شتاء قارس في تونس: أزمات اقتصادية وانتخابات تشريعية مقبلة
يشكّك مراقبون للشأن التونسي في قدرة الدولة على إيجاد حلول للأزمة الاقتصادية التي تعانيها البلاد، ويرون أن الوعود الحكومية ما هي إلا محاولات لتهدئة الرأي العام وإطالة أمد الأزمة.
-
شتاء قارس في تونس: أزمات اقتصادية وانتخابات تشريعية مقبلة
لا تتباين الأحوال الاقتصادية الصعبة، التي يعاني من جرائها التونسيون، عن الأحوال في أي بلد عربي غير نفطي.
فكلّ تلك البلدان تعاني مؤخراً انهياراً سريعاً ومفاجئاً لعملاتها المحلية أمام العملات الأجنبية، كما ترتفع فيها أسعار السلع والمواد الغذائية بطريقة تتسبب بإرباك الأُسر المتوسطة الدخل من جانب، وأنين الطبقات المحدودة الدخل وصراخها من جانب آخر.
لكنّ المغاير في تونس عن أي قُطر عربي آخر هو الحضور الملحوظ لعدد من الهيئات السياسية والمنظمات النقابية، والتي ترفع شعارات العدالة الاجتماعية، وتحاول جاهدة كبح جماح مخططات رفع الدعم ومقاومة سياسات الإصلاح الاقتصادي، والتي تستهدف تكييف الاقتصاد بدرجة أكبر مع وصايا صندوق النقد الدولي.
هذا الأمر هو ما يرفع حالياً معدَّل التوقعات بشأن حدوث احتجاجات قد تهزّ أرجاء العاصمة والمدن الرئيسة، وذلك بعد تعثّر الحوار بين السلطات والاتحاد العام التونسي للشغل، أكبر منظمة نقابية في البلاد، على خلفية تراجع القدرة الشرائية وتدهور الوضع المعيشي، واللذين لا بدّ من أنهما سينعكسان على الانتخابات التشريعية المقبلة في البلاد في 17 كانون الأول/ديسمبر الجاري. وربما ساهم خروج منتخب تونس من منافسات كأس العالم في دفع المواطن التونسي إلى الاحتكاك بدرجة أكبر مع واقعه، والتفاعل الإيجابي مع الأحداث السياسية الجارية في نطاقه.
فمع نهاية شهر تشرين الثاني/نوفمبر ودخول سنة 2022 شهرها الأخير، كان أعضاء الاتحاد العام للشغل هبطوا بالفعل إلى الشارع محاطين بأنصارهم من المواطنين العاديين في أكثر من مناسبة للتنديد بالأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعيشها البلاد، مُتهمين حكومة نجلاء بودن بغياب الرؤية، وتكرار سياسات الحكومات السابقة، مؤكدين أن سلطات البلاد ضلّلت جميع فئات الشعب، عبر رفعها التدريجي للدعم بعد اتفاق رفع الأجور، مشكّكين في جدوى الانتخابات التشريعية المقبلة.
على الصعيد الرسمي، وفي اجتماع رئيس الجمهورية قيس سعيد برئيسة الحكومة، وكمحاولة لامتصاص الغضب المتصاعد في الشارع، أكد سعيد تمسكه بالدور الاجتماعي للدولة ودعم المواد والسلع الأساسية، مؤكداً أن "العدالة الاجتماعية أساس الاستقرار الذي ينشده الجميع، والذي لا يمكن أن يتحقق إلّا في ظل توزيع عادل للثروات والقضاء على الفساد المستشري في مؤسسات متعدّدة".
ودعا رئيس الجمهورية أيضاً إلى ضرورة العمل المستمر على خفض الأسعار، متهماً بعض الجهات بالسعي لتعطيش السوق التونسية، لأن "لديها مآرب تتعارض مع المطالب المشروعة للشعب التونسي في العمل والحرية والكرامة".
فرص نجاح الدولة في تنفيذ وعودها
يشكك مراقبون للشأن التونسي في قدرة الدولة على إيجاد حلول للأزمة الاقتصادية التي تعانيها البلاد، ويرون أن الوعود الحكومية وخطابات الرئيس قيس سعيد ما هي إلّا محاولات لتهدئة الرأي العام وإطالة أمد الأزمة، وأن الإحساس بمدى خطورة الأوضاع الاقتصادية لم يعد مقتصراً على الفئات الدنيا، بل أصبح يطال جميع فئات المجتمع.
فوفقاً لدراسة أعدها مكتب منظمة "فريدريش أيبرت" في تونس، منتصف العام الجاري، فإن تكلفة المعيشة شهريا لزوجين تساوي نحو 2200 دينار، بينما يساوي الحد الأدنى للأجور نحو 450 ديناراً فقط؛ وهو ما يعادل نحو 150 يورو، علماً بأن العملة التونسية تراجعت أمام الدولار الأميركي بصورة لافتة في الأعوام الماضية، بحيث تجاوز سعر صرف الدولار الأميركي عتبة 3.23 دنانير تونسية في سوق التعاملات البنكية، وهو أكبر ارتفاع عرفته العملة التونسية في تاريخها، علماً بأنه في مطلع عام 2011 كان سعر صرف الدولار هو 1.26 دينار.
وكان تقرير لـ"مجموعة الأزمات الدولية"، في مطلع العام الجاري، تحدّث عن صعوبات حقيقية تواجه موازنة تونس، الأمر الذي يجعل الحكومة قادرة بصعوبة على دفع رواتب الموظفين وسداد ديونها الخارجية، في وقت يسعى الشبان التونسيون للهجرة إلى أوروبا طلباً للرزق وسعياً لتحسين مستوى حياتهم.
الأزمة الكبرى التي تواجه الحكومة التونسية هي أنها صارت ملتزمة برنامج صندوق النقد الدولي، الأمر الذي يعني مزيداً من التعويم للدينار، مع خفض للدعم، على نحو يترتّب عليه ارتفاع في أسعار السلع الغذائية والمواد البترولية والفواتير المنزلية، بالإضافة إلى احتمال تسريح عدد من الموظفين الحكوميين، وخصوصاً أن الحكومات المتعاقبة في تونس، منذ إزاحة زين العابدين بن علي، عملت على توظيف أعداد كبيرة من العاطلين من العمل في القطاعات التي تملكها الدولة، الأمر الذي أدى إلى تضاعف حجم الموظفين نحوَ ثلاث مرات خلال عشرة أعوام، ليصل إلى 650 ألف موظف، وهو من أعلى المستويات في العالم، بحسب تقارير الهيئات التابعة للصندوق.
وكانت الحكومات التونسية دوماً تتهرّب من "السياسات الإصلاحية" التي تفرضها هيئات المال الدولية، بسبب إدراكها الآثار السلبية المترتبة عليها، إلّا أن السلطات اليوم تجد نفسها ملزمة بتلك الحزمة من السياسات بسبب عجز الموازنة الذي بلغ أكثر من 3 مليارات دولار، وحاجة البلاد إلى الاقتراض، بالإضافة إلى سعيها لاجتذاب الاستثمار الأجنبي، في ظل تراجع صادرات البلاد وعجز الرأسمالية المحلية عن القيام بمهماتها.
الاحتجاجات قادمة؟
بحسب آراء قطاع من الناشطين التونسيين في مواقع التواصل، فإن مسارات الحل والحوار في البلاد متجهة نحو الانسداد، وإن ارتفاع الأسعار يجعل أغلبية المواطنين تشعرن بعدم الأمان والتهديد، وإن الأزمة آخذة في التفاقم مع ازدياد الحاجة إلى مواجهة أعباء الشتاء، وخصوصاً ما يتعلق منها بالطاقة، الأمر الذي يجعل الأمور مرشحة للاشتعال من جديد على شاكلة الأوضاع في عام 2010، حين أحرق محمد بو عزيزي جسده، فاشتعل الوطن كله على إثر ذلك، لكن الاحتجاجات المقبلة لن يكون عنوانها الأكبر إزاحة رئيس أو حكومة، بل تحسين الأوضاع المعيشية وإعطاء الأولوية للجانبين الاقتصادي والاجتماعي، على حساب الجانب السياسي.
ومن المتوقع، بحسب التقارير الإخبارية التونسية، أن يكون للاتحاد العام التونسي للشغل، والذي حاز مع 3 منظمات أخرى جائزة نوبل للسلام عام 2015، دور كبير في الفترة المقبلة، وخصوصاً أنه أكبر منظمة في البلاد قادرة على تنفيذ الاحتجاجات والإضرابات، وهو الجهة التي تخوض الحوار مع الحكومة سعياً منها للمحافظة على الحد الأدنى من الحياة الكريمة للمواطنين، بحسب تصريح قادة الاتحاد.
على صعيد آخر، تنتشر دعوات في مواقع التواصل وفي بعض وسائل الإعلام، تطالب التونسيين بالصبر وتحاشي "المغامرة السياسية". ويقود تلك الدعوات عدد من الخبراء الاقتصاديين، من ذوي التوجهات الليبرالية على المستوى الاقتصادي، بحيث يرون أن مستقبل تونس هو في تحرير الاقتصاد بصورة كاملة، وبيع شركات القطاع العام "المفلسة"، والتوقف عما سموّه "الموروث الاشتراكي"، وتسريح موظفي الحكومة الذين يتقاضون رواتب منتظمة من دون إنتاج، والتخلي عن سياسات الدعم التي أدّت إلى زيادة أعداد الكسالى والاتكاليين، بحسب قولهم.
ويرى أصحاب هذا التوجه، المؤيد للإجراءات الحكومية، أن الاحتجاجات ربما تحدث، لكنها لن تتجاوز السقف المستمر منذ مدة، بحيث إن الدعم تم رفعه عملياً منذ شهور، واستطاع التونسيون التكيّف مع ذلك بالفعل. وإن الأمور في البلاد ستتجه نحو الأفضل خلال العام المقبل، مع ظهور بوادر تمويل جديدة من الجزائر وليبيا وفرنسا، مع القسط المتفق عليه من قرض صندوق النقد.
اقتراب الانتخابات التشريعية
تستعدّ تونس لتنظيم انتخابات تشريعية سابقة لأوانها في الـ17 من الشهر الحالي، بحيث يُنتظر أن يتم التنافس على 154 دائرة انتخابية في تونس من أصل 161 دائرة، وهي الانتخابات التشريعية الخامسة عشرة في تاريخ البلاد والرابعة منذ الثورة. ومن المؤكد أن الأوضاع الاقتصادية والسياسية العامة ستؤثر في التعاطي الجماهيري المفترض مع هذا الحدث، ومن المتوقع أن يأخذ ثلاثة أشكال:
الأول، العزوف الجماهيري عن المشاركة، بسبب إحساس المواطنين بانتفاء الرابط بين المسار البرلماني وتحسين أحوالهم المعيشية، وزيادة الشعور العام بالإحباط بسبب صعوبة الوصول إلى حل جذري يُحسّن أحوال البلاد الاقتصادية، بعد مرور أكثر من عقد على "ثورة الياسمين"، التي نادت بالديمقراطية وفتح المجال العام للعمل الحزبي.
الثاني، عقاب شعبي للإدارة التونسية الحالية عبر الانحياز إلى موقف معارضيها المقاطع للانتخابات. وكانت خمسة أحزاب سياسية دعت بالفعل إلى عدم المشاركة في الانتخابات، بسبب الأزمة المُندلعة في البلاد، منذ تموز/يوليو 2021، حين قام الرئيس التونسي بإقالة حكومة هشام المشيشي وتجميد عمل البرلمان، في تحدٍّ واضح لحركة النهضة. وتم تبرير قرارات الرئيس حينها بأنها محاولة لعلاج الأوضاع الاقتصادية والصحية المتدهورة، وبأنها جاءت تلبية لمطالب المحتجّين ضد حركة النهضة، التي تمثل التيار الإسلامي في البلاد، وتسيطر على البرلمان والحكومة. وكان رئيس حركة النهضة ورئيس البرلمان المنحل راشد الغنوشي مثل أمام جهات التحقيق خلال الشهر الماضي في قضية تبييض أموال.
الثالث، الإقبال على الانتخابات بمعدلات متوسطة، أملاً في تحسّن الأحوال، أو من أجل تفويت الفرصة على خصوم قيس سعيد، علماً بأن نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية لعام 2019 بلغت 41.3 في المئة، وهو رقم يكشف بدوره أن المساهمة الجماهيرية في الانتخابات التونسية، بصورة عامة، لا تتسم بأرقام مرتفعة.
وكان الاتحاد العام التونسي للشغل عبّر عن موقفه الرافض للانتخابات التشريعية في وقت تتفاقم معاناة المواطنين، مؤكداً أن الانتخابات "لا لون ولا طعم لها"، و"أن الوقت حان لتعديل حكومي ينقذ ما تبقّى".