المعلمين، وهي تقف خلفه، يتراسل مع زملائه عبر مجموعة "واتسآب" تحت اسم "رحلة المدرسة السوداء". وكانت الرحلة لطالبات في مدرسة دينية ثانوية تسمى "نتيفوت".
وكتبت الطالبة: "صباح الخير لكل التربويين في هذه المدرسة، يُحزنني، بصفتي عضواً في المجتمع الإثيوبي، أن أرى مستوى التدني الذي وصلتم إليه اليوم. بدلاً من تعليمنا بالقدوة وجعْلنا نشعر بأننا في المكان الأكثر أماناً، ها أنتم تفعلون العكس تماماً".
وفي إثر تلك الفضيحة، اكتفى وزير التعليم الإسرائيلي يوآف كيش بتقديم اعتذار إلى الطالبات، لكن المعلمات ما زلن في جهاز التعليم، وما زلن يرافقن التلميذات في الرحلات.
الخلاصة أن "إسرائيل" ماضية نحو حتفها، تقودها العنصرية المتفشية المتشحة بتطرف ديني يهودي يُشعل الحرائق في كل المرافق. وفي عين تلك العاصفة العنصرية، يقع اليهود الإثيوبيون. الديمقراطية المزعومة هي الوهم الأول، لأن العنصرية والديمقراطية نقيضان لا يلتقيان. أما الوهم الثاني، فهو وهم عودة "إسرائيل" إلى القارة الأفريقية، في وقت تمارس العنصرية بأبشع أشكالها ضد ما يزيد على 170 ألف أفريقي في "إسرائيل"، منهم 135500 إثيوبي.