مأزق غربي في أزمتين

خسارة واحدة في أزمتين يمكن أن تدفع الغرب إلى دينامية التفكك، خصوصاً مع اقتراب ترامب، فكيف إذا كان احتمال الخسارة يلوح في كلتيهما؟

  • خسارة واحدة في أزمتين يمكن أن تدفع الغرب إلى دينامية التفكك.
    خسارة واحدة في أزمتين يمكن أن تدفع الغرب إلى دينامية التفكك.

في موازاة المأزق الذي تواجهه السياسة الأميركية في دعمها "إسرائيل" في حرب الإبادة التي تشنها على الفلسطينيين، وعدم قدرتها على التحكم في مسار الأحداث هناك، وتمرد بنيامين نتنياهو على مصالحها وضوابطها وتفضيل مصلحته السياسية، تواجه واشنطن أزمة أخرى شديدة الدقة في أوكرانيا.

لا تستطيع واشنطن السيطرة على اتجاه الأحداث في الأزمتين، وهي مطالبة بأدوارٍ فيهما تفوق قدرتها الحالية على الموازنة بينها وبين الظروف الداخلية التي تعيشها، مع اقتراب الانتخابات الرئاسية في الخريف المقبل، وما يصاحبها من تناحر داخلي وصل حد التلويح باستخدام القوة بين مناصري الحزبين لفرض خياراتهما على الطرف الآخر، ونزعة تمرد متنامية في الولايات التي تشعر بأنها قادرة على العيش من دون الإدارة الفيدرالية أو بأقل قدر ممكن من سلطتها، ولا سيما في تكساس المنتفضة على الرئيس جو بايدن من باب اتهامها له بالتساهل، حد التآمر، في استقبال المهاجرين عبر الحدود.

وإن كانت المحاولات الأميركية بشأن الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين تختزن قدراً وافراً من التناقض والريبة، فإن دور واشنطن في أوكرانيا بات متردداً أمام خوف أوروبي متصاعد من ترك القارة العجوز وحيدةً في مواجهة روسيا منتصرة أو على أبواب الانتصار.

في أوكرانيا، تقف الجبهات على حافة التدحرج الدراماتيكي، وتدرك القوى الغربية المصطفة خلف كييف هذا الواقع الذي اختزنته دعوة البابا فرنسيس الأوكرانيين إلى جرأة رفع الراية البيضاء وطلب السلام من خلال مفاوضاتٍ مع روسيا. الدعوة جلبت سيلاً من دود الفعل الغاضبة، بدءاً من كييف، ووصولاً إلى المسؤولين وقادة الرأي والصحف في الدول الغربية، وصلت في صحيفة "ليزيكو" (الأصداء) الفرنسية إلى التساؤل: "يوحنا بولس الثاني، أين أنت؟".

يتساءل الكاتب دومينيك موازي في هذا المقال عن موقف البابا فرنسيس حيال الحرب في أوكرانيا ودعوتِه كييف إلى رفع الراية البيضاء. ويتساءل: هل هو فَقرٌ لاهوتيٌ أم فقرٌ استراتيجي؟ ويتهمه بأنه غير قادرٍ على فهم أن "رفعَ الراية البيضاء" يعني "الاعتراف بالهزيمة وقَبول انتصار القوة على الحق".

يتهم الكاتب البابا أيضاً بإظهار قدر كبير من التفَهُّم تجاه فلاديمير بوتين وروسيا، بعدما أظهرَ استياءَه من أميركا، ووَصَف أوروبا بأنها "متعبةٌ وكبيرةٌ في السن، وعقيمةٌ، وتَفتقِر إلى الحيوية". لم يكتفِ بهذه الاتهامات، بل تساءل إن كان أول بابا من أميركا اللاتينية يعكس سلوكه مشاعر الجنوب العالمي المليءِ بالاستياء من الغرب بشكلٍ عام، والولايات المتحدة بشكلٍ خاص؟

ويطالب بما يقول إنه موقف مشابه لموقف البابا يوحنا بولس الثاني، الذي أدى دورًا حاسمًا في انهيار الاتحاد السوفياتي السابق.

 ومن داخل هذا المناخ نفسه، ارتفعت الأصوات الخائفة في أوروبا، ورفعت معها عبارة أصبحت النغمة السائدة عند النخب الأوروبية المؤيدة للمزيد من التوغل في الأزمة الأوكرانية، وهي أن "روسيا لن تتوقف في أوكرانيا". بعضهم يعطيها معنى دعائياً أكثر بالقول إن "بوتين لن يتوقف في أوروبا"، في استعادة لأسلوب الدعاية الغربية المتعارف القائم على شيطنة قادة الدول المناهضة للهيمنة الغربية.

درجت هذه العبارة بصورةٍ واسعة في عموم الغرب، وهي مفيدة في سياق التخويف من روسيا التي يقولون إنها غزت أوكرانيا لأنها ترغب في استعادة إمبراطوريتها القديمة، فيما يقول بعضهم إن الأحداث الجارية هي تعبير عن أحلام بوتين التوسعية، لكن في كلتا الحالتين ينسى القائلون إن الحرب الحالية في أوكرانيا كانت لحظة انفجار مسارٍ عمره على الأقل 35 عاماً من التوسع المستمر لحلف شمال الأطلسي باتجاه الحدود الروسي وحولها.

الأمر مشابه تماماً للمحاكمات الغربية العرفية المباشرة في يوم السابع من أكتوبر 2023، حين توحدت الأصوات وبحت حناجر المسؤولين الغربيين بالمناداة بفداحة فعل حركة حماس وهجومها على "المدنيين" والدعاية الكاذبة التي روجها المسؤولون قبل العامة ووسائل الإعلام حول ارتكاب جرائم اغتصاب وحرق أطفال… والتي أثبتت فيما بعد اعترافات الصحافة الإسرائيلية بنفسها، ثم الصحافة الغربية، ثم بعض المسؤولين الإسرائيليين، وصولاً إلى المسؤولين الغربيين، كذبها، وأنها استخدمت لتزخيم الغضب على الفلسطينيين، ومن أجل تسهيل مهمة الجيش الإسرائيلي في إبادتهم من دون أن يتعاطف معهم أحد.

وجه التشابه كبير بين نسيان توسع "الناتو" ومحاولته حصار روسيا وخنقها واللعب داخل مجتمعها في القيم والترويج الثقافي والاختراق الاقتصادي… وبين نسيان واقع الاحتلال والإحلال في أرض الغير لمدة 75 عاماً سبقت السابع من أكتوبر وأحداثه.

الآن، خرج الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ليطلق صرخات الفزع من انتصار روسيا، والقول إن انتصارها سيكون كارثةً على أوروبا، ومثله فعل رئيس وزرائه المدلل غابريال آتال الذي فصّل انعكاسات الانتصار الروسي على قياس اهتمامات المواطنين الفرنسيين المعروفين بحرصهم الشديد على أموالهم بأن هذا الانتصار سوف يؤثر بشكل سلبي حاد في مستوى معيشة الفرنسيين واقتصادهم.

ودعوا إلى ضرورة إرسال جنود من حلف شمال الأطلسي إلى أوكرانيا، محاولين اختبار النبض الروسي حيال هذه الفكرة، فهل موسكو مستعدة لتقبل هذه الخطوة من دون رد فعلٍ صاعقٍ، الأمر الدي يجعل من ماكرون البطل الذي حمى أوكرانيا من الانهيار أم أن بوتين لن يتهاون مع ذلك، وسيحدد قوانين اللعبة والخط الأحمر المسموح به لألعاب ماكرون الانتخابية والسياسية؟

وفي انتظار الإجابة التي لم تتأخر كثيراً، كتب شارل ميشال، رئيس المجلس الأوروبي، مقالاً في صحيفة "ليبيراسيون" الفرنسية، دعا فيه الأوروبيين إلى تفعيل "اقتصاد الحرب" والاستعداد لزيادة الجهود الحربية وإرسال المزيد من الأسلحة إلى أوكرانيا.

‏وقال إن على الدول الأوروبية زيادة نسبة الإنفاق الدفاعي في الموازنات العامة، التي تبلغ نحو 2%، لمحاولة موازاة ذلك مع نسبة الـ6% في روسيا.

يقول الكثير من المسؤولين الأوروبيين الخائفين اليوم ما قاله شارل ميشال في مقاله، من أن الأمن الأوروبي لا يمكن أن تحدده مزاجية الرؤساء الأميركيين والهزات التي باتت تصاحب المحطات الانتخابية الأميركية، ويتخوف هؤلاء من أن تتركهم أميركا وحدهم في مواجهة روسيا، بعدما ورطتهم بقطع شرايين الحياة التي كانت تغذي اقتصاداتهم بمصادر الطاقة الروسية الرخيصة، والتي كانت تفتح للاقتصادات الأوروبية الفرص أكثر مما كانت توفر الطاقة.

الرفاه الأوروبي ينحدر بسرعة منذ اللحظة التي تم فيها تفجير خطوط "نورد ستريم". الأوروبيون منقسمون بين مضلَّلين وممسوكين وفاقدين للقدرة وقلة واعية.

هذه القلة تدرك أن فخاً شيطانياً رسم لهم حين تم تصوير العلاقات المتنامية مع روسيا على أنها ضد مصلحتهم، إذ لا يمكن لفضاء الأمن الأوروبي أن يستقر من دون روسيا، بل وللدقة، من دون التعاون بين روسيا وأوروبا الغربية، لكن إذا حدث ذلك، كيف ستدير أميركا قارةً بهذا الحجم والإمكانات؟ حاولت ميركل تجاهل ذلك والتصرف كأنها لا تدرك الخطوط الحمر الأميركية. وعند أول فرصة ابتعدت، وجاء أولاف شولتس، واختفى "نورد ستريم".

‏أما الجواب الروسي على الاختبار الأوروبي وجس النبض الفرنسي، فقد جاء جاداً أكثر من أي وقتٍ مضى، وتحدث فيه الرئيس الروسي بوتين ونائب أمين مجلس الأمن القومي ديمتري ميدفيديف، ثم تلت ذلك مواقف عديدة من مسؤولين روس تؤكد أن الجنود الفرنسيين أو الأطلسيين الذين سوف يرسلون إلى أوكرانيا لن يعودوا أحياء. وبموازاة هذا الموقف الصارم، كانت الطائرات الروسية بعد ساعات تصب نيرانها على ما قال الروس إنها مقار تدار منها الاستهدافات للأراضي الروسية، وبمشاركة من الناتو.

‏في ظل هذه الأجواء، كانت نتائج الانتخابات الروسية صاعقة للقادة الغربيين الذين لم يستطيعوا تقبل فوز بوتين بولايةٍ خامسة وتربعه على عرش استقرارٍ سياسي مثالي لزعيم يقود حرباً خارجية.

وبدلاً من أن تخرج أصوات حكيمة في الغرب لمحاولة وقف شلال الدماء الأوكراني من خلال مفاوضات مع روسيا، ها هي الأصوات تدعو إلى الذهاب أبعد في القتال، في حربٍ قالت كلمتها في حدود الحرب التقليدية، فما الذي يمكن أن يكون مطلوباً أكثر؟

أن يتم القضاء على ما تبقى من الرجال الأوكرانيين أم الدفع بالشبان الأوروبيين إلى أتون المعركة، وهم الذين باتت نسب ولاداتهم في أدنى مستوى لها، وباتت اقتصادات بلادهم مفتقرة إلى قوة العمل المطلوبة لدوام مستويات الحياة فيها، خصوصاً أن غوص الأوروبيين بأنفسهم في وحل أوكرانيا لن يجذب الأميركيين معهم، بل سيتكرر ما جرى في الحربين العالميتين؟ تقف أميركا على تل الحرب، تناظر المتحاربين، تتدخل في اللحظات الأخيرة، معلنة انتصارها وقيادتها للعالم المتبقي.

‏روسيا من ناحيتها تجد نفسها مضطرة إلى عدم التراجع، فالسماح بتنفيذ الخطوة الفرنسية يعني القبول بتدخل عسكري مباشر من الناتو في أوكرانيا، وبالتالي المخاطرة بخسارة الحرب، إذا بقيت تقليدية. لذلك، يتوقع أن تجعل من أول دولة أطلسية تدخل أوكرانيا عبرةً للآخرين، حتى لو أجبرها ذلك على استخدام أجزاء من قدراتها غير التقليدية أو غير المكشوف عنها الآن.

‏كل ذلك يجعل الخيارات الغربية صعبة، لكن خسارة واحدة في أزمتين يمكن أن تدفع الغرب إلى دينامية التفكك، خصوصاً مع اقتراب ترامب، فكيف إذا كان احتمال الخسارة يلوح في كلتيهما؟

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.