جولة بلينكن... ضغوط على "إسرائيل" أم مساعٍ لكسب مزيد من الوقت
هل هناك تغير حقيقي في الموقف الأميركي تجاه "إسرائيل"، أم أن الأمر لا يتعدى "الضغط الكلامي"، الذي لن يغير شيئاً في أرض الواقع، الهدف منه خداع الناخب الأميركي وتخفيف حدة عدائه للرئيس بايدن، ليس أكثر.
-
بدء بلينكن جولته من السعودية يثير تساؤلات كثيرة.
جاءت الجولة السادسة لوزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن، والتي بدأت من الرياض مروراً بمصر، وانتهاءً بـ"إسرائيل"، لتسلط الضوء من جديد على الموقف الأميركي تجاه الحرب على غزة.
هذا الموقف لم يعد محط انتقاد دول العالم وشعوبها فقط، بل إنه أصبح أيضاً مرفوضاً حتى من الناخب الأميركي، والكونغرس الأميركي (في مجلسيه وعبر تعدد الانتماءات الحزبية لأعضائه).
وكان السؤال الأهم: هل هناك تغير حقيقي في الموقف الأميركي تجاه "إسرائيل"، أم أن الأمر لا يتعدى "الضغط الكلامي"، الذي لن يغير شيئاً في أرض الواقع، الهدف منه خداع الناخب الأميركي وتخفيف حدة عدائه للرئيس بايدن، ليس أكثر.
بدء بلينكن جولته من السعودية يثير تساؤلات كثيرة، بمعنى هل أراد بلينكن الحصول على موافقة المملكة على التطبيع مع الكيان الصهيوني والمضي فيما سمي "السلام الإبراهيمي"، في مقابل وقف الحرب في غزة، والتعهد الإسرائيلي بشأن المضي في مشروع "حل الدولتين"، وهو الشرط الذي كانت المملكة أعلنته سابقاً؛ بمعنى الحديث عن "الجزرة" التي ستحصل عليها "إسرائيل"، في ظل واقع يؤكد غياب "العصا"، وعدم مقدرة أحد على رفعها في وجه الكيان المغتصب، ورئيس حكومته الذي تلطخت يداه بدماء أطفال غزة.
حديث بلينكن في القاهرة عن مشروع قرار أميركي سيقدَّم في مجلس الأمن، يهدف إلى وقف الحرب، والمضي في صفقة تبادل الأسرى، عدّه البعض تحولاً ملحوظاً في الموقف الأميركي تجاه "إسرائيل"، وخصوصاً أنه ترافق مع رفض من جانب أعضاء الكونغرس (الجمهوريين والديمقراطيين) للاستماع إلى نتنياهو افتراضياً، حتى يتمكن من شرح وجهة نظره أمامهم.
مشروع القرار الأميركي لم يكن الأول، لكن المشاريع السابقة قوبلت بالرفض من جانب الدول الأعضاء، لأن تلك القرارات لم تكن تدعو إلى وقف كامل لإطلاق النار، وعودة الفلسطينيين إلى منازلهم (التي دُمِّرت بكل تأكيد).
وكما هو متوقع، كان مشروع القرار الأميركي غير ناضج، ومنحازاً إلى الكيان الصهيوني، ولا يخلو من العبارات الفلسفية غير الواضحة، والتي يحتمل تفسيرها عدة أوجه، لذا قوبل بالفيتو من كل من روسيا والصين، والرفض من الجزائر، بصفتها الممثلة للمجموعة العربية في مجلس الأمن.
حكومة الحرب الإسرائيلية، من جهتها، استبقت وصول الوزير بلينكن بإعلان قرار يهدف إلى ضم مزيد من الأراضي في منطقة غور الأردن، وهي منطقة متاخمة للحدود الأردنية، وتشكل السلة الغذائية للضفة الغربية والمواطن الفلسطيني.
وهي خطة كان نتنياهو وضعها في عام 2019، بحيث أعلن أنه يرغب في ضم غور الأردن كاملاً إلى "إسرائيل". وهو تحدٍّ واضح لواشنطن التي تطالب “تل أبيب” بوقف الحرب، وقبول “حل الدولتين”.
الهدف من القرار هو التأكيد الإسرائيلي لرفض قرار وقف الحرب في غزة، والاستمرار في عملية رفح كونها ضرورة لتحقيق الأمن القومي لـ"إسرائيل"، على حد زعمهم، وتحقيق مزيد من الضغط والابتزاز لكل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بسبب فرضهما عقوبات على أشخاص إسرائيليين (حتى ولو كانت تلك العقوبات شكلية).
عملية رفح قادمة على رغم التحذيرات الأميركية
رفح الفلسطينية هي جزء من قطاع غزة، لا تتجاوز مساحتها 55 كم2، وربما تضم أكبر كثافة سكانية في العالم، بحيث لجأ إليها ما يقارب مليون ونصف مليون فلسطيني، بعد تدمير منازلهم وتعرضهم للقصف في شمالي غزة.
وهذا الأمر يعني أن العملية الإسرائيلية المتوقعة سوف تتسبب بمزيد من المجازر، وربما أخطرها منذ طوفان الأقصى.
كما أنها تضع مصر في "موقف لا تُحسَد عليه"، بحيث ستلجأ الحكومة المصرية إلى منع خروج الفلسطينيين من القطاع إلى مصر.
وهنا، لا بد من الإشارة إلى هذا الموقف والإشادة به. فالهدف منه منع تهجير الفلسطينيين وليس رفض مصر تقديم يد المساعدة إليهم، وخصوصاً أنها احتضنت ملايين اللاجئين السوريين والليبيين والسودانيين.
"إسرائيل"، بعد فشلها في تحقيق أهدافها التي وضعتها، باتت مقتنعة بأنه لا بد من استكمال عمليتها العسكرية في رفح، آملةً الوصول إلى مبتغاها، وهو التخلص من حركة حماس.
وهذا ما أبلغه نتنياهو إلى بلينكن، على رغم التحذيرات الأميركية لـ"إسرائيل"، والتي بات من الواضح أنها لم تكن سوى "تحذيرات كلامية" ضعيفة. وبالتالي، لا يمكن التعويل عليها لتحقيق وقف متوقع لإطلاق النار في غزة.
حديث بلينكن عن "إنهاء المأساة الإنسانية" لا يتعدى كونه تكراراً لعبارات رددتها الإدارة الأميركية منذ بدء الحرب.
التحول من المواقف الكلامية إلى أفعال يبدو أنه أمر غير وارد وغير متوقع من إدارة بايدن، المستمرة في تقديم الدعم إلى "إسرائيل"، عسكرياً وسياسياً، رغم كل الانتقادات الداخلية والدولية.
رفض أعضاء الكونغرس (الجمهوريين والديمقراطيين) طلب نتنياهو الحديث أمامهم "افتراضياً" يعبّر عن إدراكهم حجم الضرر الذي باتت تسببه "إسرائيل" للولايات المتحدة.
نعم، ربما أصبحت هناك قناعة لدى إدارة بايدن بأن الحرب على غزة باتت تضر بمصالح الولايات المتحدة، وبالمستقبل الانتخابي للرئيس ذاته، لكن ذلك لا يعني أنها قادرة على فرض قرار وقف الحرب على نتنياهو.
ومن غير المتوقع إعلان وقف امداد "إسرائيل" بالأسلحة، أو إعادة تقويم للعلاقات بين الطرفين، كما حدث عدة مرات خلال الأزمات التي حدثت بينهما.
بايدن رئيس ضعيف، وهو مؤمن بضرورة دعم "إسرائيل"، وحتمية القضاء على حماس، لكنه يعتقد أن الطريقة خاطئة، وهذه نقطة الخلاف بينه وبين نتنياهو.
هل بات الكيان الصهيوني معزولاً؟
"إسرائيل وحدها"، عبارة جاءت في غلاف مجلة "ذي إيكونوميست" البريطانية، تسببت بقلق كبير داخل الكيان، كونها جاءت من الدولة الأكثر دهاءً في السياسة على مر التاريخ. كيف لا وهي من كانت السبب في قيام هذا الكيان المغتصب في أرض فلسطين العربية.
الأمر لم يعد مجرد "عزلة سياسية"، بل باتت هناك "قطيعة نفسية" لدى كثيرين من شعوب العالم إزاء هذا الكيان، بعد أن شاهدوا ما ارتكبه من مجازر مروِّعة بحق المدنيين في غزة.
"دور الضحية"، الذي استطاعت "إسرائيل" تمثيله طوال العقود الماضية، بات مشكوكاً فيه، وخصوصاً أنها اليوم أبدعت في أداء "دور الجلّاد،" الذي لا يضع قيمة لأيّ معايير دينية أو أخلاقية أو قانونية.
التمييز بين "المستوطنين" والمواطنين لم تكن فكرة واضحة لدى الرأي العام العالمي، إلى أن جاء "طوفان الأقصى"، فأعاد الاعتبار إلى القضية الفلسطينية كونها "صراعاً قانونياً"، بين شعب احتُلت أرضه وسرقت ممتلكاته، ومستوطنين جاءوا من مختلف مشارب الأرض واستولوا عليها.
استولوا عليها عبر مزاعم دينية لا تمت إلى الحقيقة بصلة، ونجحوا في إقناع العالم بـ "الطبيعة الدينية للصراع"، بينما هو في الواقع ليس سوى احتلال كغيره من الاحتلالات.
احتلال لا يستطيع العقل الجمعي في "إسرائيل" مقارنته بغيره من الاحتلالات، هرباً من الدروس التاريخية التي تقول لنا إن "كل احتلال مصيره إلى زوال، وما من احتلال استطاع أن يبقى ويستمر".
صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية وصفت ما ورد في غلاف المجلة البريطانية بـ "المخيف"، بمعنى أنه يذكر الإسرائيليين بتاريخهم الطويل، بحيث كانوا "طائفة غير مرغوب فيها"، من جانب المجتمعات التي عاشوا فيها، وخصوصاً المجتمعات الأوروبية التي مارست بحقهم "أبشع الجرائم"، وفقاً للروايات الصهيونية ذاتها.
ومن المفيد ربما التذكير دوماً بأن الحماسة الأميركي الأوروبية للصهاينة لم تكن بدافع الحب لهم، بل من أجل الرغبة في التخلص منهم، نتيجة ما تسببوا به من مشكلات في المجتمعات التي عاشوا فيها.
غزة ما بعد الحرب.. اليوم التالي
الحديث الأميركي عن غزة ما بعد الحرب، أو ما يسميه الأميركيون أحياناً "اليوم التالي" لوقف الحرب، ليس سوى هروب من الواقع.
الحديث عن ضرورة "إصلاح السلطة الفلسطينية" هو ذر للرماد في العيون، ويذكرنا بما حدث سابقاً، حين افترضوا أن المشكلة تكمن في الرئيس عرفات ذاته، فقاموا بقتله وإبداله بالرئيس محمود عباس، لكن ذلك لم يغير شيئاً.
المطالبة بحل الحكومة الفلسطينية وتشكيل "حكومة تكنوقراط"، لا معنى لها، فالحكومة السابقة كانت حكومة تكنوقراط، وليس هناك أي ملاحظات على عملها.
أمّا الحديث عن التغيير بذريعة مكافحة الفساد، فالأَولى به نتنياهو وحكومته، وكذلك الرئيس بايدن وابنه هانتر، وهم الذين بات فسادهم معلناً، وأعلنت المحاكم في الولايات المتحدة و"إسرائيل" ذلك بكل صراحة.
يبدو أن نتنياهو مستمر في حربه، وليس هناك من يستطيع لجمه، وهو ما يجعل احتمال توسع نطاق الحرب الأكثر ترجيحاً، وخصوصاً أن نتنياهو بات يعوّل على نجاح ترامب في الانتخابات المقبلة، وهو ما جعله ينقلب على بايدن.
استمرار الحرب يعني أمرين لا ثالث لهما: إما القضاء على حركة حماس وكسر محور المقاومة، وإما انتصار المقاومة، والذي سيتوَّج بإعلان قيام الدولة الفلسطينية، بغض النظر عن شكل تلك الدولة وفعاليتها.
كما أنه يعني انشغال الولايات المتحدة عن هدفها المعلن (مواجهة الصين)، وخصوصاً أنها لن تجد من يشاركها ويتحالف معها من أجل تحقيق هذا الهدف.
تطورات المشهد الدولي تنبئ بالاقتراب أكثر من الحرب العالمية الثالثة، وما الحرب في أوكرانيا إلا أولى شراراتها.
تجزئة المشهد تُفقدنا كثيراً من الحقائق، وتجعلنا نخطئ في التحليل والتوقع، وخصوصاً أن العالم بات اليوم أكثر تداخلاً، ولم يعد المسرح الدولي سوى رقعة شطرنج، يقوم الملك فيها بالتضحية بأعوانه ومقربيه، آملاً البقاء في قمة الهرم الدولي، ليس أكثر.